alexametrics
آراء

ما حكاية سوق الجملة ورجال السياسة؟

مدّة القراءة : 6 دقيقة
ما حكاية سوق الجملة ورجال السياسة؟

  

شهر رمضان على الأبواب وفي مثل هذه المناسبة من كل سنة يتركّز الإتصال الحكومي على أسعار المواد الغذائية في مختلف أسواق الجملة .. هي سُنّة دأب عليها سياسيونا منذ عقود .. مهما كانت طبيعة النظام، ترى الحُكّام يحجون إلى سوق الجملة وحبّذا لو كانت الزيارة فجئية .. هكذا هو الوضع منذ الزعيم الحبيب بورقيبة وإلى يومنا هذا مع حكومة يوسف الشاهد. جميعهم، سواء كانت الصفة وزيرا أولا أو رئيسا للحكومة، لم يحيدوا عن هذه الثوابت أولها القيام بزيارة فجئية إلى سوق الجملة والثانية زيارة مماثلة إلى ميناء رادس.

 

فالخبراء في الإتصال السياسي والمختصون في العلوم السياسية صاغوا آلاف النظريات في الإتصال والسياسات الحديثة، إلا أن سياسيينا ورغم أننا في 2019 ما زالوا متمسكين بطابعهم المحافظ، متشبثين بممارسات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، حتى وإن كان ذلك سخيفا ومثيرا للضحك، دون الحديث عن العناوين المتضاربة لتي ستتصدر الصفحات الأولى لصحف الغد، أي اليوم الموالي لأنشطتهم تلك.. بعضها يُعلن عن زيادة في الأسعار، في حين يبرز البعض الآخر انخفاضا فيها وذلك في اليوم ذاته. وهو ما حدث بالأمس في مقال يشير إلى وزير الفلاحة يُعلن عن ارتفاع في الأسعار في الموقع الإلكتروني لإذاعة "موزاييك آف آم"، مقال آخر على أعمدة جريدة "الشروق" يشير إلى انخفاض في الأسعار .. وبالتثبت من الأمر تبيّن لنا أن المسألة تدعو إلى السخرية .. فالمقال الذي أورد تصريح وزير الفلاحة، يتحدث عن النصف الأول من شهر أفريل، في حين أن المقال الثاني استند إلى تصريح لوزير التجارة وهو يتحدث عن الفترة من 13 إلى 20 أفريل.. المقال الأول بدا وكأنه علمي وموجه إلى المحللين، في حين أن الثاني كان فضفاضا وأقرب منه إلى إعلام الدعاية وهو موجه إلى المواطن المستهلك.              

 

في المقابل لن تجدوا أي وسيلة إعلامية في بلد متقدّم تتتصدر صفحاتها عناوين على شاكلة: "إيمانويل ماكرون يزور مدينة رانجيس لتفقد أسعار الكماكم والخيار" .. أو من نوع "دونالد ترامب يشرف على مجلس وزاري مخصص للضغط على أسعار المرطبات والدواجن بمناسبة رأس السنة الميلادية".. صحيح أن تونس بلد ديمقراطي، لكن يلزمها الكثير من الوقت لتصبح بلدا متقدما .. فالسلوكيات القديمة تتطلب وقتا طويلا للتخلص منها، لذلك لم تنفع نصائح مختلف رؤساء الحكومات في تغيير خططهم .. لاستمالة الشعب عليك أن تظهر له اهتمامك ببطنه .. ومن منا لا يتذكر اللقاء الذي كان جمع الباجي قايد السبسي قبيل الإنتخابات الرئاسية لسنة 2014 بتلك السيدة التي قالت له إنها لم تعد قادرة على شراء اللحوم الحمراء .. فهاهو يوسف الشاهد يسير هو أيضا على خطى سلفه وكذلك سيفعل خلفه، لكسب مزيد من النقاط في نتائج سبر الآراء .. لذلك عليه أ، يظهر اهتمامه بقفة المستهلك وبطبيعة الحال فإن مصالح الإتصال ستتبع ما قرره المختصون في العلوم السياسية الذين يقوم بدور المستشار لدى رئيس الحكومة، مهما كان إسمه.    

 

إذا لم يُغيّر من يحكمون البلاد من استراتيجياتهم وخططهم منذعقود مضت فقد يكونون على حق ولهم أسباب وجيهة لذلك، فلا نخالهم جميعا أغبياء لاتباع التمشي والسياسة ذاتها منذ زمن بعيد وهي زيارة سوق الجملة ببئر القصعة وميناء رادس.

 

فإذا كان رجل السياسة يعتقد أنه بإمكانه كسب بعض النقاط من خلال التظاهر بالإهتمام بقفة المواطن المستهلك، فذلك لأن هذا الأخير لا يفكر في نهاية الأمر إلا في بطنه.. وهذا أمر ثابت سنويا في مثل هذا الشهر، شهر رمضان الذي يصوم فيه التونسي نهارا، لكنه يقضي طوال الوقت وهو يفكّر في ما سيأكله عند الإفطار .. كامل اليوم يحوم حول المواد الغذائية، من مائدة الإفطار (الشربة والطبق الرئيسي والبريك والغلال والحلويات والمشروبات خلال السهرة ...) إلى السّحور وما يخفيه من عادات وشهوات. 

 

لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل من صلاحيات رجل السياسة الإهتمام بسعر الطماطم والخيار ؟ وهل من مسؤوليات الدولة العناية بأسعار الغلال والخضر ؟ فلو أن الدولة تفوّض للسوق حرية التعديل الذاتي، مع ضمان التنافس النزيه، لن يكون على رجال السياسة أن يزوروا بصفة فُجئية أسواق الجملة، كلّما يشعرون بأنهم مهددون في مناصبهم. 

 

فدور رجل السياسة الذي يفترض به أن يكون رجل دولة، هو بلورة سياسة عامة لضمان حلول قابلة للتنفيذ ودائمة للفلاحين والتجار والوسطاء.. الخطة المتمثلة في تفقّد الأسعار في يوم بذاته والتأكيد أمام عدسات الكاميرا أنها انخفضت (والحال أنها كانت في ارتفاع قبل أسبوع من ذلك) .. وسط حملة تستهدف المستودعات غير القانونية .. هذه الخطة لا علاقة لها بالسياسة ولا يمكن اعتبارها كذلك .. فسياسة "الترقيع" دون تخطيط بعيد المدى لا تعد سياسة أبدا، سيما وأننا نعتمد في تونس سياسة الهروب إلى الأمام.

 

من ناحية أخرى فإن المواطن التونسي العادي (المنشغل ببطنه أكثر من أي شيء آخر) يتذمّر طوال الوقت من غلاء المعيشة مهما كان مستوى الأسعار، شأنه شأن "صديقه" الفرنسي من أصحاب السترات الصفراء .. صحيح أن محاولة إرضاء هذا المواطن العادي واستمالته بأي طريقة كانت، قد تكون خطة مُربحة من حيث كسب المزيد من أصوات الناخبين، لكن هذا التصرف خارج فترات الحملات الإنتخابية، قد يخلق مناخا من التوتر الإجتماعي وهذا لا يليق برجل سياسة يحترم نفسه وهو لا يليق حتما رجل دولة.

 

سأقولها للمرة الألف: ما يلزمنا في تونس هو مصارحة التونسيين حتى وإن كان الكلام لا يعجبهم .. هكذا ننقذ البلاد .. هو خيار مكلف جدا، إنتخابيا وشعبيا، لكنه المخرج الوحيد مما نحن فيه اليوم. هذا ما توخّته أنجيلا ميركل وهو ما جعل ألمانيا من بين البلدان الأوروبية القليلة التي لم تتأثر بمخلفات وتبعات الأزمة الإقتصادية العالمية.

 

فالمرشح الذي يرغب في النجاح في مهمته على رأس جهاز الدولة، عليه أن يدعو التونسيين إلى مضاعفة الجهد والعمل والإنتاج لمزيد الكسب ويصارحهم بأن عليهم أن يقبلوا فكرة عدم الزيادة في الأجور ما لم تقترن بالترفيع في الإنتاجية وأن عليهم قبول الإرتفاع المهول في الأسعار باعتباره نتيجة الزيادات في الأجور المفروضة من قبل النقابات .. عليه أن يدعوهم إلى القبول بالإرتفاع في أسعار المواد المستوردة، بسبب تراجع الدينار والذي هو بدوره نتيجة تراجع الصادرات والمتسبب فيه هو أيضا انخفاض القدرة الإنتاجية.

 

على من سيترشح للمناصب العليا ويرغب في النجاح في مهمته، أن يفرض على التونسيين انتهاء العمل بنظام الحصة الواحدة خلال شهر رمضان وفصل الصيف، مع فرض مراجعة العديد من المكاسب الإجتماعية وخوصصة كثير من المؤسسات العمومية وتخلي الدولة عن بعض القطاعات التنافسية وفسح المجل للسوق تعديل ذاته وأن الدولة لن تتدخّل للحماية، إلا في ظروف محددة وعليها الإعداد لمستقبل مشرق للأجيال القادمة. كما يجب على الدولة أن تتفادى التداين إلا من أجل الإستثمار في هذا المستقل وليس لخلاص الزيادات في أجور رموز البيروقراطية وغيرهم ممن لا ينتجون شيئا لفائدة هذا الوطن.         

إذا كان المترشح صاحب برنامج من هذا القبيل، فإن حظوظه وافرة في أن يخلد إسمه في التاريخ وينجح في عُهدته .. لكن مثل هذا المترشح قد يخسر أيضا في الإنتخابات لأنه لا بد من إنجاح البرنامج الإنتخابي للفوز بالإنتخابات .. من غرائب هذا الزمن أنه كلما فقد رجل السياسة بعض خصاله إلا وازدادت شعبيه والعكس بالعكس، ولا في الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا والنمسا وأوكرانيا بالأمس فقط، خير مثال على هذا القول .. لذلك صار من البديهي أن تونس لن تشكّل الإستثناء.

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter

تقرؤون أيضا

03 جانفي 2022 16:04
0
30 ديسمبر 2021 16:29
0
27 ديسمبر 2021 17:00
0