alexametrics
آراء

وحوش العدالة

مدّة القراءة : 6 دقيقة
  وحوش العدالة

 

يبدو أنها ستصبح من بين عادات رئيس الجمهورية ..  ففي كل اجتماع لمجلس الوزراء يستعرض أمامنا جهله بالشأن العام وبشؤون الدولة وبمبادئ الديمقراطية وبمرفق العدالة.

 

بعد أن تساءل، يوم الخميس 21 أكتوبر 2021، عمّا آلت إليه الحوافز والتشجيعات التي توفّرها الدولة بعنوان الإستثمار، هاهو يستفسر يوم الخميس الماضي عن مصير الهبات والقروض التي تحصلت عليها تونس خلال السنوات الفارطة وقد شدد في هذا الصدد على ضرورة القيام بجرد شامل ودقيق لهذه الهبات والقروض الخارجية.

 

لكن سيدي الرئيس يكفي أن تقرأ الصحف وتقرأ تقارير البنك المركزي وتطلع على ميزانية الدولة وقانون المالية .. ففيها تجد الجواب أمام ناظريك .. طالما قلنا وكررنا منذ سنوات أن تمويلات القروض منذ 2011 تم رصدها بعنوان الباب الأول من ميزانية الدولة لخلاص رواتب الموظفين وأيضا لتمويل الميزانية الضخمة لرئاسة الجمهورية والتي بلغت هذا العام 169 مليون دينار (أو 169 مليارا كما تحبّذون يا سيادة الرئيس) أي بنسبة زيادة قدرها 17 بالمائة مقارنة بميزانية 2020. في زمن بن علي كانت ميزانية مؤسسة الرئاسة في حدود 79 مليون دينار (أو 79 مليارا كما تفضّلون نطقها).

 

أنتم من تتحذثون عن التقشف، فلتبدؤوا بأنفسكم وتخففوا من ميزانيتكم .. تخلّصوا من كل الموظفين الذي دخلوا القصر بعد 2011، دون إجراء أية "مناظرة" مثلما ينص ذلك القانون ومبذأ المساواة في الفرص .. قوموا بحل كل تلك المؤسسات البيئية التي تشغّل آلاف الأشخاص الذين لا يقومون بأي عمل وتُمنح لهم الأجور على أنهم عمّال حضائر .. اتخذوا قرارا ببيع كل المؤسسات العمومية المفلسة والتي تمر بصعوبات مالية حادة .. الأموال أمامكم يا سيدي الرئيس والفاسدون (مهما كانت درجة فسادهم) لا يحتكمون إلا على الفُتات مقارنة بالمبالغ الضخمة التي تصرفها الدولة التي تديرون أنتم شؤونها.

 

رئيس الجمهورية (وأتفهم ذلك) يفضّل توخّي الشعبوية والحديث عن الفساد والغش والأموال المنهوبة وعن الكسل والمؤامرات .. هو يفضّل أن يتوجّه لخصومه ومعارضيه بنعوت وأوصاف من معجم الطيور والحيوانات، على أن يخوض في جوهر الأشياء ويقتلع المشاكل من جذورها .. خطته هذه ناجحة وبامتياز .. يكفي النظر إلى الشعبية الكبرى التي يحظى بها لفهم أن الخطاب الشعبوي الذي ينتهجه ناجح .. فأنصاره يعشقون هذا النوع من الخطب البسيطة التي لا تستوجب إعمال العقل والإفراط في التفكير هذا إن وجد عقل وتفكير أصلا ..

 

الوصفة السحرية لهذا الخطاب الشعبوي بسيطة جدا وأثبتت جدواها حيثما تم اعتمادها وتجريبها : يكفي اختيار عدو مشترك وإطلاق الحشود خلفه لتنهشه.

 

في الولايات المتحدة الأمريكية، العدو المشترك هو الرجل الأسود أو المكسيكي .. في أوروبا العدو المشترك هو الشخص المغاربي ومن أصول مسلمة وإفريقية .. في اليابان العدو المشترك هو المواطن الصيني .. وفي كوريا الشمالية هو الكوري الجنوبي .. أما في تونس فإن العدو المشترك هو الشخص الفاسد.

 

بفضل شعبيته الواسعة، أعطى رئيس الدولة الإشارة خلال مجلس الوزراء الأخير، لدعوته "الوطنيين الصادقين" إلى تطهير البلاد من كل من عبث بمقدرات الدولة والشعب .. وهو ما كانت تنتظره تلك الحشود السائبة ..

 

بعد انقضاء ثلاثة أشهور وأسبوع على انقلاب 25 جويلية، مازال الرئيس يحظى بشعبية لا نظير لها .. فهل يُعقل هذا ؟ هل أن الرئيس لديه مشروع قادر على إنقاذ تونس من حالة الركود التي تتخبط فيها ؟ نعم .. سيجيبك كل أنصاره مجمعين .. لكن لندقق في الواقع عن قرب فالحقيقة أكثر وضوحا.

 

بعد فشل رئيسين للحكومة اختارهما بنفسه، تولّى قيس سعيّد تعيين نجلاء بودن على رأس الحكومة الجديدة .. فهل استمعتم لهذه السيدة تتحدّث ؟ هل اطلعتم على برنامجها ؟ هل تعرفون ماهي توجهاتها الإيديولوجية ؟ أهي ليبيرالية أم اجتماعية أم شيوعية ؟ علينا أن نقر بأمر وهو أن كل الأجوبة على هذه الأسئلة هي سلبية وبالنفي .. ومع ذلك فإن الحشود "الوفيّة" التي تحدثنا عنها، لديها ثقة في هذه السيدة، فقط لأنه تم اختيارها من قبل رئيس أثبتت التجارب السابقة أنه لا يحسن الإختيار وهو سيء للغاية في عملية الكاستينغ.

 

رئيس الجمهورية قدّم مشروعا مجتمعيا يرتكز على اللامركزية وإدارة الحكم من قبل لجان شعبية والاستغناء عن الأحزاب السياسية.

 

هل أن مثل هذا المشروع يوجد من قبل على كوكبنا ؟ الجواب بلا .. هل هناك دول بلا أحزاب ؟ الجواب هنا أيضا بلا ..

 

هل تمت تجربة هذا المشروع من قبل في أماكن أخرى ؟ لقد انطلقت فكرة الحكم عبر اللجان الشعبية من روسيا في القرن التاسع عشر وتم تبنّيها في دولتين هما الصين في 1966 وليبيا في 1969 .. بعد مرور عشر سنوات وضع الصينيون حدا لتجربتهم تلك نظرا لنتائجها الوخيمة والكارثية .. أما بالنسبة إلى ليبيا فلم تكن هناك دولة أصلا في زمن الراحل معمّر القذافي .. لكن يبدو أن قيس سعيّد أذكى من كل علماء السياسة والمنظرين لها في الكون، الأحياء منهم والأموات .. الواقع أنه لا يمكن لمشروعه المجتمعي أن ينجح .. فتجربة مشروع فشل في السابق هي بكل بساطة فكرة حمقاء .. هو ليس فقط يقودنا نحو الفشل الذريع بل إنه سيقضي على ما تبقّى من الدولة التونسية.

 

هذه الدولة لها التزامات ورواتب يجب عليها خلاصها .. هل هو قادر على ذلك ؟ العديد من الموظفين تحصلوا على أجورهم بشكل متأخر بالنسبة إلى شهر أكتوبر .. وها أنا أقولها لكم من الآن إن هذا التأخير سيتكرر كثيرا في المستقبل.

 

هل قدّم الرئيس خطته لضخ الأموال في خزينة الدولة ؟ الجواب بلا ..

هل تفاعل واتخذ القرارات المناسبة بعد صدور التقرير الأخير للبنك المركزي التونسي ؟ الجواب بلا ..

 

هل قدّر حجم وعواقب الترقيم السيادي الأخير لتونس ؟ الجواب هنا أيضا بلا ..

 

رغم هذه البديهيات التي لا تبدو كذلك في نظر أنصار الرئيس، مازال البعض يتغنّى بخصال قيس سعيّد .. يتجاهلون كل الأسئلة المطروحة أعلاه ويكتفون بالرد : "الرئيس يعرف جيدا ماذا يصنع .. سيصادر أموال الفاسدين ويرجعها للشعب .. فكفّوا عن انتقاد الرئيس ولا تدافعوا عن الفاسدين !".

 

هناك مصيبة حلّت بتونس في 2011 وهذه المصيبة إسمها "الإسلاميون" وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية وعلى رأسه منصف المرزوقي .. هم أول من تحدثوا عن الأموال المنهوبة ومن أفرغوا خزائن الدولة وشيطنوا النظام السابق وقاموا بتزوير التاريخ.

 

تتذكرون كيف أنه في سنوات 2011 و2012 تم الزج في السجن بوزراء سابقين وإطارات عليا في الدولة .. أشخاص خدموا الدولة لكن في غفلة من الجميع تم اتهامهم بالفساد .. تذكروا كيف تمت مطاردة رموز النظام السابق أمثال عبد الوهاب عبد الله وعبد الله القلال وعبد العزيز بن ضياء ونبيل الشتاوي وعشرات غيرهم ممن قبعوا لشهور عديدة وراء القضبان وخرجوا بعد ذلك أنقياء لا تشوبهم شائبة.

 

المحاكم الشعبية التي انتصبت وقتها، تحت أنظار الإسلاميين وحزب المؤتمر، هي نفسها التي يتم نصبها اليوم في حق المهدي بن غربية وسمير الطيّب وعامر عيّاد وأحمد السماوي، تحت إشراف أنصار قيس سعيّد.

 

الضغوط التي مورست بالأمس على القضاء في ذلك الوقت هي ذاتها التي تمارس اليوم على قضاة اليوم.

 

خلال مجلس الوزراء الأخير، تدخّل قيس سعيّد مرة أخرى في عمل القضاة، عبر تهديدات مبطّنة بالإشارة إلى إمكانية التخلّص من المجلس الأعلى للقضاء في شكله الحالي.

 

على شبكات التواصل الإجتماعي، هناك أشخاص همجيون ومتوحشون بصدد الدوس على قرينة البراءة وتدنيس شرف شخصيات خدمت الدولة، فقط لإرضاء غريزة حيوانية فيهم تقوم على الحقد والكراهية.

 

بهكذا رئيس يدعو، بصفة علنية، إلى القضاء على الفاسدين، فإن هؤلاء المتوحشين الهمجيين ليس لهم سوى طلب وحيد : إعادة سيناريو قتل الراحل لطفي نقض.

 

رئيس الجمهورية، هذا الأستاذ الجامعي المختص في القانون، هل يعرف ما معنى قرينة البراءة ؟ هل يعلم أنه ليس من حقّه ممارسة أية ضغوطات على مرفق العدالة ؟ هل يعلم أن أحد مبادئ العدل يقتضي أن تكون الحرية هي القاعدة والحرمان منها هو الإستثناء ؟ فكيف لأستاذ في القانون وهو رئيس للجمهورية أن يدوس هكذا القوانين ؟!

 

ما يحدث اليوم في تونس في 2021 مطابق تماما لما حصل في 2011 و2012 حين تعمّد القادة في تلك الفترة دوس القوانين الأساسية للبلاد.

 

المهدي بن غربية وسمير الطيب وأحمد السماوي ليسوا فوق القوانين ولكنهم كذلك ليسوا دونها .. فمن حقهم التمتع بمحاكمات عادلة .. أنا هنا لا أقول إنهم أبرياء فلا علم لي بحقيقة الأمور وليس هذا موضوعنا .. ما أريد قوله هو أنه ليس من حق أحد أن يعامل هؤلاء على أنهم فاسدون ولا أن يحرمهم من حقهم في محاكمة عادلة ونزيهة أو أن يتعدّى على قرينة البراءة .. كما أقول بما أن القاعدة هي الحرية في مبادئ العدالة، لا داعي لأن يتم الزج بهؤلاء في السجن مادامت التحقيق جار وبما أنهم لن يفروا أو ينتحروا .. فمن الأفضل ترك مجرم طليقا على وضع بريء في السجن.

 

أيتها الحشود من الوحوش والهمجيين المساندين للمطاردات والمحاكمات خارج الأطر القانونية، تخيّلوا ولو للحظة واحدة أن أباكم أو إبنكم يقبع ظلما في السجن ..

 

من حق القضاة وواجبهم العمل في ظروف سليمة بعيدا عن الضغوط .. وأن يمارس الرئيس وحشوده المتوحّشة الضغوطات على القضاة، يجعل أن  الأحكام القضائية تشوبها بعض الثغرات الإجرائية .. في دول أخرى حيث يتم احترام العدالة، من شأن هذه الضغوطات والإخلالات الإجرائية أن تُسقط القضايا لتصبح باطلة.  

 

للأسف لا يعير قيس سعيّد أي اهتمام لهذه الإعتبارات ولا يزعجه البتة أن يلطّخ شرف الناس، فقط لأنه يشتبه في فسادهم أو غيرها من التهم.

تذكروا ماذا قاله عن الوزراء الذين اقترحهم هشام المشيشي ومنعهم من أداء اليمين ..  منذ أكثر من ثلاثة شهور رحل المشيشي .. هل تم التحقيق مع أحد من هؤلاء الذين شوههم الرئيس طوال أشهر ؟

 

تذكروا كل تلك الشخصيات التي وُضعت قيد الإقامة الجبرية مباشرة بعد 25 جويلية 2021 .. هل تمت محاكمة شخص واحد فيهم ؟ الجواب طبعا بلا ..

 

تذكروا مئات الشخصيات التي مُنعت من السفر بعد 25 جويلية 2021

 

لقد تم التعدي على حقوق كل هؤلاء الأشخاص كما تم تشويههم طوال أسابيع، على شبكات التواصل الإجتماعي، من قبل الوحوش الهمجيين الذين نصّبوا أنفسهم قضاة من خلف شاشات حواسيبهم.

 

في المقابل وفي الوقت الذي يتم فيه تشويه أناس شرفاء وآخرين دون ذلك، يستعد قيس سعيّد لإصدار عفو جبائي وقد أعلن عن ذلك في مجلس الوزراء الأخير .. ملحوظة بسيطة للحشود المساندة: يتم إقرار العفو لفائدة الفاسدين وليس الشرفاء .. وهذه  المرة لن يكون هناك فرصة للاعتراض على قرار الرئيس، بموجب الأمر 117.

 

هذا هو حالنا مع الرئيس قيس سعيّد: لدينا أشخاص يفترض أنهم شرفاء يقبعون في السجن ولدينا متهربون من الضرائب سينتفعون بعفو جبائي .. واصلوا التصفيق لقيس سعيّد .. واصلوا تشويهكم لمواطنيكم الشرفاء ممن خدموا هذه الدولة .. في نهاية المطاف أنتم لستم سوى حشود من الوحوش والهمجيين. 

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter

تقرؤون أيضا

03 جانفي 2022 16:04
0
30 ديسمبر 2021 16:29
0
27 ديسمبر 2021 17:00
0