alexametrics
أفكار

بئس ديمقراطية كهذه..وبئس انتخابات!

مدّة القراءة : 4 دقيقة
بئس ديمقراطية كهذه..وبئس انتخابات!


محمود بوناب

يبدو أن الحديث النبوي القائل "كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" لا ينطبق فقط على المُحْدَثَات والبدع الدخيلة على الفقه والعقيدة والمناسك (وهي بدع كثيرة منذ ظهور الرسالة المحمدية، مما جعل المسلمين اليوم متأخرين عن معظم الحضارات الإنسانية نتيجة فشلهم في الإجتهاد الفكري والإبداعي والإبتكار النقدي وعجزهم عن مواكبة التطور العلمي)، بل أن ذلك الحديث قد ينطبق أيضا على البدع والمُحدَثَات في عالم السياسة مع فارق بسيط هو أن النار في المعنى الديني للحديث هي نار الآخرة بينما النار في عالم السياسية هي تلك التي يكتوي بها الناس في حياتهم جراء جهالة حكامهم وغطرستهم وخياراتهم العشوائية!

وقد عرف التونسيون منذ 14 جانفي 2011 مُحْدّثَاتٍ وبدعا كثيرة غيرت من بعض سلوكياتهم وعاداتهم وطبيعة علاقتهم بالدولة، لكن لم توجد في المشهد السياسي بدعة تَبين أنها دخيلة على ثقافة المجتمع وتقاليده وتاريخه كتلك التي أورثتها للتونسيين، بذريعة الخوف من "التغول السياسي"، حركة النهضة وأتباعها في الترويكا والأحزاب التي تحالفت معها وكل من أيدهم داخل المجلس الوطني التأسيسي وخارجه في صياغة دستور أعرج كبّل البلاد بنظام سياسي هجين لا رئاسي ولا برلماني (منزلة بين المنزلتيْن)، عمادُه نظام انتخابي منحرف ومحبوك على المقاس وقانون أحزاب هو أقرب إلى المهزلة والعبث...

وقد انكشفت اليوم هذه العاهات والنواقص للتونسيين بكافة مشاربهم الفكرية والسياسية في الحصيلة الضحلة للولاية التشريعية المنقضية التي هي نتاج تلك الخيارات الآنية المُبَيَتة وغير محسوبة العواقب.

ولو تساءل الناخبون قبل الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات المقبلة عن مدى وفاء نواب القوائم التي منحوها ثقتهم بوعودهم الإنتخابية ومدى رضاهم عن أداء الأحزاب التي تشكلت منها حكومتا "الوحدة الوطنية" الأولى والثانية، وعلى ما أنجزه مجلس نواب الشعب خلال السنوات الخمس الماضية من قوانين وتشريعات في خدمة المواطنين والإقتصاد الوطني والأمن القومي وترسيخ الإنتقال الديمقراطي وتثبيت الهيئات الدستورية...لقرر جل الناخبين البقاء في بيوتهم يوم التصويت من شدة ما أصابهم من قرف ويأس من النُخب السياسية بأكملها.

ومن المحزن القول إن الطبقة السياسية التونسية فشلت فشلا ذريعا، حكما ومعارضة، في تحمل مسؤولياتها الوطنية وواجباتها الدستورية وعجزت عن إدارة خلافاتها بطريقة حضارية وضَيَّعتْ  جل عهدتها في تجاذبات ومساومات حزبية رخيصة وصراعات سياسية عقيمة لا علاقة لها بمصالح البلاد والعباد، بل يمكن القول دون تجنَ إنها خانت الأمانة التي حمَلها لها الناخبون في أكتوبر2014، وإلا لما انتهكت الدستور بكل صفاقة وتأخرت 4 سنوات كاملة في انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية التي هي ركيزة منظومة الحكم التي أقرتها بنفسها.

ولا جدال في أن المشهد السياسي الوطني سيزداد فوضى وضبابية وجمودا في السنوات القليلة المقبلة إذا لم يهبَ التونسيون هبة رجل واحد بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة، بقطع النظر عن ميزان القوى الذي ستفرزه ومن سيفوز بها، من أجل فرض إرادتهم في تغيير هذه الأوضاع المزرية ووضع حد لكل المهازل المهينة التي تكبل قدراتهم على النهوض بالبلاد وبناء مستقبل لأولادهم أفضل من حاضرهم القاتم، لأن مواصلة التعويل على أحزاب سياسية تم اختبارها خلال ولاية تأسيسية تواصلت 3 سنوات وولاية رئاسية وتشريعية مدتها 5 سنوات أمر لم يعد هنالك جدوى ولا طائل من وراءه.

لقد تبين للتونسيين أن معظم أطياف النخبة السياسية، وبالتحديد الأحزاب الكبرى التي تصدرت المشهد العام وتولت إدارة البلاد منذ 2011، غير قادرة على تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الحزبية والفئوية والشخصية، وأنها فاقدة للمسؤولية والأمانة والإلتزام الوطني وغير مؤهلة لقيادة التحولات التي طرأت على البلاد والمجتمع وعاجزة على تلبية ولو الحد الأدنى من طموحات التونسيين في العدالة والرخاء والاستقرار وإرساء دولة القانون، وأنه لا يهمها من العملية السياسية برمتها إلا الكراسي والإستفادة القصوى من غنائم السلطة.

لذ، فإن المأزق السياسي الذي آلت إليه البلاد والتحديات المفصلية التي تواجهها  تقتضي من صناع القرار وبالتحديد من رئيس الجمهورية المنتَخب، لأنه الوحيد الذي يملك اليوم شرعية وطنية لا جدال حولها ولا ينافسه فيها أحد، بقطع النظر عن محدودية صلاحياته الدستورية، التحلي بأعلى درجات الجرأة والصدق لوضع الطبقة السياسية بكافة أطيافها أمام مسؤولياتها الوطنية ومصارحتها، كل المصارحة، بأن بناء الأوطان يقتضي من نخبها التحلي بالتواضع ونكران الذات والتضحية والعمل الدؤوب من أجل النهوض بالوطن ونظافة يد لا يغرّها مال أو جاه والتراجع عن الخيارات الخاطئة وغير الملائمة لمصلحة البلاد، وأن بناء الديمقراطية ودولة القانون وحماية الحريات والتداول السلمي على الحكم لا يقبل ممارسات الفوضى والمحسوبية والتسيب والتلاعب بمؤسسات الدولة.

وبما أن وفاة ألرئيس قايد السبسي قد قلبت الرزنامة الانتخابية وأصبح الإستحقاق الرئاسي سابقا للتشريعي، فإن فرصة تاريخية، ربما لن تتكرر قبل عقود، ستكون متاحة أمام الرئيس المنتخب، سيما إذا ما فاز بأغلبية مريحة (بين 55% و65%) وبنسبة مشاركة عالية في التصويت (بين 65% و70%)، من أجل إطلاق مبادرة وطنية جريئة خلال السنة الأولى من ولايته، بعد التشاور مع الفاعلين السياسيين والهيئات المدنية. وتهدف هذه المبادرة الرئاسية إلى:

1-   إجراء إصلاحات دستورية لمنظومة الحكم نحو إقرار نظام إما رئاسي (يكون فيه رئيس الجمهورية رئيس السلطة التنفيذية والرئيس الفعلي للحكومة ولمجلس الوزراء وزعيم الأغلبية البرلمانية التي تشكل الحزام السياسي للحكومة)، أو برلماني (رئيس الحكومة هو رئيس السلطة التنفيذية وزعيم الأغلبية البرلمانية. عندها، لا حاجة لانتخاب رئيس الجمهورية بالإقتراع الشعبي المباشر ويتم انتخابه من طرف النواب).

 

2-   تغيير النظام الإنتخابي من نظام القوائم النسبية إلى نظام الأغلبية الفردية، ووضع شروط صارمة للترشح للإنتخابات (التشريعية والرئاسية) مع تزامن إجراء الإستحقاقين الرئاسي والتشريعي في دورتين في حال إقرار نظام رئاسي.

 

3-   تعديل قانون الأحزاب بما يخدم الشفافية المطلقة حول أهدافها ومنظوريها ومصادر تمويلها ويقضي على الطفيليات الحزبية التي لوثت المشهد السياسي والحياة العامة (هنالك اليوم أكثر من 220 حزبا مرخصا وأكثر من 15000 مرشح للتشريعية وزهاء 100 مرشح للرئاسة! هذه ليست ديمقراطية بل هي أبشع أنواع الإستخفاف بالحرية واستهانة كبرى بالعمل السياسي والخدمة العمومية ووصمة عار في تاريخ هذه البلاد...).

 

4-   عرض الأمر برمته بعد اكتمال الإصلاحات المرجوة (في غضون سنة) على استفتاء شعبي ليقرر التونسيون مصيرهم بأنفسهم باختيار نظام رئاسي أو برلماني والمصادقة على التعديلات والإصلاحات الدستورية المعروضة عليهم.

إن تونس تعيش منذ 8 سنوات أزمة حكم حقيقية سببها المحاصصة الحزبية والإختلال التام لموازين القوى بين السلطتين التشريعية والتنفيذية والخيارات الخاطئة التي انتهجتها تلك الأحزاب في نسج المشهد السياسي ووضع الآليات الدستورية والتشريعية غير الملائمة لتسييره عبر توافق وطني "مغشوش" تحول تدريجيا إلى مهزلة تتحمل وزرها الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية التي كانت تعلم مسبقا أن ذلك الحوار ليس إلا مسارا انتهازيا عقيما لا يهدف سوى لتتحقيق المآرب السلطوية لتلك الأحزاب.

ولم يعد خافيا على التونسيين أن "ديمقراطية الأحزاب" التي حكمت البلاد خلال ال8 سنوات الماضية لا تختلف كثيرا في جوهرها عن نظام الحزب الواحد الذي عانوا منه الأمرين منذ استقلال البلاد، ما دامت معادلة السلطة لا تتغير كثيرا وتضمن للذين صمموا الدستور والنظام الإنتخابي ومن تَبِعَهُم أو تحالف معهم نفوذا مستديما يمكنهم من التحكم في مفاصل الدولة وتسيير دواليبها على أهوائهم وأحيانا وفق ما تمليه عليهم غرائزهم.

وإذا لم تًغير الانتخابات الرئاسية والشريعية المقبلة هذا الأمر الواقع المشؤوم..فبِئْس ديمقراطية كهذه وبئس انتخابات.  

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter