alexametrics
أفكار

يوم قتلوا الرّئيس؛ يوم قاسٍ ودرس مهمل

مدّة القراءة : 3 دقيقة
يوم قتلوا الرّئيس؛ يوم قاسٍ ودرس مهمل

 

 

لم تخلُ الساحة السياسية التونسية من الاتهامات المتبادلة بين كل الأطراف في وضعية تذكّرنا بصراع الكل ضد الكل المعرّفة لحالة الطبيعة الأولى والنافية للحضارة عن الإنسان، وهذه الإتهامات لم تستثنِ أي شخصيّة عامّة وترواحت بين تهم "الفساد الصغير" حتى الحديث عن "الفساد الكبير"، مرورا إلى الخيانة في وضعيّات ليست بالقليلة وتعلّقت بشخصيّات حسّاسة على رأس الدّولة، هذه الوضعيّة فتحت الباب أمام إنفلات معلوماتي طمس المصادر وهمّشها واعتمد ما احتد من صفات قد يُنصف طرفا على حساب طرف آخر، غير أنّ التطوّر السّريع لظاهرة الإنفلات والإنسياب في النشر والإعلام أو/و الإخبار غير المثبت كاد يعصف بكلّ مكتسبات دولة ما بعد الإستقلال ورهانات دولة ما بعد جانفي 2011 في أزمة الخميس 27 جوان المنقضي.

 

عمليتان إرهابيتان صباحيتان بقلب العاصمة التونسيّة لفتتا الأنظار الى عمليّة تبادل نار بين القوّات المسلّحة وإرهابيين بجبال ولاية قفصة، ولم تفصح السلطات التونسيّة بعد عن تفاصيلها، ليضاف إليها بلاغ رسمي لرئاسة الجمهورية يفيد بنقل الرّئيس الى المستشفى العسكري اثر تعرّضه لوعكة صحيّة وصفت "بالحادّة" وفق نصّ البلاغ، أحداث متتالية زمنيّا سببت رجّة في الشارع التونسي ولخبطة على مستوى الإخبار في ظل غياب قنوات الاتصال الرّسمي حينيّا ممّا فتح باب التأويلات لتتطوّر الى سيناريوهات نسبت الى مصادر "مجهولة" في أغلب الأحيان وعرّفت قي أحيان أخرى بـ "الموثوقة" سواءً تلميحا من قبل بعض الشخصيات الوطنية وبعض النوّاب أو تصريحا من قبل بعض الصحفيين وصلت حد التأكيد من قبل بعض المؤسسات الإعلامية الأجنبية والمحسوية على بعض الأطراف داخل الصراع الدّاخلي الخليجي.
 

لم يمضِ الكثير من الوقت حتى انتشرت معلومات هنا وهناك عن عمليّات ارهابية وصل عددها إلى خمسة عمليات في أماكن مختلفة من الجمهورية من جهة ومعلومات عن وفاة الرّئيس التونسي في وقت حرج سياسيّا ومهدّد لنجاح الإنتقال الديمقراطي لارتباطه بامضاء قوانين ودعوة الناخبين وغياب للمحكمة الدستورية من جهة أخرى، وكلّ هذه المعلومات التي صنعت في الدّاخل وأستُثمرت في الخارج، دارت في ما يصطلح عليه بال "off the record" الذي خرج من إطاره الخصوصي وخولفت تراتيبه فكان السّلاح الضّار والهدّام أكثر منه إطار حواري يساهم في صياغة الخبر والوصول به الى التأكيد من خلال إيجاد مصدر رسمي يؤكّده لتكتمل عملية صناعة المحتوى الإخباري دون لبس أو شك،  فكيف انتقل ذلك الإتفاق الضمني بين الصحفي ومحاوره إلى العلن وصدح بما يحمله من توجيه وتحكّم في "البروباغاندا" وتغذيتها؟

 

من المتعارف عليه أنّ ال "off"  هو بالأساس اتفاق بين الصحفي وشركائه في الحوار حول عدم اعتماد محتوى الحوار أو نشره، ولا يمكن أخلاقيا للصحفي استعماله بشكل مباشر وأن أقصى ما يمكن فعله بالمعلومات المتحصّل عليها هو محاولة ايجاد أكثر تقاطعات ممكنة، في اتجاه تأكيد تلك المعلومات حتى الوصول في مستوى أخير الى نسب المعلومات لمصادرها المناسبة غير القابلة للتشكيك، والتحوّل من مرحلة معلومات غير مصرّح بها الى مرحلة ال"on" والتصريح الواضح والمثبت، وهذا التمشي تختلف حوله الآراء في مدى تطابقه وأخلاقيات المهنة الصحفية وما ترتبط به من مواثيق قيمية أخلاقية بالأساس في حين تتقاطع أغلب الآراء أن المعلومات المتحصّل عليها في ال"off" هي خيوط أوّليّة للخبر قد تساعد الصحفي في تحاليله ودقّة استخلاصاته وبالتالي حسن توجيهه نحو الزاوية المثلى للتناول الإخباري. ولا يمكن بأي حال من الأحوال الإفصاح عن محتوى ال "off"  أو أطرافه، وهنا يمكن الإشارة الى قاعدة "تشاتام هاوس"Chatham House المصاغة في بداية القرن العشرين من قبل المعهد الملكي للشؤون الدولية لحماية سريّة المعلومات المتبادلة والتي تؤكّد في المقام الأوّل ثقة المخبر ورغبته في ايصال رسالة وأخذها بعين الإعتبار من قبل الصحفي، وليس المقصود هنا دفن المعلومات الجيّدة حتى لو تم تسليمها خارج اطار اتفاق النشر، فتسليم المعلومات للصحفي لم تكن بهدف أن يمارس الأخير رقابة ذاتية على نفسه بقدر ما تقتضي وظيفته اعادة استخدام تلك المعلومات وتحمّل مسؤولية أخذ المسافة اللازمة والتحقق من صحتها.

 

بالعودة الى ما حدث في ال "off" يوم الخميس 27 جوان الماضي نجد أنّ أغلب الصحفيين قد تقاطعوا مع نفس المصادر الإخبارية التي سعت الى نقل هذه المعلومات "السريّة" معوّلة على مناخ التنافس بين وسائل الاعلام وصحفييها في التسابق نحو اثبات الجدارة بالسبق واثبات حنكة المؤسسة الإعلامية وصحفييها في الوصول الى الخبر مهما كانت درجة حساسيّته. فكان ال "off" أداة في يد المخبر يوجّه بها الصحفي والرّأي العام وفقا لما يريد معتمدًا في ذلك على غياب حلقة التدقيق والتحقيق وتناسي أنّ المعلومات متى لم تكن رسميّة فإنّها في حاجة لعمل صحفي ميداني لاثباتها.

 

بكل ما أدخلته المعلومات غير المؤكّدة من لخبطة وبعثرة للأوراق عند المواطنين التونسيين بقدر ما بيّنت وعرّت الى حد كبير العملية الإخبارية ورسّخت لدى فئة هامّة ضرورة التثبّت وعدم اتباع المعلومات غير المثبتة وغير المحققة في ضربة كبيرة وجّهت الى "الأخبار الزّائفة"، لكن تبقى النقطة السوداء الكبرى غياب الإتصال الرّسمي للدّولة وغياب النقاط الصحفيّة الدّائمة الذي فسح المجال لأرضية خصبة لنموّ الشائعات، وسيبقى ذلك الخميس لحظة مفصلية في تاريخ تونس ليس في السياق السياسي والأمني وحده ولكن في السياق الإعلامي وأدواته الخطيرة لتكون درسا غائبا عن أذهان أصحاب الدروس الإعلامية.

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter