alexametrics
الأولى

قيس سعـيّـد، تكلم حتّى نراك!

مدّة القراءة : 5 دقيقة
قيس سعـيّـد، تكلم حتّى نراك!

 

من أين تأتي، بالفصاحةِ كُــلّها؟ أنشدت مُـغنيّة على ترددّ إذاعةٍ وطنية، ليحمل بعدها مُوجز الأنباءِ تصريحا لقيس سعيّد عن برنامجه الإنتخابي، في قناةٍ عربية لا تتكلّم بلساننا ولا تتوجّه لأسماعنا. 61 عامًا، لهجةٌ فُصحى ووجهٌ خالٍ من التعابير، هذهِ صورتنا عن أُستاذ القانون الدستوري الذّي أوصلتـهُ أصوات الشبابِ إلى الدور الثاني من الرئاسية دون جُهد يُذكر، أو حملة إنتخابية مُكلفة، وعلى وجه الخصوص.. دون حضور في وسائل الإعلام التّونسية.

 

 وتكاد  تلك  تكون صُورتنا اليتيمـة- ضبابيّـة المعالم عن الرجل الذي صنعهُ الفايسبوك والميديا الجديدة، علـى مهلٍ، بعيدًا- وفي الخفاء! إن لم يكن هذا الجيل (18 - 26 سنة) حرّا فإن الحرية ليست حقيقيّة. هذا الجيل، الذي تشكل وعيهُ في فترةِ ثورة، وشبّ على قيم الحريّة في الخطاب والضمير والإختيارْ كـان حرّا في تصويته لمرشّح عجيب من الظِـلال، ها نحنُ ننبش اليوتوب للبحثِ عن تصريحات قديمة له علّـنا نفكك لُــغته وندخل عقله. نهاية الميتا-سُلطة (وسائل الإعلام التقليدية) التي بشرت بها مُقاربات الإتصال منذ 10 سنوات مع ولادة مواقع التواصل الإجتماعي، ألقت أوّل أثر هائل وملموس لها على الساحة السياسية التونسية حيث فشلت الحملات الإنتخابيـة التقليدية التي قامت على الحضور المكثف في وسائل الاعلام - فشلًا غريبًا. قادمًا من بعيد، بلا زادٍ ولا دوائر دعم، تحصّــل سعـيد على 18 فاصل 4 من جملة الأصوات في الدور الاول وقد يكون سابع رئيس للجمهورية التونسية. مالذي يجعله يرفض الحضور في وسائل الإعلام التونسية لدحضِ الأباطيل التي تُشاع عنه من معسكر "النمط" ، من قبيل أنـه داعشي يهدد بقطع الأيادي وأنـه يساري راديكالي يهدد بإسقاط الدولة وبعث نظامِ السوفياتات؟


صـناعة الرئيس، أكبر من صُدفة:

كيف صنع قيس سعيد دون حضور اعلامي؟ أولا، صيغة السؤال خاطئة. قيس سعيد ليس وليد رئاسية 2019 فقد ظهر الرجل على مدى 8 سنوات بعد الثوررة في الاعلام التونسي بصفة "خبير في القانون الدستوري" لشدة مآزقنا الدستورية. حضور يتأرجح بين الباهت واللافت، المحتوى الصعب المعقد والشكل الفريد السلس، هكذا وعلى مدى سنوات انطبعت في أذهان الشباب التونسي صورة سعيد، الهدوء والرصانة مقابل جماعة الهيستيريا من السياسيين الصارخين. تضاد وضع الرجل في مكانة أفضلية كبديل عن الهسترة والفوضى التي انسحبت على الساحة الاجتماعية ايضا والقت بظلال عنفها في المعاهد والجامعات التي أضحت بعد الثورة ملاعب خصبة لاستقطاب الشبيبة للعمل السياسي. بصمت، ببطئ كان ميكانيزم المقارنة بين ما هو موجود وما هو منشود يشتغل في اذهان الشباب. بعد 2014، بدأ العمل الجدي على فايسبوك في المجموعات المحلية السرية للجهات والولايات الداخلية ودفعات الجامعات وهواة المطالعة- وغيرها من "القروبات" التي تشتغل بصمت. مداخلات لقيس سعيد، محاضرات، اقتباسات، تدوينات لداعميه وأكثر.. تراكمات دفعت الشباب بترو الى اختياره من بين مشهدية من الاسماء التي ملوا وجودها الطاغي في محيطها، وجود كان فيه "السيستام" دائما يلعب دور الوصي/الرقابة الأبوية التي تتحدث باسم الشباب – ولا تتحدث لغتهم. التعبئة تمت بسرية على صفحات ومجموعات الميديا الجديدة (وسائل التواصل الاجتماعي، كما يصفها الصادق الحمامي) وكانت رسالتها لا تشبع رسالة الميديا التقليدية/ ليست في اتجاه واحد. رسالة الميديا الجديدة هي رسالة جماعية تفاعلية بينما رسالة/خطاب الاعلامي التقليدي تكون أفقية وعموما قائمة على البروباغندا، وهذا ما كون قوة في الخفاء تعمل على التجييش الصامت المقتنع. الهرب من ديستوبيا السيستام، التي جعلت من الشباب ملحا ينكه الخطابات السياسية، كان هربا للفضاء السيبرني وكتابة لسيناريو الانقلاب على الماكينة- انقلابا ديمقراطيا ناعما عبر الصندوق وحده. كانت حملة دون حملة، من خلال المجموعات المغلقة التي يصل عدد أعضائها الى 275 عضو : طلبة قيس سعيد من كل الاجيال.. أكاديمون.. مثقفون، كتاب، ثويرون، اسلاميون، يساريون مقاطعون للمنظومة السائدة، نشطاء من حملة مانيش مسامح، مدونون.. لا يجمع بينهم سوى رفضهم للمشهيدية السياسية التي تسيطر عليها الفوضى، أنهم لا يتابعون الإذاعات و القنوات التلفزية وأن أعمارهم لا تتجاوز 40 سنة.


موت الصحافة؟

هذه المقاربة جزء من الظاهرة. نعم، ساهم موت الصحافة في صعود نجم سعيد. قد لا يكون الموت النهاية بالشكل الذي نعرفه، لكنه التراجع الكبير الذي يبقى فيه الاعلام موجودا لا يندثر لكن تأثيره هو من يموت. لم يمت تاثير الاعلام كليا في تونس اذ ان الماكينة الاعلامية لنبيل القروي التي ظلت لثلاث سنوات تشتغل وصلت الى مبتغاها بأكثر من 15 بالمائة من الاصوات أغلبيتها من المسنين والذين لم يتلقوا تعليما، لكن التأثير على الشباب وخاصة الجامعيين أصبح معدوما. ماتت الصحافة في أعين هؤلاء لأنهم وجدوا لها بديلا يمكنهم التحكم فيه ولا يتحكم فيهم. قد تكون حتمية نهاية الصحافة أمرا مبالغا فيه، فالاذاعة لم تقضي على الجريدة والتلفاز لم يقضي على الاذاعة لكن الانترنت قدمت وقضت –بشكل ما-عليهم مجتمعين. كلما يكبر محمل يتراجع أثر الاخر، وكلما غرق الشباب في حواسيبهم وهواتفهم تراجع أثر الصحيفة والحوارات الصحفية والتلفزية. مع ذلك، فان قيس سعيد حضر في لقاءات قليلة اثناء الحملة الانتخابية، مع سماح مفتاح على قناة حنبعل، في المناظرة التلفزية على الوطنية الاولى، وفي اذاعة شمس في ماتينال شمس اف ام. كما ظهر في قناة فرانس 24، وفي قناة الجزيرة.  لم اذن يرفض الظهور خارج هذه المحامل؟ بسيط. لأن بعض وسائل الاعلام الاخرى انخرطت في خدمة أجندات بعض المترشحين الاخرين وتباعا تحول الامر الى حملات "تشويه" لقيس سعيد وحديث عن علاقاته المشبوهة بالاسلاميين المتطرفين واليساريين الراديكاليين. حملات رد عليها أنصاره بالانسحاب من صفحات هذه القنوات – ونذكر حملة الانسحاب من قناة الحوار التونسي التي أخسرتها أكثر من مليون متابع في اقل من 24 ساعة. عدم ثقة مناصري سعيد في هذه القنوات جعلت الخيار الافضل أن يقاطعها ويرفض دعواتها كي لا يخاطر باغضاب رصيده الانتخابي الشبابي- الرومنسي أحيانا.

 

قيس السعيد، الـصوفيّ الزاهد:

سردية البساطة لعبت دورا محوريا في دعم سعيد من قبل الشباب. لم يعد يغريهم البهرج والحملات المكلفة، البساطة في الحضور، القميص ذاته، الجلوس في المقاهي معهم والاتصال المباشر، الشقة المتواضعة في نهج ابن خلدون بالعاصمة - التي تشققت جدرانها من فعل أخر أمطار اوت- واتخذها سعيد مقرا لحملته، غطاء المائدة الممزق، مروحة التكييف الرخيصة.. كلها شكلت صورة قيس الزاهد البسيط الذي لن يكون عبئا على الدولة. هو في نظرهم المثقف المشتبك بشعبه المثقف العضوي كما يصفه غرامشي- عكس المثقف التقليدي المتعالي الذي يعتبر الشعب "غبيا" لا يدرك مصلحته. وكان الشباب على درجة من القرف من تلك النخبة التي تحتقرهم، حتى أنه لحظة ما وجد بديلا اتجه الى نصرته دون ان يعرف برنامجه او مشروعه السياسي. لم؟ لأن الشباب أظهر نسب عدم ثقة قياسية في نخبته وخاصة في النخبة السياسية من جانب، ومن جانب اخر عدم الثقة في المترشحين الذين كانوا جزءا من الدولة/ السيستام، الذين لا يشبهونهم في شيء.

 

أسقطوا الأدرعة، فكروا قليلا. من هو قيس سعيد وماهو مشروعه؟ هذا السؤال موجه لسعيد نفسه ولمناصريه. أخبرونا، أليست تلك قواعد الديمقراطية، النزاهة والشفافية في الخطاب؟ عشتم في الظل طويلا وحان الوقت لتواجهوا هذا الشعب. الاعلام التونسي، هو الاحسن في المنطقة التي تحيط بكم.

بمرتبته 72عالميا في مؤشر حرية الصحافة، هو البلد الوحيد الذي يتمتع بترتيب متقدم في كامل منطقة الشرق الأوسط وافريقيا. شريك لا يمكن انكاره في العملية الديمقراطية والاستحقاق الانتخابي. ان التنكر لدور الاعلام المفصلي في الانتقال الديمقراطي والمسار السلمي للثورة التونسية هو ضرب من تضخم الأنا – السابق لأوانه جدا. لا تدعوا المرتبة الاولى، تحول سعيد الى ديكتاتور جديد محاط بالثورجيين من روابط حماية الثورة الذين هددوا بسحلكم – شباب الثورة السلمي- في الشوارع. الاعلام التونسي يريد أن يعلم هوية قيس سعيد الفكرية، ومشروعه نقطة بنقطة، وموقفه من الحركات المتطرفة وحركة النهضة التي قررت دعمه وحزب التحرير المحظور وائتلاف الكرامة الذي قفز فجأة الى مركبه ولم يكن في الصورة من قبل. المواقف الرجعية من الحريات الفردية والمساواة في الميراث، ومئات الاسئلة التي يود الاعلام طرحها انارة للراي العام الاوسع من مجموعات الفايسبوك،  الغموض يفقد اثارته بعد مدة، ولا تبقى سوى البرامج. قيس سعيد، تكلم حتّى نراك!

 

عبير قاسمي

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter