alexametrics
آراء

شاهدة على العصر

مدّة القراءة : 5 دقيقة
شاهدة على العصر

 

حالنا في تونس وفي بقية الدول العربية هي شبيهة بقصّة الصرصار والنملة.. ومن منّا لم يشغف بها وهو صغير؟ لكن، حذار فصرصار القرن الواحد والعشرين ونملة القرن الواحد العشرين قد كبرا في السنّ وتغيّرت أنماط تفكيرهما. وغابت تلك الصورة البريئة لبطلينا ليتغير معهما جنس الحكاية فصارت " لعبة الصرصار والنملة" ، وإذا بالحكاية غريبة عنّا وإذا بالسكينة خوف وحيرة :

  • فالصرصار في تونس اليوم يا سادتي هو غير صرصار طفولتنا، اكتسب من المكر ما شاء الله ومن الخديعة ما لا يتصوّره فكر، ولم نعد نحصره في صورة واحدة بل تشكّل في صور كثيرة، وكلّ ذلك بحثا عن خديعة يوقع فيها النملة الكادحة.. فأنتم ترونه في صورة الأحزاب معارضة كانت أو في الحكم .. وهو مرتكن في صورة بعض الشخصيات من المجتمع المدني قيل إنّ لها من الخبرة والمهارة ما يؤهّلها لأن تكون حاضرة و مسايرة لحركة المجتمع.. الصرصار في تونس وإن احتفظ بنرجسيته فهو أكثر دهاء، وأمكنه أن يخفي فشله بأنماط جديدة مثل التمويه ، أو الاحتماء بذريعة التحالف، وخاصّة امتلك القدرة على أن يستغلّ الأحداث لصالحه ، ولم لا أن يحوّل انتباه النملة...
  • و النملة في تونس اليوم لم تعد واحدة ، فأنت تجد النملة " الصادقة " التي تعاني الجوع والمشاكل التي تعوقها عن العمل وتوفير الزاد، وهذه هي الفريسة التي ظلّ صراصيرنا يترصّدونها، وما أن تهتدي إلى السبل التي تفتح لها الحلول حتى ينقضوا عليها رافعين راية "التحالف" و "المساندة"، و "يركبون" كما نقول اليوم على النملة " الصادقة " ليسرقوا منها زادها، ويعودون إلى وظيفتهم الأزلية، وهي الغناء والرقص، وقد استجابوا إلى نرجسيتهم. والمرأة في تونس اليوم هي وجه من أوجه شخصية هذه النملة، ظلّت تعمل وتناضل ، وتقف في وجه المحاولات الساعية إلى أن تزجّ بها من جديد في ظلمات عصور الانحطاط، وما أن وفقت في نضالها ، وكاد ساعدها أن يشتدّ حتى هبّ صراصير لإيهامها بنجدتها وأنّها لوحدها ستظلّ ضعيفة ومعزولة...

لكن ضمن النمل صنف عارف بدهاء الصراصير، يعمل في هدوء الواثق و واثق أنّ الصرصار طينته جعجعة لا غير ، وأنّ العبرة بالنتائج، لذلك نجدها في مجتمعنا حائرة وعصبيّة تسعى إلى حماية المطمئنات من النمل من خداع الصرصار حتى لا ينقضّ على مكاسبها..

لكن حذار فالنملة التونسية فطنة إذا قورنت بغيرها من النملات العربيات.. و هي تزداد فطنة كلّما تقدّمت أشواطا في فرض حقوقها.. ولذلك ترون صراصير من الدعاة العرب لا ينفكّون يحذّرون النملة العربية منّا ، ومع ذلك بقينا نموذجا في نظر العربيات اللاتي حفظنه في صدورهنّ علّه ينير طريق نضالهنّ..

وإن كان لي أن أخلّد أحداثا بمناسبة يوم 8 مارس فإنّي أذكّر بما يلي حتى لا يدفنه النسيان:

كدنا في لحظة خاطفة، بعيد 2011، نؤمن بأنّنا تجاوزنا الفوارق الجنسية وأنّ هبّة اجتماعية وثورة أخرى تولدت عن الثورة الأولى ستتحقق: هي الثورة على الأعراف، وثورة تسهم في رسم طريق اجتماعية جديدة يلتقي فيها المجتمع التونسي مع المقاصد التي سنتها المواثيق الدولية الطامحة إلى تحقيق مواطنة شاملة في جميع مجتمعات الكون. لكن، ما هي حقيقة ما حصل؟ هل كان المجتمع التونسي لحظة المنعرج الحاسم الذي عاشه يوم 14 جانفي 2011 واعيا أنّ انتفاضته ستأتي على كلّ شيء؟ وهل كانت له من القدرة على مواجهة تحوّلات اجتماعية لم يستعدّ لها؟ وهل أمكن لهذه القيم أن تصمد أمام عواصف الثورة اللافحة؟

اقتنصت حركة النهضة حال الفراغ الذي عاشه المجتمع التونسي بعيد 2011 فسعت إلى ملئه موظفة جميع الوسائل في خطاب الناس ، وخاصة منهم عامّة الشعب لتضرب بخطابها في صميم الورع الديني حتى صار كلّ ناقد لسياسة الحركة من أهل الكفر والزيغ.

وانتشر الوهم بأنّ خطاب الإسلام المعتدل ينهل من قيم الحداثة. فكان سندان السياسة لعنة على المرأة .

وكانت النتيجة أن أفرغت مصطلحات الحداثة من محتواها لتشبع بمعاني فقهية تجاوزها المجتمع. وكانت النتيجة أيضا، أن واجه المجتمع بنسائه ورجاله ضغوطات ذات بعد سياسي/ اجتماعي : إنّها حكاية المرأة مع الدستور. حيث طرحت جملة من الرهانات من أهمّها: كيف للمجتمع المدني أن يتتبّع صياغة مسودات الدستور حرفا حرفا؟ وكيف له، وعلى وجه الخصوص المرأة المتفطّنة أن تتعقّب ما يحدث في أعمال المجلس؟ وأن تنبّه إلى المزالق المفاهيمية التي يسرّبها أعضاء النهضة، عنوة نهارا، ويدبرونها ليلا؟ وخاصّة وفاؤهم لمسلمات الإخوان التي عاهدوا أنفسهم على إرسائها في المجتمعات العربية قاطبة ، وهي الوفاء لمفهوم القوامة من غير التصريح به؟ والإيقاع بالمجتمع المدني؟ وصار مفهوم الأسرة يكرّس لفظ " العشيرة " في معناها البدوي لا أكثر ولا أقلّ.

طبعا ، كان من المفروض أن يصحب مسرحية صياغة الدستور مسرحية أخرى تصاغ خيوطها في الشارع، أبطالها جنود النهضة، وضحيتها المرأة بما أنّها "كبش الفداء". وجميع ذلك ينحو إلى الإقناع بوجوب إرجاع المرأة إلى "دار جواد" فتغلّق الأبواب ولم لا نوافذ الحداثة عليها:

تتالت المواجهات بين المجتمع المدني والتيار السلفي: والجهادي منه بشكل حادّ، فصارت المرأة تعاني مضايقات من نوع محاصرة غير المحجبات، و غياب الأمن ليلا فكثر التحرش على النساء اللائي يشتغلن بالليل على وجه الخصوص، ولم يختصّ بهذه الظاهرة السلفيون لوحدهم وإنّما انتشرت في صفوف بعض من رجال الأمن الذين انتدبوا في تلك الفترة ، وحملوا على حركة النهضة، فكانت حادثة اغتصاب الفتاة من طرف رجلي أمن، ولولا وقوف المجتمع المدني بجميع مكوّناته لتحوّلت الفتاة من ضحية إلى متّهمة. أضف إلى ذلك إحداث مدارس قرآنية توازي المدارس العمومية ، فرِض فيها الحجاب على صغيرات لا يتجاوز عمرهنّ الثلاث سنوات، ويلقّنّ دروسا في دونية المرأة ، وأنّ مكانها في البيت لا غير. وهلّل لذلك قياديو النهضة ، فاخذت لهم صور تذكارية لبنيات وقع لفّهنّ، كأنّهنّ سبب لإثارة شهواتهم، وفتحت أبواب تونسنا لدعاة أكلت الأمراض نفوسهم، فتحرّكوا في أحيائنا مثلما يتحرّك الأنبياء، وصار الإيمان بالله مشروطا بالإيمان بهم، وانبرى البعض الآخر من رجال النهضة "مصفقا بيديه ورجليه" يتحدث عن "خفض الإناث"، وأخفت وزيرة المرأة رأسها في الرمال عندما قامت ضجة اغتصاب الرضيعة في روضة أطفال... وقامت نائبات النهضة خطيبات يستنكرن اتفاقية السيداو، وقد تنكّرن لبنات جنسهنّ ولبناتهنّ وحفيداتهنّ، أنّها لا تخدم المرأة المسلمة، وجميع ما صرّحن به ينبئ بمصيبة ستحلّ على المجتمع إن تركت النهضة تعثو فسادا في الاتفاقيات الدولية.. والأمثلة كثيرة وزاخرة ، تعبّر جميعها عن البون الشاسع بين الإرادة الاجتماعية والإرادة السياسية الحاكمة.

ومع ذلك ، فإنّي لا أريد أن أحبط عزائم العربيات .. لأنّ الطريق التي اخترنها صعبة وعويصة.. وإنّما غرضي ممّا ذكرت أن أنبّههنّ إلى الصعوبات التي ستتعقّبهنّ لأجل تحسين أوضاعهنّ: نعم، هي محنة عسيرة لكنها أكسبت المجتمع المدني قوة:  انقلبت الموازين وصار المجتمع مؤطّرا للسلطة الحاكمة ولأعضاء المجلس. وفي هذا السياق نعتبر أنّ أربعة تواريخ خالدة كان لها دور في كبح جماح الإسلامويين، وهي : 10 مارس 2012 ، و 14 سبتمبر 2012 ، و 06 فيفري 2013، و 25 جويلية 2013.

وإن اعتبرنا تاريخ 10 مارس2012، تاريخ انتفاضة المرأة و منظمات المجتمع المدني أمام النهضة ونوابها عندما عبّروا عن نيتهم في إدراج الشريعة في الدستور؛ وإن فرضنا في يوم 14 سبتمبر 2012 على المجلس التأسيسي لقاء حواريا تجندت له نساء من المجتمع المدني للتعبير عن مواقفهن ونقد الأحداث التي تسعى إلى الحط من مكانة المرأة؛ ودفع المجلس إلى الاستجابة إلى هذا المطلب لأنّ المجتمع انتفض نساء ورجالا ، وكانت المظاهرة الضخمة التي شارك فيها ما يزيد عن 50 ألف متظاهر، الأمر الذي دفع بنواب النهضة إلى الإعلان عن تراجعهم في "التكامل" ووعدوا باستبداله بالمساواة.

لكن يظلّ تاريخ استشهاد شكري بلعيد ومحمد البراهمي نقلة نوعية في التاريخ النضالي للمجتمع التونسي على وجه العموم وتاريخ المرأة التونسية على وجه الخصوص. كان امتحانا صعبا، لأنّ الجسم الاجتماعي خضع لرجّة أيقظت ما ظلّ نائما فيه. هي محنة صعبة ومريرة، لكن كانت بمثابة الترياق، والتداوي من السم بالسمّ. لحظة وعي يعيشها المجتمع الآن، وتأكّدي سيدتي العربية أنّ من يعيش هذه التجربة لن يعود إلى مغارة الموت والطاعة والذلّ.

نعم وجدنا في تونس امرأتنا المفقودة: هي حاضرة فينا تنتفض وتتجسّد كلّما أنّ أبناؤها، و تبتلع آلامها لتقوّي رجالها وفي نفس الوقت تزداد قوّة وبطشا، هو نذير المرأة التونسية لكلّ من يفكّر في ابتلاع مكتسباتها، وهي اليوم تحرس عرينها وتتعقّب في حذر كلّ من يلبس قناع مؤازرتها لاقتناص حقوقها سعيا إلى غنم قريب ، والانتخابات على الأبواب.. ولن تنخدع حتى وإن كان موهما بالدفاع عن مساواتها بالرجل في المواريث. لأنّ همّ التونسية اليوم القطع جذريا مع المسلّمات القديمة التي تسعى في جميع الدقائق التشريعية إلى تكريس دونية المرأة.

تلك هي حكايتنا الجديدة، عفوا لعبتنا الجديدة، هي لعبة طغت عليها الرتابة، لأنّ النملة التونسية مدركة بخيوط اللعبة التي يمسكها الصرصار فغاب عنصر التشويق. ولن تحدث مفاجأة إلاّ إذا أدرك صراصيرنا أنّ النمل "القوارير" لم يعدن من زجاج يسهل كسره لرقّته وإنّما عركته الأيام وصارت طينته من فولاذ، وأنّ ثورتهنّ ليس من أجل فتات أو ترضية، بل هي من أجل الكرامة والحرية ومن أجل مستقبل الإنسانية، وأنّهنّ على ثقة أنّ دعاة الظلامية ليسوا سوى نخاسين في سوق الحريم.

 

 

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter

تقرؤون أيضا

03 جانفي 2022 16:04
0
30 ديسمبر 2021 16:29
0
27 ديسمبر 2021 17:00
0