alexametrics
آراء

شيبُ من هذا يا أبي؟

مدّة القراءة : 2 دقيقة
شيبُ من هذا يا أبي؟

 

أريدُ أن أخبرهم عنك، كيف تستيقظُ صباحًا تنفضُ جسدك كـجروٍ صغير ثمّ تذُوبُ مطرًا في راحةِ يدي. لكنني لا أستطيع، بعد.  

 

الساعة 9.

نستيقظُ راضين هادئين كأنّهُ يوم الأحد. كل الأيام صارت آحادًا. نـتجاهلُ العالم لدقائق حول الطاولة، يمزحُ أبي كعادتـه جاعلاً الهواء حولنا أخف، يثني الليل ويضعه في جيبه ويمضي حرا الى صبح جديد. إنها من المرات القليلة التي يضطر فيها للبقاء في المنزل، هاتفه يرّن منذ أيّام ولا يُجيب. أخاف أن يخسر وظيفته بعد أن تمضي الأزمة، ويبتلعني هذا الخوف. لم تتوقف الشركة المشغلة عن العمل كونَ الحوت الكبير الذي يملكها يُفضل أن يموت موظفوه على أن يخسر دينارًا.

ودعوني أطمنكم أنها ليست من القطاعات الحيويّة التي ضمنّها رئيس الحكومة في خطابه.

شيبُ من هذا يا أبي؟

 هذه المرّة ليست 'شيبات حظّ' متفرقّة كحجلِ الجبالِ. حين أحنيت رأسك قليلاً لتمررّ لي الخُبز، لاحت لي السنينُ ثقيلة بيضاء مفـجعـة على رأسك وارتعبت. لمَ لم ألحظها من قبل وأنت أقربهم إليّ؟ انتبهتُ سابقا لتجاعيد فتيّـة أسفل عينيّ أمي، خطوط رقيقة لم تُصبح بعد طيّاتِ زمـن.. لكنني لم أفطن بأنـّك انت أيضا كَبِرت؟ كـبرت.. تعمل منذ 20 سنة لتزيد ثروة رجل أعمال تبرع لصندوق مكافحة الكورونا وأصبح بطلا قوميا.

أنت بطلي القوميّ.

 تنزع الرأسمالية سِروالها وتتبوّلُ في زوايا البرلمانات وعلى خزائن الدول وأسواقها ونقول.. إنهّا تُمطر!

 

الساعة 12.  

الخبز على الطاولة والأخبار السيئة على التلفاز. موتٌ أخرى، خبر لموقعنا، رقم في جداول الوزارة، وافد جديد إلى السماء. تنجحُ فيروز في غسلِ حُزني، أضع السماعاتِ وأغمض عينيّ. "يا رايحين وثلج، ماعاد بدكن ترجعوا؟.."  

الطّقس سيّء. كل ما أستطيعُ أن أفكر به هو ذلك الشرطي الذي اعتدى على مواطن في أحد شوارع باردو. لا تكن على الجانب الخاطئ من شعبك! لو نفع البوليس أحدا، لكان نفع بن علي. كبرنا في نفس الظلام. ستحِّس و أنت تحاربنَا أنك تحارب نفسكْ. الدولة تحتكر العنف منذ زمن، لكنّ الفعل فردي، الإعتداء متعلق بالشرطي الذي يعاني من تضخم الأنا واستصغار الآخرين. كيف يرانا "البوليس"؟ هذا هو السؤال. لن توجه لكمة لمواطن ترى أنه نظيرك وشريكك في الوطن. وتعلم أنك في خدمته. وتدرك حقوقه الكاملة وأن القانون ليس عصًا غليظة لإسقاط الأسنانِ وكسر الأصابع. القانون لا يُرى، كالله والكورونا، لكنه موجود وليس فانتازيا في أذهان الحقوقيين.

 

الساعة 15.

أنا أعيدُ "البلاي ليست" ذاتها منذ أيام وأخافُ التغيير. أختي تكتشف عوالم جديدة كل يوم وتنشر إكتشافاتها على صفحتها: راب إيرانيّ، فتاة تعزف على البيضْ والكؤوس، وهنود يصلون منشدين لالـهٍ أصفر صغير.. "العـَالـَمُ قد جُنّ". ينشُرها المثقفّون الفايسبوكيّون مع وجُوهٍ صفراء صغيـرةٍ نادِبــِةٍ تُولولُ : واحسرتـــاه! وكأّن الوجود لم يكُتَـب علـى الألواحِ مأسـاةً منذ أن راودت الرّب فكرةُ خلقـه، وأختي ترقص على أغاني العالم غير مهتمة بالنهاية التي تُلوّح لنا من بعيد.

 

الساعة 16.

انطلقت النقطة الصحفية لوزارة الصحة، وضعتُ التلفاز على إعداد (صامت- Mute) فحرّك عبد اللطيف المكي شفاهه دون أن ينطق بسوء. لا لم يمت أحد ولم تزد العدوى يا أمي، لم يقل الوزير شيئا!  

الساعة 18.

الساعة 20.

الساعة 22.

لا جديد يُذكر. ذهني خالٍ ويومي أجوف كذلك. أتعرفون فيلم ميلانكوليا؟ أنا كبطلة الفيلم أشاهد السماء تسقطْ، ولا أستطيع انقاذ العالم، فأستلقي وأشاهد النهاية من الصف الأول.

-عبيرشبيك !

لا أدري ماخطبُ أمي ومهرجان الأسئلة الذي ينطلق كلّ ليلة في التوقيت ذاته. مع العمر أو مع الملل، تزداد أسئلة النساء. تبدأن في الحفر، كأنمّا سنّ الأربعين يثير لديهنّ رغبة ملحّة في النبش هروبًا من شيء ما، أو إلى شيء ما.

- ما بيّا حتى شيّ يا أمي، لاباس والله لاباس!  

لاباس. الجزع الذي في قلوبنا سينتهي، أنا فقط أخافُ على أبي من ظلّ الموت الذي يجوب الشوارع  الان جارّا فأسـهُ على الاسفلت.  يوجد فتى مر بقلبي يُشبه أبي كثيرا. إشتقــت حضوره الملــوّن، ويداه ترفعانِ العتمة عنّــي. أنا دونه وحدي في ليل العدم هذا الذي يثقل أكتافي. أنا وحدي كفزّاعـــة في حقل أصلع لا أرعب أحدًا سِـوى نفسي. أحلمُ بالشيب، أصبغه بكل ألوان العالم ولا يُزاح.

 

غدا يوم أفضل، أعدكم.

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter

تقرؤون أيضا

03 جانفي 2022 16:04
0
30 ديسمبر 2021 16:29
0
27 ديسمبر 2021 17:00
0