alexametrics
آراء

شاعر في قرطاج وشاعر في المرناقية

مدّة القراءة : 4 دقيقة
شاعر في قرطاج وشاعر في المرناقية

 

كنا نخشى هذا الخيار لكننا لم نكن نتوقّع حدوثه .. وفي نهاية المطاف كان ذلك خيار قيس سعيّد، أي عدم تكليف أي شخصية مقترحة من قبل الأحزاب السياسية. وكانت تلك "ضربة معلّم" كما يقال .. فالأحزاب قامت باقتراح أسماء شخصيات لرئاسة الحكومة يختار من بينها رئيس الجمهورية الشخصية الأقدر لهذا المنصب .. لكن كان للرئيس رأي آخر، باعتباره لا يعير اهتماما ولا احتراما كبيرين للأحزاب .. حتى أن ثقته في تلك الشخصيات تكاد تكون منعدمة .. وكانت النتيجة أن لا حزب ولا محللا سياسيا توقّع أن يقع اختيار هشام المشيشي.

 

يوم 25 جويلية 2020 كان استثنائيا بكل المقاييس .. فقد انطلق اليوم برسالة مضمونة الوصول وجهها الرئيس أثناء ترحّمه على أرواح الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي وكذلك صالح بن يوسف والباجي قايد السبسي .. كثيرون رأوا في تلك الرسالة إشارات لحل قضية مقتل الشهيدين .. أما بعد الظهر فقد جرت العادة أن يحضر رئيس الجمهورية موكب الإحتفال بعيد الجمهورية الذي ينتظم بمقر البرلمان (وقد تم استبعاد بيزنس نيوز من قائمة المدعوين هذه السنة) .. اعتذر قيس سعيّد عن حضور الموكب كما لو أنه لم يشأ الظهور إلى جانب الحزب الذي أرسل مرتزقته لشتمه في باريس .. وفي المساء كان اليوم حافلا بالأحداث والمفاجآت بتكليف هشام المشيشي بتكوين الحكومة.. لا أحد كان ينتظر اقتراح وزير الداخلية لمنصب رئاسة الحكومة.. رغم أنها ليست المرة الأولى فقد تولّى قبل زين العابدين بن علي هذه الخطة قادما من الداخلية في 1986 ثم علي لعريّض في 2013 وأخيرا الحبيب الصيد في 2015. لكن الخيار هذه المرّة جاء مغايرا لما سبق لأن إسم المشيشي لم يكن من بين الأسماء المقترحة من الأحزاب التي ينص الدستور على أن يتشاور الرئيس معها في هذا الشأن.. فكيف إذن يمكن تفسير هذه القراءة المعقّدة للدستور من قبل رئيس الجمهورية؟ كيف يمكن تفسير ضربه عرض الحائط بمقترحات الأحزاب؟ كل الأحزاب ..

 

للإجابة على هذا السؤال علينا أن نعود قليلا إلى الوراء ونطرح سؤالا آخر.

 

الأحزاب السياسية التي قدمت مقترحاتها كانت متفقة حول بعض الشخصيات، وخاصة خيّام التركي والفاضل عبد الكافي وحكيم بن حمودة .. إذا كان اقتراح عبد الكافي وبن حمودة له ما يبرره، باعتبار أن الرجلين لم يغادرا الساحة السياسية والمشهد الإعلامي، فإن المسألة تختلف بخصوص خيّام التركي. من أين أتى هذا الإسم؟ ومن بادر باقتراحه على الأحزاب السياسية؟ كيف حصل أن أحزابا تختلف عادة في كل شيء ثم تتفق فجأة حول شخصية غابت تماما عن الساحة منذ 2011؟

 

ألا يعني ذلك أن هناك يدا تحرّك الدمى من وراء الستار؟ وصاحب تلك اليد هو الذي أوحى إلى الأحزاب السياسية بإسم خيّام التركي وفرض الأمر على رئيس الدولة؟ لو كان هذا الشخص موجودا فالأكيد أن الرئيس على علم به لكنه عصى أوامره أو خالف إرادته وفي هذه الحالة نرفع القبعة للسيد الرئيس.. وإن كان قيس سعيّد يجهل من يكون هذا الشخص ومع ذلك تعمّد رفض مبدأ أن يفرض عليه أحد خيارا ما ففي هذه الحالة أيضا نرفع القبّعة له..  لكن يجب عدم إيهام الرئيس بأنه لا توجد يد خفية تحرّك الدمى من وراء الستار لأنه ليس ساذجا كما أنه يدرك جيدا أنه لا وجود للصدفة أبدا في السياسة وأنه من المستحيل أن تجمع كل الأحزاب، بمحض الصدفة، على شخصية خيّام التركي، المجهول نسبيا في المشهد السياسي وكذلك عبد الكافي وبن حمودة اللذين رفضهما منذ أشهر قليلة وكأن قيس سعيّد يقول للجميع: "لا، لن تجبروني على ما لا رغبة لي فيه .. لا، لن تفرضوا شخصا قادما من عالم الأعمال لتخدموا مصالحكم على حساب الدولة".. في المقابل فإن الشخصية المختارة هي أصيلة الشمال الغربي وهي منطقة قليلا ما تكون ممثلة في الحكومات وهي المرة الأولى في تاريخ البلاد التي ستكون فيها ممثلة على مستوى رئاسة الحكومة أي في قصر الحكومة بالقصبة.

 

هذه الصفعة الموجهة إلى كل الأحزاب كان لها وقع الأبيات الشعرية في مساء 25 جويلية .. لكن الرئيس اختار أن يختتم ذلك اليوم بتوجيه تنبيه في شكل تحذير أخير مفاده "أنا أحترم الشرعية والدستور لكن آن الأوان لمراجعة هذه الشرعية ما دام ذلك في مصلحة الشعب".

 

ما الذي سيحدث بعد ذلك؟ الأحزاب السياسية وقد تمت إهانتها بصورة صريحة وعلنية، ستقبل بالأمر الواقع في صمت وستقبل مكسورة الجناح بخيار المشيشي.. فقبول الإهانة يعني اسمرارية تلك الأحزاب وبقاءها على قيد الحياة، أما في صورة رفضها الإهانة وعدم منح الثقة لحكومة المشيشي فإن ذلك يعني موتها المحقق إذا ما قرر الرئيس حل البرلمان.. في صورة إعادة خلط الأوراق فإن أحزاب قلب تونس وتحيا تونس والشعب وجزءا من تيار الكرامة وحركة النهضة سيتم سحقهم جميعا من قبل عبير موسي .. خلاصة القول أن رئيس الجمهورية لم يترك أي خيار أمام الأحزاب التي تجد نفسها اليوم مجبرة على الخضوع لإرادته وهو ما يؤشر لملامح الجمهورية الثالثة .. حاولت الأحزاب أن تتذاكى وتفرض سياسة الأمر الواقع على الرئيس لكن العكس هو الذي يحصل الآن .. فنحن أبعد ما يكون عن كاريكاتور الإخشيدي  وصورة الرئيس الطرطور الفاقد للنصح والمشورة الحسنة والذي لا يخذق التصرف.

 

عيد الجمهورية 2020، قضاه صديقنا وزميلنا، توفيق بن بريك، في السجن خلف القضبان، توفيق بن بريك شاعر وأديب وصحفي .. هو أيقونة بأتم معنى الكلمة، يسبح ضد التيار.. تم إصدار حكم قضائي ضده لأنه هاجم القضاة في سبتمبر الماضي. حكم غيابي بسنتين سجنا تم تحويلهما يوم الجمعة إلى سنة مع النفاذ العاجل وعليه أن ينتظر الاستئناف ليأمل في حط من العقوبة ولن يتم ذلك قبل سبتمر أو أكتوبر 2020.

 

هذا الحكم القضائي مؤسف لأنه في بلد يحترم الحريات فإن المكان الطبيعي للشعراء والمبدعين ليس السجن.. فقد قدّر القضاة أن ما أتاه بن بريك ليس شعرا ولا إبداعا ولا يندرج في خانة حرية التعبير .. وقد استأنسوا في ذلك برأي "الهايكا"، الشرطي التونسي في مجال السمعي البصري.. موقف نقابة الصحفيين كان مغايرا.. لكن الهايكا لم تقل أبدا أن توفيق بن بريك يجب الزج به في السجن. صحيح أنه انتقد القضاة بشدة، لكن هذا لا يعني أنه يستحق عقوبة سالبة للحرية بل في أسوأ الحالات إجباره على دفع غرامة مالية .. هكذا تتم معاقبة الأيقونات والشعراء المتمردين على السائد في البلدان المتقدمة .. الزج بشاعر في السجن من أجل عمل لا يروق للقضاة هي سابقة خطيرة خاصة في ديمقراطية هشة مثل ديمقراطيتنا فهذا قد يفتح الباب أمام قضايا عديدة في حق كل المبدعين من شعراء وفنانين وصحفيين وأدباء ممن يجرؤون على انتقاد النظام، هذا من جهة. 

 

من ناحية ثانية، القضاة الذين أصدروا حكم الإدانة في حق توفيق بن بريك يوم الخميس، نسوا أو تناسوا السياق الذي جعل المتهم ينتقدهم بشدة.. جرت الحادثة خلال الحملة الإنتخابية، إذ قررت العدالة وقتها، الإبقاء على المترشح الثاني للإنتخابات الرئاسية، وراء القضباء .. محكمة التعقيب رأت خلاف ذلك وهو ما ذهب إليه توفيق بن بريك لكن بعبارات أكثر حدة، بأسلوبه كشاعر .. سادتي القضاة أحكموا على توفيق بن بريك إذا شئتم .. أحكموا علينا جميعا إذا قدّرتم أن في كلامنا ما يوحي بالإزدراء، لكن هذا الحكم القضائي يجب أن لا يكون سالبا للحرية، لأنكم تحكمون في الأصل على الأفكار وليس الأفعال .. ولتعلموا أخيرا أنكم مهما حكمتم علينا فلن تسلبونا أبدا حرية التفكير. 

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter

تقرؤون أيضا

03 جانفي 2022 16:04
0
30 ديسمبر 2021 16:29
0
27 ديسمبر 2021 17:00
0