alexametrics
أفكار

عن كتاب نزار بهلول "قيس السنة الأولى، رئيس مركبٍ ثملٍ":كما تكونون يولّى عليكم

مدّة القراءة : 10 دقيقة
عن كتاب نزار بهلول

 

يبدو تقييم سنة من عمل رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد أقرب إلى المغامرة التي تحتاج إلى شيء من الجرأة. فعلاوة على قصر المدّة فإنّ التقييم يتعلّق بـ"رئيس – ظاهرة" غير مسبوقة مثل قيس سعيّد في سياق سياسيّ يتّسم بعدم الاستقرار وتداخل المعايير والتخبّط والاضطراب. غير أنّ العمل الصحفيّ وإن كان يقتضي تقديم المعلومة الدقيقة والوقائع الثابتة فإنّ جنس التحليل السياسيّ فيه يتيح الانتقال من الواقعي إلى التحليليّ الذي يربط بين الأحداث ويقيم العلاقات وينظّم الوقائع ليكشف عن المعنى الذي تتضمّنه فيعيد بذلك بناء المشهد على نحو أوضح. لقد زعم نزار بهلول أنّ كتابه يقوم على الوقائع غير أنّ في ترتيب الوقائع نفسها معنى وموقفا هما من ميزات هذا الكتاب التي تفتح مجالا لفهم ظاهرة سعيّد من ناحية والنقاش في ما يتجاوز الشخص إلى وضع البلد كلّه. فمهما بدا سعيّد غريبا فإنّه جزء من بلد لا يخلو مساره السياسيّ ووضعه كلّه من غرابة.

الرئيس البدعة

وفي هذا الكتاب الذي يستعيد نزار بهلول في بعض فصوله مقالات تحليليّة سبق نشرها في "بزنس نيوز" وأضاف إليها فصولا جديدة هي الغالبة عليه، وبقطع النظر عن مدى اتفاقنا مع صاحبه في هذا الموقف أو ذاك وفي هذا الاستنتاج أو ذاك، نكتشف الوجه الأهمّ من الكتابة الصحفية حين يضطلع بها متابعٌ منتبه لما يدور في البلاد ومحلّلٌ يستكشف ما وراء اليوميّ المتلاحق المشتّت الخيوط التي تنتظمه. والنتيجة بيّنة للقارئ: تذكير بأحداث ومناسبات وتصريحات ووقائع غابت في تلافيف ذاكرات الأفراد من ناحية، وعرض متناسق لحصيلة 365 يوما (وأكثر في الحقيقة إذا اعتبرنا ما يتعلّق بالحملة الانتخابيّة السابقة لتنصيب قيس سعيّد) من رحلة هذا الرجل الخارج عن أيّ نمط سابق من ناحية أخرى. إنّه رئيس بدعة.

ولا أريد في هذا التقديم أن استعيد ما برز في تحاليل نزار بهلول من حصيلة سعيّد، بإيجابيّاتها وسلبيّاتها، سواء في سرده الممتع في مواضع كثيرة لمسيرة الرئيس وتقلّباتها أو في الخلاصات الأوّليّة التي توصّل إليها. فمن باب التقدير لهذه الفرصة التي منحني إيّاها صاحب الكتاب بهذا التقديم أجد نفسي حريصا على محاورته، ولو على نحو غير مباشر، في ما ذكّرني به من أحداث وتصريحات وأن أقدّم وجهة نظري في هذا الذي حار فيه التونسيّون شعبا ونخبا وسياسيّين وإعلاميّين.

إنّ مأتى هذه الحيرة، في تقديري، أنّ ما صرّح به سعيد وما فعله وما عبّر عنه من مواقف، وهو في منصب الرئيس، يحمل الكثير من وجوه الغرابة وأحيانا النوادر والطرائف ولكن لا شيء يمنع من أن يرى فيه أنصاره جوانب جادّة تعبّر عمّا يجب أن يفعله رئيس لبلد قام بثورة تستحقّ أن تدرّس على أنّها حالة استثنائيّة غير مسبوقة، كما يعتقد سعيّد نفسه منذ خطاب تنصيبه في مجلس نواب الشعب.

القادم من مجرّة أخرى

واعتقد أنّ أيّ قراءة للكتاب على أنّه تتبّع لسقطات سعيّد أو مواقفه القويّة ستخفق لا محالة في التقييم العامّ كما أنّ القراءة التي ترى فيه نموذجا جديدا أو استقصاء لما لا يجب أن يقوم به رئيس للجمهوريّة ستكون قراءة سطحيّة مناصرة أو مضادّة. ففي الحالات جميعا يوجد سعيّد الرئيس ويوجد سياق تتنزّل فيه مواقفه مهما كانت.

فثمّة سوء تفاهم ثابت في موضع مّا يحتاج إلى توضيح. فسعيّد الذي يوصف بالشعبويّ من عدد كبير من النخب يؤكّد شعبويّته في أمور كثيرة. فهو لم يقم بحملة انتخابيّة مثل جميع الفاعلين السياسيّين بل ظلّ يتنقّل لملاقاة أنصاره المتحصّنين بصفحات الفيسبوك بسيّارته القديمة من صنف 206 كالداعية المحجوب عن الناس ورغم ذلك انتخبه الجمهور ومنحه شرعيّة نادرة بما يفوق السبعين بالمائة. وهو لا يتورّع عن الذهاب إلى مقهى في حيّ شعبيّ ليشرب كابوسان ويدخّن سجائره التي لا تعتبر فاخرة. وهو لا يجد حرجا في أن يقف في صفّ مخبزة ليقتني الخبز فيعتبره أنصاره وبعص ممن ليسوا من أنصاره متواضعا مترفّعا عن أبّهة الحكم. بل الأدهى أنّه حين رضخ لقواعد البروتوكول وانتقل للسكن في قصر قرطاج قرّر إيقاف تزوّد القصر بالزهور من باب الضغط على المصاريف.

 ويمكن أن نعدّد الطرائف والنوادر ولكنّها جميعا تشير إلى أنّنا أمام شخص لا صلة له ببروتوكولات الرئاسة ونواميسها لأنه ببساطة قادم من آفاق أخرى غير الآفاق التي قدم منها السياسيّون قبله. لذلك ليس من الغريب أن يصفه أنصاره بأنّه من خارج "السيستام" وضدّه. وبالفعل فالرجل الذي يتكلّم كالرابوت بعربيّة فصحى رتيبة وبصوت ذي نغمة واحدة لا تتغيّر مزعجة للبعض، وبوجه صارم غير معبّر، وفي خطابات مرتجلة غير مفهومة دائما لا يقف وراءه أيّ تنظيم سياسيّ يدعّمه ولا رجال أعمال يموّلونه. فهو قادم من مجرّة أخرى لم يعرفها التونسيّون حتّى مع شبيهه في كثرة النوادر والطرائف الرئيس الأسبق الثوريّ جدّا منصف المرزوقي.

رئيس الجمهوريّة معارض!

ولكنّ وراء هذا الوجه، وبجانبه، نجد وجها آخر لقيس سعيّد جدّيّ لا مزاح فيه. إنّه شخص نظيف اليد نزيه ورجل قانون يزعم أنّه يحترم الدستور ويعلي من شأن دولة القانون ويريد فعلا تحقيق إرادة الشعب ولا يضمر إلاّ الخير للبلاد. وقد نتج عن هذا الوجه الثاني، في ما نقدّر، استمرار شعبيّته وشرعيّته الانتخابيّة القويّة، بل الأقوى منذ الثورة. فهي شرعيّة وثقة لم تتزعزعا إذ يتصدّر جميع استطلاعات الرأي بعد سنة من ممارسة الحكم بما يساوي الستين بالمائة تقريبا متقدّما على جميع السياسيّين المحترفين. وهذا ما جعله يكشر عن أنيابه ويخدش بأظافيره خصومه ومنافسيه متى لزم الأمر. لذلك نراه يتحدّث في أكثر من مناسبة عن المؤامرات التي تحاك ضدّ البلد داخليّا وخارجيّا متّهما أطرافا لم يسمّها ولا يتورّع عن مهاجمة النوّاب الذين انتقدوه بمناسبة جلسة منح الثقة لحكومة المشيشي متّهما بعضهم بالكذب والإفتاء في الأكاذيب واصفا إيّاهم بالحمق الذي يمنعهم من النجاح لو تقدّموا لامتحانات الابتدائيّ ومعبّرا عن احتقاره لهم. وليس من نافل القول التذكير بالدروس التي يلقيها على من يريد تقريعه من السياسيّين في الحكومة ومجلس نوّاب الشعب. وقد نال رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنّوشي ورئيس الحكومة المشيشي وبعض الوزراء (مثل وزير الخارجيّة) من سهام التوبيخ والتقريع ما فاجأهم وفاجأ المواطنين والسياسيّين والمتابعين لنشرات الأخبار وموقع رئاسة الجمهوريّة. وهو إضافة إلى ذلك لم يتورّع عن النقد الصريح لـ"قضاء البحيري" واتهامه بالتقصير في قضيّة حادث السيّارة لابنة الوزير النهضاويّ أنور معروف وتعطيل المسار العاديّ لها. ومن يقرأ ما ورد في هذا الكتاب يجد هذا الذي ذكرنا وأكثر.

إنّه رئيس الجمهوريّة معارض من قلب جهاز الدولة والحكم نفسه، أو قل هو معارض لم ينتقل من مرحلة ما قبل المسؤوليّة العليا في الدولة إلى ما تقتضيه وظيفته من تحفّظ وعمل على التجميع.

المهرّج المضحك والمعارض النزيه

إنّنا أمام صورتين متناقضتين: صورة شخص أقرب إلى المهرّج في حفل جدّي له طقوس معلومة هو حفل السياسة والثورة وتنظيم السلطات والفصل بينها، وصورة الرجل النزيه الذي يريد تحقيق ما يتضمّنه شعار "الشعب يريد" وتغيير الوضع الخطير الذي عاشته البلاد طيلة تسع سنوات وما تزال بما يهدّد اليوم بإعلان الدولة إفلاسها.

هل بالغنا في وصف الشخصيّة المزدوجة لسعيّد بين المهرّج المضحك والمعارض النزيه؟ مهما تكن مبالغتنا ففي الكتاب ما يدعّم الصورتين ونحن لا نراهما متناقضتين بل هما متكاملتان تحملان دلالة أعمق من الشخص ومن منصب الرئاسة نفسه، مهما يكن رأي القارئ الذي يتبنّى إحدى الصورتين. إنّه في تقديرنا رجل هذه المرحلة بالفعل، رجلها بمعنيين: أحدهما أنّه نتاج طبيعيّ معبّر عنها، والآخر أنّه كاشف، من حيث يشعر أو لا يشعر، عن مآزقها وحقيقتها. هو كذلك في رأينا، بقطع النظر عن التقييم السياسيّ العمليّ الذي يقارن الوعود خلال الحملة بما أنجز منها طيلة سنة بعد تولّي المنصب، وبقطع النظر عن السنوات الأربع المقبلة وما ستحمله من نوادر جديدة أو تحوّلات في شخصيّة الرئيس سعيّد أو ما سيجدّ في البلاد.

طبعا لا يعني قولنا إنّه رجل المرحلة أنّ انتخابه كان قدرا محتوما. ولكن علينا ألاّ ننسى أنّه صعد إلى سدّة الحكم من خارج الأحزاب بل وضدّها، ووصل بفضل القواعد التي وضعها دستور 2014 والقوانين المجسّمة لها وإن كان ضدّ المنظومة السياسيّة التي أفرزها هذا الدستور. والأهمّ من ذلك أنّه من القلائل الذي تمسّكوا بشعارات الثورة و"الشعب يريد..." على نحو يبدو مثاليّا طوباويّا أحيانا، أو لنقل ساذجا، ولكنّه وجد نفسه في قلب الدولة فاعلا رئيسيّا لا يعترف ببروتوكولاتها ونواميسها. وهو، إلى جانب هذا كلّه، لا يختلف كثيرا عمّا يسود الحسّ الشعبيّ المشترك من مواقف محافظة بل إيديولوجية يمكن وصفها بالرجعيّة تجعل الثورة تقف عند أعتاب تصوّرات لا تتوافق أصلا مع الحرّيات الفرديّة ومبادئ الدستور نفسه. فيكفي أن نتذكّر موقفه المخزي من المساواة في الميراث وتبريره له بقطعيّة نصّ قرآني أو موقفه من عقوبة الإعدام حتّى نتأكّد من انتماء الرئيس إلى مواقف العامّة بدل أن يرتقي إلى مصاف مواصلة المشروع التحديثيّ التونسيّ. وأنّى له ذلك ونموذجه الذي استلهمه تراثيّ محض هو الصورة التي صنعتها كتب التاريخ الإسلاميّ عن الخليفة عمر بن الخطاب؟

أفلا يكون سعيّد بهذه المفارقات الكثيرة معبّرا أحسن تعبير عمّا يريده الشعب من صورة لرئيسه؟

رئيس منا وإلينا: ابن الشعب

لقد عاف الناس الأحزاب التي تتصارع على كعكعة السلطة بجشع ولا تفي بوعودها الانتخابيّة، وصاروا لا يطيقون الحديث عن دستور هو حبر على ورق لم يحقّق لهم الشغل والحرّيّة والكرامة (لنتذكّر شطحة سعيّد الذي اعتبر الدستور هو ما كتبه الثوّار على الجدران!)، وأنكروا أصحاب ربطات العنق الذين يفكّرون في ملذّات السلطة وعلاماتها الخارجيّة ويتنكّرون لهموم الناس اليوميّة، وملّوا أحاديث النخبة الحداثيّة عن الحقوق والحرّيات والمساواة وصاروا يرونها مناهضة للدين. وها هو قيس سعيّد ينطق على طريقته باسمهم ويستعيد شواغلهم ويتبنّى مطالبهم.

ابن الشعب وهو صوته: هذا هو سعيّد. وإذا اعترض معترض "... ولكنّه لا يصلح رئيسا وهو يضرب عرض الحائط بمقتضيات منصب الرئاسة؟" كان الجواب جاهزا: "نحن نريده هكذا ابن الشعب لا ابن الطبقة السياسيّة التي لم تحقّق لنا شيئا يذكر".

والواقع ألاّ أحد يولد رئيسا. وقد ابتليت تونس قبله بسياسيّين هواة لا خبرة لهم ولكنّهم حكموا لفترة طويلة ورأينا منهم، قبل عهد الباجي قائد السبسي وخلاله وبعده، من العجزة عن إدارة الدولة الكثيرين. فما بالك بسعيّد الذي جاء من خارج "السيستام" بمجتمعيه السياسي والمدني أصلا؟

لقد كانت الحكمة العربيّة القديمة تقول: "كما تكونون يولّى عليكم". ولكنّ هذا التطابق بين عقليّة المحكومين وعقليّة الحكّام لا تقتصر على سعيّد لتصدق هذه الحكمة. فيكفي أن ننظر إلى الكاذبين من السياسيّين المحترفين في مجلس نوّاب الشعب وإلى من فيه من الشعبويّين، الراديكاليّين في شعبويّتهم، الخارجين عن جميع بروتوكولات الخطاب السياسيّ من أمثال نوّاب "ائتلاف الكرامة" وغيرهم. أمّا عن الوزراء والمسؤولين الحزبيّين فحدّث ولا حرج. وبالمقابل يعبّر سعيّد عن أوسع قطاعات التونسيّين من الذين انتخبوه لنظافة يده ونزاهته وتكوينه القانوني وتواضعه وسماحته.

"الشعب يريد..." وما باليد حيلة

بيد أنّ انتقال ابن الشعب، يوم 30 مارس 2020، من بيته الشخصيّ في حيّ المنيهلة إلى قصر قرطاج الذي تحيط به استيهامات كثيرة، من عهد بورقيبة وخصوصا بن عليّ ثمّ المرزوقي والباجي قائد السبسي، وتلفّه حكايات عديدة باعتباره مركزا من مراكز السلطة، لا يخلو من دلالة في رسم الوجه الثاني لقيس سعيّد.

لقد فرّ سعيّد فرارا من مواجهة هذا الشعب الذي بدأ ينتفض في أوج أزمة الكوفيد 19 مطالبا بالخبز والعمل معبّرا عن مخاوفه من الأزمة ومن الجوع في آن واحد. إنّه رئيس شعبيّ نعم ولكنّه لا يملك حلولا ولا حول له ولا قوة. ففي البلاد مشاكل حقيقيّة اقتصاديّة واجتماعيّة وهو عاجز عن حلّها. فلا برنامج له غير الشعارات التي رفعها، وهي عامّة، ولا صلة لها بتسيير الشؤون اليوميّة للمواطنين واتخاذ القرارات التي تؤمن الناس من خوف ومن جوع. لذلك كثرت تلميحاته إلى قلّة نجاعة الدستور المسيّر للبلاد وإلى الدسائس التي تحاك في الغرف المغلقة والمؤامرات الأجنبيّة على أمن البلاد بتواطؤ من بعض الأطراف الداخليّة واستشراء الفساد الذي أصبح هيكليّا والعجز الواضح عن تقديم حلول للناس ومشاكلهم.

إنّه رئيس جدّيّ فعلا. ولئن اكتفى بالحديث عن "أطراف" يتّهمها ملمّحا والناس ينتظرون التصريح والمحاسبة فإنّه وعد بيوم تكشف فيه جميع الحقائق والأوراق. هل ننتظر ذلك في سنة من السنوات الأربع المقبلة؟

   ليس مهمّا ما سيكون سواء كشف سعيّد ألاعيب السياسيّين ومؤامراتهم أم لم يكشف، وسواء سمّاهم طرفا طرفا أم لم يسمّهم. فقيس سعيّد بحديثه الغامض هذا، بل المفزع غير المطمئن المتجاوز لمقتضيات التحفّظ من المسؤول الأوّل عن الأمن القوميّ، هو أيضا رجل المرحلة مرّة أخرى.

صدمة إخفاق الانتقال الديمقراطي

وعلينا هنا أن نكون واضحين: إنّ الانتقال الديمقراطيّ في تونس في طريقه إلى الإخفاق إن لم يكن قد أخفق عمليّا. وليس في المسألة ما يدعو إلى التعجّب. إذ جلّ تجارب الانتقال في العالم أخفقت ولا شيء يؤكّد لنا أنّ التجربة التونسيّة ستكون استثناء مع سياسيّين هواة يحكم بعضهم منطق تفكيك الدولة والثأر من تاريخ البلاد ويحرّك بعضهم الآخر اقتسام الغنيمة والسلطة ومواقع النفوذ والتواطؤ مع الفاسدين ويتميّزون جميعا بعجز جذريّ عن ابتداع التصوّرات وصياغة برامج حقيقيّة للإنقاذ.

أعلم أنّ هذا الحكم قد يكون صادما للكثيرين. لكن المصارحة مدخل للحلّ وليس ما نزعمه من إخفاق اتّهاما أو موقفا سلبيّا من الثورة كما قد يتوهّم البعض. فقد اتّجهت الثورة التونسيّة وجهة إصلاحيّة فعوّلت على أربعة أعمدة لتحقيق شعاراتها وما يريده الشعب: أوّلها كتابة دستور جديد يقطع الطريق على عودة الاستبداد ويوفّر الحرّيّات جميعا وثانيها إصلاح المنظومة الأمنيّة لتكفّ عن أن تكون أداة قمع بيد هذا الطرف السياسيّ أو ذاك وثالثها إصلاح القضاء وتمكينه من استقلاليّة فعليّة تجعله ضامنا للعدالة والإنصاف وحاميا للحرّيّات ورابعها إصلاح الإعلام ليكون متنوّعا مستقلاّ جديرا بمجتمع ديمقراطيّ.

وإذا أخذنا هذه المحاور الأربعة محورا محورا تبيّنت لنا وجوه من الإخفاق كثيرة. وبما أنّ المقام ليس مقام توسّع فإنّنا نكتفي بمجرّد الإشارة داعين إلى التفكير والسؤال عن هذا الواقع المرير المخيّب للآمال.

 أمّا الدستور فقد تبيّن في أكثر من مناسبة أنّه مليء بالثغرات وعجز حتّى الحزب الذي أشرف علي كتابته، أي حزب النهضة الذي لم يغادر الحكم في جانبيه التشريعيّ والتنفيذيّ منذ 2011، عن الإيفاء بمقتضياته ومستلزماته مثل المحكمة الدستوريّة واستكمال قوانين الهيئات الدستوريّة الدائمة. وعلاوة على ذلك كشف قيس سعيّد حدود هذا الدستور الجديد بتأويلاته له وتصوّراته التي لم يبسطها كلّ البسط عن منظومة الحكم وبالخصوص بصراعاته مع رئيس مجلس نواب الشعب ورئيسيْ الحكومة اللذين اختارهما بنفسه فأراد أن يبيّن أنّ هذا التنظيم للسلطات غير عمليّ. وليس غريبا أن ترتفع الأصوات لتعديل الدستور. ولكن هل يحلّ ذلك الإشكالات؟

أمّا المنظومة الأمنيّة فقد ثبت، خصوصا في عهدي الترويكا والباجي قائد السبسي، تدخّل السياسّيين فيها من أجل الهيمنة على الجهاز الأمنيّ وهو ما أوجد تكتلات وولاءات لقوى نفوذ مختلفة متصارعة. ويكفي أن نذكّر بأنّ وزيرا سابقا للداخليّة محسوبا لدى البعض على حزب النهضة، وإن عيّن في عهد الباجي قائد السبسي، ما يزال مختفيا عن الأنظار إلى اليوم بسبب غياب القرار والإرادة السياسيّين لا غير بل إنّ القرار اتّجه بعد ذلك، دون تفسير أو تعليل، إلى إلغاء مذكّرة الإيقاف. هذا دون الحديث عن تجاوزات بعض رجال الأمن ونقاباتهم.

أمّا القضاء فلم يعد خافيا على أحد تسميته بـ"قضاء البحيري" فيحمي من يريد من المتابعة القضائيّة، بما في ذلك قضايا خطيرة كالاغتيالات السياسيّة، ويهدّد بالملفّات القضائيّة من يريد ممّن لم يدخلوا إلى بيت النهضة لتقديم آيات الطاعة والولاء والتأييد. فصار القضاة يتمتّعون باستقلاليّة واسعة ولا رقيب عليهم فعلا ولكن من دون تركيز لقضاء عادل منصف (مثلا مئات الشكاوى النائمة في الرفوف وإيقاف نبيل القروي وإطلاق سراحه بطريقتين مشكوك في قانونيتهما) يحمي الحرّيّات (من قضيّة جابر إلى قضيّة آمنة الشرقي).

أمّا الإعلام ففشل آخر يطفو على السطح أحيانا (من حملة إكبس إلى معركة مخلوف ضدّ بعض وسائل الإعلام) ويخفت أحيانا أخرى دون حسم في مسائل أساسيّة مثل القنوات غير القانونيّة التي تدعّمها أحزاب سياسيّة (الزيتونة ونسمة وقناة القرآن الكريم على الأقلّ حسب بيانات الهايكا). ولكنّ الأهمّ من ذلك انتشار زنا المحارم بين الإعلام والإشهار والمال الفاسد والسياسة كما هو الحال بوضوح بالنسبة إلى قناة نسمة التابعة لصاحب حزب قلب تونس وقناة الزيتونة المدعومة من النهضة. ولا تقف مصيبة الإعلام عند هذا الحدّ فقد اكتفينا بالدالّ منها.

الرئيس الكاشف للأعوار

وفي محاور ثلاثة ممّا سبق نجد لدى سعيّد مواقف معلنة بشكل أو بآخر. فحين تكلّم قيس سعيّد قبل وصوله إلى السلطة ثمّ لمّح بعد ذلك إلى مشاكل في اختيار النوّاب ثمّ صرّح بأنّه لا يوجد في تونس إلاّ رئيس واحد للدولة بحضور رئيس مجلس النوّاب الذي توهّم أنّه رئيس يحقّ له أن يتّصل بأردوغان دون إعلام أو أن يهنّئ فايز السرّاج تهنئة تؤكّد انخراطه في محور من محاور الصراع، إنّما كان يتحدّث، وإن على نحو غير مباشر، عن مآزق الدستور.

وحين تكلّم مدرّس القانون وزوج السيّدة الرئيسة القاضية عن ملفّ حادث سيّارة الوزير النهضاوي أو حين دعا وزير العدل وهياكل المهنة إلى القصر لم يكن يتوقّع ردود الفعل حتى من نقابة عملة العدليّة أو من المجلس الأعلى للقضاء. فقد تغلغلت دودة البحيري في تفاحة القضاء على نحو يصعب انتزاعها منها.

أمّا الإعلام فيكفي أن نلاحظ تعويل سعيّد على ما تنشره صفحة رئاسة الجمهوريّة من نشاطاته على نحو يرضي اختياراته هو وعلاقته العجيبة المرتابة، مذ كان مترشّحا للانتخابات الرئاسيّة، من القنوات الرسميّة والخاصّة حتّى نتأكّد من أنّه لا يثق في المشهد الإعلاميّ. ولنا أن نضيف إلى ذلك عدم استقباله لأعضاء هيئة دستوريّة هي الهايكا أو رئيسها على الأقلّ وهو امتناع لا يبّرره وجود السيّدة رشيدة النيفر في ديوان الرئيس قبل أن تستقيل.

ورغم أنّنا لا نجد في تصريحات سعيّد وسلوكه ما يشير إلى عوائق إصلاح المؤسّسة الأمنيّة بقدر ما نجد منه تمجيدا وشدّا على الأيدي فإنّنا لا نشكّ في أنّه يعلم أكثر من غيره مشاكل هذا العمود المهمّ من أعمدة الانتقال الديمقراطي.  

إذا سلّمنا بهذا وجدنا قيس سعيّد كاشفا لهذه الأعوار كلّها وتشتغل مواقفه المتناثرة كالموشور العاكس لمختلف وجوه أزمة الانتقال الديمقراطي أو الآلة المكبّرة التي تظهر فيها الحقائق التي تختفي وراء التفاصيل.

تعلّم الرئاسة في رؤوس اليتامى

إنّنا نعتبر تحاليل نزار بهلول عن أيّام السنة الأولى لقيس سعيّد في قصر قرطاج مهمّة إذ كشفت لنا، علاوة على التذكير بالوقائع، أنّنا أمام ظاهرة قد يكون لها طابع فرديّ لرئيس غير نمطيّ موسومة بشخصيّة قيس سعيّد نفسه الذي يتعلّم الرئاسة بحكم شعب مسكين خابت آماله في السياسيّين كمن يتعلّم الحلاقة في رؤوس اليتامى (أليس التونسيّون يتامى الأب الخائن الفارّ بجلده من البيت، بن عليّ؟). ولكنّنا نزعم بالأحرى أنّ قيس سعيّد هو نتاج لخيبة أكبر هي خيبتنا في تحقيق انتقال ديمقراطي حقيقيّ.

وإذا كان قيس سعيد، من حيث يشعر أو لا يشعر، فاضحا لوهننا هذا ونكبتنا هذه فهل هو قادر في السنوات الأربع المتبقّية من أن يقوم بدوره رئيسا يجمع التونسيّين ويتعالى عن الصراعات ويصنع الأمل لينكبّ على التفكير المنظّم في انسداد أفق الانتقال الديمقراطيّ وأسبابه والبحث، مع المخلصين من أهل المعرفة والخبرة والنزاهة ونظافة اليد ونكران الذات، عن بدائل تعدّل المسار ليكون الإنقاذ من الانهيار المتوقّع المدوّي بعيدا عن حقارات السياسيّين المحترفين ومنطق الغنيمة؟  

بصراحة أشكّ بمنطق العقل في ذلك شكّا كبيرا ولكنّني أتفاءل برغبات القلب تفاؤلا عميقا.

سنة أخرى فقط تكفي كي نرى شيئا مّا يؤكّد شكوك العقل أو تفاؤل القلب. 

 

 

 

 

 

 

 

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter