alexametrics
أفكار

يوم من حياتي في دولة المختار

مدّة القراءة : 3 دقيقة
يوم من حياتي في دولة المختار

 

بقلم سيماء المزوغي

 

"أنا قذر، قذر بلا حدود، لذلك أصرخ كثيرًا بشأن الطهارة". كافكا

طلّقت نهائيا ما كنت أتبجح به من طهارة نفسي يوم أدركت أنّي أحمل كل عوالم الشر داخلي، هذا ما توصلت إليه مع طبيبي، حقيقة الأمر، ومع هذا فأنا أدفع ضرائبي وأداءاتي كمواطنة صالحة! قد يبدو كلامي مبهما نوعا ما، ولكن سأخبركم بالحكاية كيف بدأت ..

في عهد المختار، الرؤية لا تمتدّ إلي ميل أو حتى ستة أميال، الرؤية منعدمة، والضباب لا ينتهي، ولا توجد إنارة كافية لدحر ظلام الطريق..

في الحقيقة تتشابه كل أيّامي في دولة المختار هذه، وفي الكثير من الأحيان أتساءل في كل الذي يحدث، ما الفرق بين الحقيقة والخيال؟ فلا أحد يعلم هنا غير المختار..

هل نحن في مرحلة تأسيسية افتراضية  تلوّنت بمرحلة استثنائية؟ أم نحن في مرحلة استثنائية غدت بقدرة المختار تأسيسية؟ كيف يستطيع المختار أن يؤسس لتونس أخرى  بسردية جديدة وتاريخ جديد، ويغيّر أجزاء ليست بالهينة أو السهلة من عقدنا المجتمعي بعيدا عن الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والخبراء والمختصين وأهل الفكر والعلم؟ هل كتب علينا أن نرى تونس، بلادنا، بعيون الرئيس؟..

كنت أحلم كثيرا، أقصد أتذكّر أحلامي لدرجة أنّها تختلط مع الواقع فلم أعد أميّز بينها.. يحدث أن أنام مباشرة بعد مشاهدة الأخبار، ليعلق صوت رئيسنا المختار المفدّى في أذني الباطنية وهو يتوعّد الخونة ويهدّد من يعبث بقوت شعبه .. عندها يتفنّن عقلي في إبداع سيناريوهات مشبعة بالفنتازيا والجنون.. وكنت أتساءل هل أنا مجنونة فعلا؟ لا أنكر ومضات الجنون التي تنتابني من حين إلى آخر، ولا بأس بالجنون ما دمت رئيسة نفسي، وغير وصيّة على أحد، ولكن هذا لا يمنع أني سمت أحلامي الكابوسية المتكررة وأريد أن أفرّق بين الحقيقة والخيال..

 

إلى أن قررت في أحد الأيام، الذهاب لطبيب كي يساعدني على التمييز بين الحقيقة والخيال، فأنا أحلم حرفيا بكل ما قد أراه وأسمعه مع بعض التعديلات العجائبية،  مثلا حلمت البارحة أنّي أنتظر دوري في صف طويل لشراء الخبز من تلك المخبزة التي ذهب إليها الرئيس في باب الخضراء، ومع أننا كنا في وضح النهار إلا أنّ فوانيس الإنارة العمومية لا تشتغل، فابتسمت لهذا! وكانت الشوارع نظيفة للغاية دون قمامة، وعندما وصل دوري  رأيت الخباز يطفو فوق سحابة من بنزين تلك السفينة الغارقة في قابس، وعندما أمسكت الخبز وجدت داخله سمكة من أسماك موريتانيا، وفي بطن السمكة كانت هنالك ورقة تشير إلى نتائج الاستشارة الوطنية، فقلت للخباز، ما هذا؟ فردّ ذلك خبز الغرف المظلمة، فقلت له: تعلّم تنفّس البخارة، فقال لي"مانيش مسامح"..

 

وفي أحد الأيّام  ذهبت إلى طبيب كي يساعدني على هذه الأحلام قليلا، أردت أن أعاين وأصالح كل القذارة التي تختبئ داخلي، فأنا من جيل  امن بأحلامه و صدّق منذ أكثر من عقد أن تونس ستتحرر من قيودها وأنّ التاريخ وهب لنا فرصة للحلم ونحت معالم وطن جديد.. غير أنّ أحلامنا خُذلت خذلانا ذريعا..

ولما أخبرت الطبيب بما ألمّ بي، سألني هل اذكر أوّل حلم على هذه الشاكلة؟ نعم أذكر:  

هنالك يجلس الملك بعيدا عن رقعة الشطرج، وينفخ دخان سجائره ويراقب تناطح البيادق على أرض المعركة، ويلوّح بين الفينة والأخرى بيده لخصمه الملك الآخر الذي يتربّع بدوره على كرسيّه في الجهة الأخرى.. قائلا والابتسامة لا تفارق شفتيه:" سيأتي يوم وأنال منك، وأحطّم عرشك إلى الأبد"..

ففي ممالك الشطرنج العديدة، تتابع الملوك لعبة البيادق من بعيد، في صمت وهدوء..

احتدمت المعركة، سقطت بيادق وخيول وفيلة، وهدّمت قلاع.. وخاف الملك الأسود من الهزيمة، وأدرك أنّ الوقت لا يمضي لصالحه، فاختار فارسا سلّمه راية المملكة، وأقحمه في المعركة..

دخل الفارس رقعة الشطرنج، فوجد يداه ترتعشان لا تقوى على حمل السلاح والقتال، ونسي كل التكتيكات والخدع الحربية التي تعلّمها من الملك، بل أصبح من هول المعارك لا يفرّق بين بيادق رقعته وبيادق الرقعة التي تنافسه على العرش.. فقط كان يحاول إزاحة من يقابله حتى ولو كان يحمل نفس رايته.. عسى أن يطبّق وصايا الملك ويحمل المشعل عنه.. وبينما المعركة تحدّ ظلّ الملك الأسود على حاله، ينظر من بعيد، ملك لا تهمّه المعركة بقدر ما يؤمن بديمومة عرشه وبتحقيق نبوءة الأسطورة التي تقول: "أنت الرقعة وسيّد الشطرنج" هكذا كان يناجي نفسه دائما..

في تلك الأثناء أراد الملك الأبيض أن يشنّ هجوما مضادا ليُبعد الفارس الجامح، الفارس الذي لا يقوى على حمل السلاح بقدر ما تحالفه قوى القدر والحظ.. أراد الملك الأبيض أن يقلب رقعة الشطرنج وينهي المعركة ويتربع على العرش الأكبر.. فنظر إلى بيادقه المتبقية فانتبه لبيدق طاعن في السن، لحيته بيضاء، يتكلّم كلام الحكماء، يحمل كتبا على ظهره، وخنجرا في خصره.. وكان هذا البيدق ساحرا، من تلتقط أذناه كلمة من كلامه يجنّ عقله وتُسلب إرادته فيصبح بيدقا بلا روح ولا هدف، روحه وهدفه وكيانه: هذا البيدق العجوز..

قطع هذا البيدق الساحر أشواطا عديدة من المعركة، وأكل عقول من اعترضوه.. إلى أن وصل وجها إلى وجه مع الفارس الأخرق، ذلك الذي لا يقوى على حمل السلاح.. عندها وقف الملكان يترقبان من سيعتلي العرش أولا، كانا ينظران إلى رقعة الشطرنج ولم تستوقفهما مشاهد الدمار والخراب، لم تستوقفهما مشاهد الرؤوس المقطوعة ولا القلاع المهدّمة، ولا المزارع المحروقة بالملح..

لم يكن يحوم على رقعة الشطرنج سوى الدخان والضباب، ولا تتراءى إلا الهياكل والأجساد المدمّرة تدميرا.. عندها انقشع الضباب فجأة، واشتعلت الأضواء، لتتضح الرؤية فجأة، وليتبيّن أنّ للملك الأبيض والأسود لون واحد، الرمادي، ولرايتهما لون واحد، الأسود، وأنّ الأرواح التي كانت تناصر ملوكها كانت مصابة بعمى الألوان.. انهارت رقعة الشطرنج واحترقت وتناثر من فيها وتآكل.. وبقيت كل الملوك، ملوك الشطرنج، تنتظر بيادق جديدة عسى أن تعاد معركة الجنون والعبث في رقعة جديدة وببادق مختلفة..

عندها قال لي الطبيب إنّ مشكلتك عويصة، ولا بدّ من حصّة أخرى لنكمل معالجة الأمر..

يتبع....

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter