نحتاجُ محكمةً دستورية.. ونحتاجُها الآن!
ما ينصّ عليه الدستور في حالة شغور منصب رئيس الجمهوريّة
مورو: اليوم سيتم تداول الأسماء الأربعة للمحكمة الدستورية
الفصل 148 من الدستور: يتم في أجل أقصاه سنة من الانتخابات التشريعية إرساء المحكمة الدستورية.
فلسفةُ الدولة الوطنية كانت دومًا مُستلهمةً من روح القانون، تنتهجهُ منوالاً شرعيا وحيدًا، وفيصلاً لكل مقام. أما دُستورنـا- بنون الجمع التّي تذكرنا أن المركب واحد- فهو إمتداد طبيعيّ لتصور دولة القانون القويّة التي نُريد. عودةٌ سريعة الى الصورة الكُبرى لشأننا الدّاخلي، ونقائصه غير القابلة للإنكار، تبيّنُ أن دُون المنحى الرقابي، ستبقى فصول دستور 2014 قابلة للتأويل العرضيّ، والانتهاك، والتحيّل. أصرت القوى الديمقراطية- حصرا، على تضمين "علوية القانون والدستور" في التوطئة، لأنه لا يمكن للدستور أن يبقى حيا دون ضمانات، دون 12 عضوا أكفاء، يراقبون دستورية القوانين التي يقرها المشرع أو يقترحها المنفذ، سلطة خامسة ان شئتم، تدعى المحكمة الدستورية.
انشغالنا الجماعي بالشأن السياسي، جعل الانتباه ينزاح عن ضرورة استكمال ارساء الهيئات الدستورية التي تقينا شر سوء تأويل التشاريع والفصول، وسوء مايعد المتربصون بالدستور المدني- الحداثي الذي لا ينطبق مع تصوراتهم المجتمعية الغريبة عن هذا المجتمع. صبيحة اليوم 2 جويلية 2019، إنتهى إجتماع رؤساء الكتل بالبرلمان بتسجيل تقدم ايجابي في التوافقات حول المرشحين لعضوية المحكمة الدستورية وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، حيث تم الاعلان على الاتفاق على عقد جلسة عامة يوم 11 جويلية لإنتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، وذلك إثر موافقة جميع الكتل البرلمانية على ترشيح العياشي الهمامي لعضوية المحكمة الدستورية -اذا مااستثنينا كتلة الحرة عن مشروع تونس.
طبيعة الهيكل الذي نريد بعثه، ليست استشارية، تكتفي باسداء النصائح اللطيفة الى المشرع، بل هي جهاز حاسم يصدر قرارات، تمنع السلط التشريعية والتنفيذية –ببساطة- من خرق الدستور. أعاد الحديث عن الشغور في رئاسة الجمهورية أهمية المحكمة الدستورية الى الواجهة، مستوجبا وقفة تقييم حقيقة لدستور بلغ عامه الخامس دون أن يرسى ذراع قضائي/ نوعي يسهر على تطبيقه. تستمد المحكمة الدستورية أهمّيتها في المرحلة الحالية- وأي مرحلة، من أنها عماد إقامة دولة القانون والمؤسّسات، وضمان لعلوية الدستور ولحماية المسار الديمقراطي. ستكون نظريا، أحد أهم روافد تنزيل الدستور في ساحة التطبيق بدلا عن مثالية برج النظري العاجي. وستمكننا من اختبار مدى متانة منجزنا الدستوري الفريد من نوعه في المنطقة، واختبار مدى متانة ديمقراطيتنا، وكشف عيوبها وبالتالي اصلاحها. مخاوف البعض من المحكمة الدستورية، مرده أنها جهاز قضائي مستقل من جهة، ومختص من جهة أخرى، شيئان لايتوفران في العديد من نوابنا الذين يمررون القوانين ب"نعم" أو "لا" حسب اهواء الولاءات الحزبية. اعضاء المحكمة هم من اهل الاختصاص المتشبعون بروح القانون والمتخصصون فيه، من المتحصلين على شهائد الدكتوراه، والباحثين، والكفاءات المستقلة.
لنفهم اذن، ماهي هذه الهيئة التي فشلنا في انتخاب أعضائها 5 مرات منذ الانطلاق في محاولات الارساء منذ 2017. المحكمة الدستورية هي هيئة قضائية مستقلة، ضامنة لعلوية الدستور وحامية للنظام الجمهوري الديمقراطي وللحقوق والحريات، وفق ما ورد في الفصل الأول من قانونها الأساسي. تتركّب المحكمة التي ننتظر بفارغ الصبر- من اثني عشر عضوًا، ثلاثة أرباعهم من المختصين في القانون. ينصّ الفصل 118 من الدستور أنه يعيّن كل من رئيس الجمهورية، ومجلس نواب الشعب، والمجلس الأعلى للقضاء، أربعة أعضاء، لفترة واحدة مدّتها تسع سنوات. ويجدَّد ثلث أعضاء المحكمة الدستورية كلّ ثلاث سنوات. وينتخب أعضاء المحكمة من بينهم رئيسًا ونائبًا له من المختصين في القانون، في انتخابات داخلية.
تتولّى المحكمة أربع مهام رئيسية. اولى المهام وكبراها، مراقبة دستورية مشاريع القوانين، لنقل، مثلا كدستورية القانون الانتخابي الجديد. تقوم المحكمة بمراقبة دستورية مشاريع القوانين بموجب طعن يقدّمه رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو ثلاثون نائبًا في مجلس نواب الشعب. عند فرضية القضاء بعدم دستورية مشروع قانون ما، تحيل المحكمة هذا المشروع إلى مجلس نواب الشعب مجدّدًا للتداول فيه ثانية، وعلى رئيس الجمهورية قبل ختمه إرجاعه للمحكمة للنظر في دستوريته مرة أخرى. مراقبة دستورية القوانين الموجودة مسبقا، هي ثاني المهم التي دونت للمحكمة الدستورية ضمن الفصل 118. تنظر المحكمة في دستورية أي قانون وذلك بموجب الدفع من قبل الخصوم في القضايا المنشورة. ويوقف هذا الطعن النظر في القضايا الأصلية حتى تبتّ المحكمة في دستورية القانون المنطبق. مرد ذلك، هي أن طبيعة القوانين الوضعية تقتضي أن هذه القوانين قابلة للنقاش والتنقيح والتعديل أو الالغاء، عكس الأنظمة القروسطية، الملكية، أو الديكتاتورية المنتشرة في المنطقة العربية، والتي لاتعترف بتنقيحات وتعديلات الا بطرق أفقية/سرية. تتولى المحكمة كذلك النظر في دستورية تعديل الدستور، اذ تتدخّل في حالة المبادرة بتعديل الدستور. وأخيرا، تقوم بمراقبة دستورية المعاهدات.
لا يمكن الحديث عن محاربة الفساد دون هيئة دستورية مخصصة لذلك، ولا يمكن الحديث عن تنظيم القطاع السمعي البصري دون هيئة مخصصة لذلك، ولم يكن من سبيل الى الحديث عن استحقاق انتخابي دون استكمال إرساء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. في الواقع ما الهيئة كشكل تنظيمي الا من بنات الفكر المؤسساتي الحداثي الني تتبناه تونس. هي وسلة تنظيمية لتطبيق مبادئ الدستور، ودستورنا ينص صراحة على ضرورة ارساء سبل تطبيقه التي يبقى دونها مرجعا قانونيا منقوصا، لا على مستوى المحتوى بل على مستوى لوجيستيات التنفيذ. ممارسة للسلطة في غياب المحكمة الدستورية هي قانويا ممارسة منقوصة من الشرعية لا مراقبة فيها للسلط الثلاث، ممارسة قد تعيدنا الى نير الحكم المطلق، حيث لا عين على السلطة. الحكم المطلق نعم، تصل خطورة الأمر الى حد هذا اللفظ الذي ظننا أننا تركناه ورائنا ومضينا منه أحرار، فماذا يعني –مثلا- أن يقترح حزب حاكم قانونا ما، ويمرره الى البرلمان، الذي يصادق عليه بأغلبية الحزب الحاكم نفسه حتى ولو كان لادستوريا، سوى أن يكون هذا تجليا لحكم مطلق- يافع تتداخل فيه السلطة التنفيذية والتشريعية. فمامن حديث اذن عن تطبيق للدستور، دون محكمة دستورية.
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires