alexametrics
أفكار

الدستور التونسي بين وحدانية اللغة وحريتها (الجزء الثاني)

مدّة القراءة : 22 دقيقة
الدستور التونسي بين وحدانية اللغة وحريتها (الجزء الثاني)

 

الجزء الثاني ـ أسلوب الحياد: تكريس حرية اللغة

 

إن القول بأن الدستور التونسي قد التزم الحياد ليس من باب الهراء إذ يجد أساسه في الفصلين الثامن والخامس من الدستور. فبقراءة هذين الفصلين يمكن لنا أن نقول أن الدستور التونسي قد التزم الحياد بوجهيه: الحياد الإيجابي من خلال ضمان حرية اللغة باعتبار أن هذا الفصل الثامن ومنذ النسخة الأولى قد ضمن حرية الفكر والتعبير (فقرة اولى) قبل أن يعزز هذا الحياد بطريقة سلبية، أربعون سنة بعد دخوله حيز التنفيذ،  من خلال عدم الإجازة لأي حزب سياسي أن يستند أساسا في مبادئه أو أهدافه أو نشاطه أو برامجه على لغة (فقرة ثانية). 

 

فقرة أولى ـ الحياد الإيجابي: حرية اللغة جزء لا يتجزأ من حرية الفكر والتعبير

 

ولئن أقر الدستور التونسي بأن العربية لغة الدولة إلا أنه ضمن في الفصل الثامن منه حرية الفكر والتعبير. فهل أن فرض لغة ما يعد ضربا من ضروب الاعتداء على حرية التعبير؟

قد يبدو ولأول وهلة أن الربط بين مسألتي اللغة و الحرية لا يعدو أن يكون إلا ربطا مصطنعا. ذلك أن اللغة عادة ما التصقت بالدولة وسيادتها مثلما هو الشأن بالنسبة لدستوري تونس وفرنسا. في حين ارتبط الفكر و التعبير بالحريات.

على أن هذه الحجة لا يمكن أن نقبل بها لسببين إثنين:

 أولا أن الدستور في تركيبته ليس إلا مقدمة وفصول. ومع وجود هذه التركيبة المتعددة الطوابق فإنه يجب أن يحصل عند قراءتها انسجاما من خلال بروز فكرة أساسية، تجد مصدرها في فلسفة معينة، وتميز طبيعة النظام بأكمله. ولا يمكن بذلك للمقدمة والفصول إلا أن توظف لخدمة تلك الفكرة الأساسية. وحيث أن فكرة الحرية سمة بارزة في الدستور التونسي. لذا فإن اللغة تبقى، في اعتقادنا من هذه الزاوية، ملتصقة بفكرة الحرية.

ثانيا إذا كان الدستور التونسي لا يقر صراحة حرية اللغة كما هو الحال في بعض الدساتير المقارنة، كدستور المملكة البلجيكية[1] و دستورأسبانيا[2] ودستورإيطاليا[3] ولكن خاصة الدستور السويسري الذي أقر في الفصل 18 ما أسماه بحرية اللغة[4]، إلا أن التعرض إلى دساتير تحتوي على قواعد مشابهة للدستور التونسي تسمح بالقول أن الدستور التونسي يكرس هذه الحرية.

فبالعودة إلى المثال الفرنسي نلاحظ أنه تم الربط بين اللغة وحرية التعبير برز في فرنسا مع الظروف التي صاحبت المصادقة على ما سمي بقانون "توبون"[5] وهو القانون المؤرخ في 4 أوت 1994 يتعلق باستعمال اللغة الفرنسية[6] .

فقبل المصادقة على هذا القانون، قام مجموعة من نواب الجمعية الوطنية الفرنسية بالطعن في مشروع القانون المذكور أمام المجلس الدستوري لفحص دستوريته. وقد برر هؤلاء الطعن باعتبار الدفاع عن اللغة الفرنسية بالزجر والتحجير من شأنه أن يمس بحريتي التعبير والإتصالات[7].  بل أكثر من ذلك فقد عاب النواب على مشروع القانون المذكور التطرف اللغوي من جهة والتطهير اللغوي من جهة أخرى[8].

وإذا لم يربط الدستور الفرنسي، صراحة، بين اللغة وحرية التعبير إلا أن المجلس الدستوري دعا إلى ضرورة استعمال صيغة التوفيق بينهما. فقد ألزم، في القرار الصادر عنه تحت عدد 94ـ345، المشرع إلى ضرورة العمل بالتوفيق بين الفصل 2 من الدستور وحريتي الإتصالات والتعبير المنصوص عليهما في الفصل 11 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن[9].  وهو نفس الموقف الذي تبناه في القرار عدد 99ـ412[10].  على أن صيغة التوفيق التي دعا إليها المجلس الدستوري الفرنسي لا تعني التساوي المطلق في القيمة بين القاعدتين.

 فقد ميز المجلس بين أشخاص القانون العام والأشخاص الخاصة المكلفة بمهمة مرفق عام من جهة وبين الأشخاص الخاصة من جهة أخرى[11] أو بين مفهوم الحياة العامة، التي تشمل القضاء والسلط الإدارية والمرافق العامة من جهة و مفهوم الحياة الخاصة من جهة أخرى [12].   ذلك أن الأولوية تعطى لحرية التعبير عندما يتعلق الأمر بأشخاص القانون الخاص في حين يقع تغليب فرض اللغة الفرنسية بالنسبة للآخرين[13]. على أن فرض استعمال اللغة الفرنسية تعفى منه المؤسسات والمرافق السمعية البصرية سواء كانت عامة أم خاصة[14]. وبذلك فإن الامتثال للغة فرضها الدستور كلغة رسمية للدولة لا يجب أن يؤدي إلى إهدار حرية التعبير[15]. ويبدو أن اتجاه المجلس الدستوري مرشح إلى مزيد من تغليب حرية اللغة على لغة الجمهورية وذلك بعد إدخال تعديل على الدستور في صائفة 2008 مفاده اعتبار اللغات الجهوية جزء من تراث فرنسا[16].

و قبل المجلس الدستوري الفرنسي بسنوات عدة، رأت المحكمة العليا الأمريكية أن اللغة ترتبط بحرية التعبير.

 فقد تعرضت التعددية اللغوية في الولايات المتحدة إلى تحديات عدة على أن موقف المحكمة العليا بقي مستقرا على نفس المبدأ.

فلأول مرة تتعرض التعددية اللغوية إلى امتحان كان مع توافد المهاجرين القادمين من الصين في أواسط القرن 19 و الوافدين من جنوب وشرق أوروبا في أواخر القرن 19 وبداية القرن 20. عندها بدأ يبرز شعور بالتمسك بالوطنية الأمريكية. وهو ما آل إلى سن قانون فدرالي سنة 1906 يفرض التكلم بالإنقليزية للحصول على الجنسية الأمريكية.

 أما الإمتحان الثاني فكان إبان الحرب العالمية الأولى إذ برزت إلى الوجود حملة موجهة ضد اللغة الألمانية[17] إنتهى بدولة نبراسكا إلى سن قانون حجر استعمال أي لغة أخرى غير الإنقليزية كلغة تدريس. على أن المحكمة العليا اعتبرت سنة 1923 في القضية الشهيرة ماير ضد نبراسكا أن القانون المذكور غير دستوري[18]. وقد وقع اعتبار القرار المذكور انتصارا للحرية الفردية وللتعددية التي تميز الهوية الأمريكية.

وقد كان للقضاء الأمريكي نفس الموقف، في تسعينات القرن الماضي، عندما قامت ولاية أريزونا بإدخال تعديل على دستورها بموجب إستفتاء شعبي يفرض على الحكومة والإدارة إستعمال اللغة الإنقليزية دون سواها كلغة رسمية، كتحجير استعمال أي لغة أخرى، والمقصودة هنا هي اللغة الأسبانية، سواء بالنسبة للنشاط الحكومي، أو في مجال التعليم أو بالنسبة للجماعات العمومية المحلية. على أن المحكمة اعتبرت هذا التعديل الدستوري لدولة أريزونا مخالفا للدستور الإتحادي الذي يضمن حرية التعبير[19].  ولم تساند المحكمة العليا القضاة المنشقين في الحكم المطعون فيه والذين ارتأوا أن التعديل المذكور طالما وضع حدودا لوسائل التعبير و لم يتدخل في مضمون وأسس الأفكار فإنه لا يمس بحرية التعبير. وقد اعتبرت المحكمة العليا أن التعديل المذكور مخالفا لمبدأ المساواة ولحرية التعبير المضمونين من قبل الدستور الاتحادي[20].

ولم يحد جانب من الفقه عن ضرورة الربط بين المفهومين. إذ اعتبر أحدهم أن تكريس حرية اللغة ناجم عن تكريس حرية التعبير[21]. ومن هذا المنطلق نرى أن الوضع القانوني للغة في تونس لا يمكن فهمه بمعزل عن الفصل الثامن من الدستور. علما وأن الفصلين الأول والثامن يندرجان ضمن نفس العنوان للباب الأول المسمى بـ"أحكام عامة".

 وبذلك نرى أن الدستور لا يحصر مفهوم اللغة كلغة تعبير في اللغة العربية. كما أنه لا يتضمن أي منع لاستعمال لغات أخرى غير العربية. بل إن تعديل الدستور سنة 2002 عزز هذا الإتجاه بإضافة تعبير للفصل الخامس مفاده أن الجمهورية التونسية تقوم على التعددية[22]. فالتعددية مفهوم يشمل جميع المجالات بما في ذلك اللغة[23]. وبناءا عليه لا يمكن مثلا اعتبار القرارات الإدارية التي تفرض استعمال اللغة العربية على الخواص في علاقاتهم ببعضهم البعض قرارات مطابقة وملائمة للدستور[24]. فقرارات فرض تعريب اللافتات[25] هي قرارات مخالفة للفصلين الثامن والخامس من الدستور.

فضمان حرية التعبير والفكر ثم ضمان التعددية من جهة ولكن كذلك تحجير استناد الحزب في مستوى مبادئه أو أهدافه أو نشاطه أو برامجه أساسا على لغة من جهة أخرى لا يمكن أن يكون إلا من باب دعم هذا الحياد وتكريسا لحرية اللغة.

 

فقرة ثانية ـ الحياد السلبي: حرية اللغة نتاج لمنع الأحزاب السياسية من الاستناد إلى لغة ما

بعد مرور أربعين سنة من تكريس اللغة في الدستور التونسي، بدا للمشرع التأسيسي أن يتعرض للغة من جديد ولكن، هذه المرة، بأسلوب جديد. فبمناسبة تعديل الدستور سنة 1997 تم إعطاء مكانة دستورية صريحة لأول مرة للأحزاب السياسية بعد أن وقع تنظيمها بقانون أساسي صدر في ماي 1988.

وبعد تعريف الحزب السياسي حجرت الفقرة الخامسة من الفصل 8 من الدستور على كل حزب "أن يستند في مستوى مبادئه أو أهدافه أو نشاطه أو برامجه على دين أو لغة أو عنصر أو جنس أو جهة". 

ويعد هذا الفصل نقلا حرفيا لأغلب ما تضمنه القانون الأساسي الصادر في ماي 1988 والمتعلق بالأحزاب السياسية[26]. يجب أن نبين قبل كل شيء أن وجود هذه العبارات في الدستور قد لا تخدم التركيبة المنسجمة للدستور التونسي وهو وجه من أوجه التناقض الذي قد يشهده. ذلك أن الدستور تعامل مع اللغة بثلاث أساليب متباينة أسلوب فرض لغة معينة (فرض اللغة العربية على الدولة) أسلوب الحرية(ضمان حرية الفكر والتعبير من جهة وقيام الدولة على التعددية من جهة أخرى) وأسلوب المنع الذي يتعلق بعلاقة اللغة بالأحزاب السياسية.  وربما يعكس هذا التضارب في المواقف وجود هذا الصراع الذي برز أثناء مناقشات المجلس القومي التأسيسي المتسم بازدواجية المواقف والرؤى من مسألة العروبة. أي من المدلول السياسي والإيديولوجي للغة.

 وبذلك فإننا نرى أن تبني أسلوب المنع ناجم عن نفس هذا الإحتراز الدائم من المدلول السياسي والإيديولوجي للغة وهو فكر التيار الذي فرض رؤيته عند مناقشات المجلس القومي التأسيسي. وإذا ما نجح الدستور في تحييد اللغة من الصراعات السياسية إلا أن المشرع عندما تعرض إلى هذه المسألة لم يفلح في ذلك. 

فبإلقاء نظرة على هذه المداولات التي سبقت الموافقة على القانون الأساسي المنظم للأحزاب السياسية، نلاحظ أن الإزدواجية في الإتجاهات، التي برزت أثناء مداولات المجلس القومي التأسيسي والتي تعرضنا إليها آنفا، قد طفت من جديد على السطح. إذ سيطر هاجس طمس الهوية العربية الإسلامية على أعمال المجلس. على أن إذا كانت الغلبة في الشوط الأول لأنصار بورقيبة، فإن الغلبة هذه المرة كان لأنصار العروبة.

فبالإطلاع على وثيقة شرح الأسباب حول مشروع قانون أساسي يتعلق بالأحزاب السياسية المقدم من قبل الحكومة نلاحظ أن مشروع القانون تعرض إلى واجبات الأحزاب منها عدم نسب مبادئه وأهدافه وبرامجه إلى دين أو لغة أو جنس أو جهة[27].

على أنه أثناء النقاش أبدى عدد من النواب تخوفاتهم من هذا التحجير. فقد بين النائب مصطفى الفيلالي " أن النص يسكت عن المقومات الذاتية، الوطنية وبالأساس يسكت عن الإنتساب الحضاري إلى حضارة فكريةـ تاريخية وجغرافية ممثلة أساسا في المراجع الثابتة لهذا الإنتساب وهو الدين الإسلامي، اللغة العربية...أما حقوق الإنسان فلها مراجعها وقبل أن تكون هذه الحقوق مستندة إلى الدستور التونسي فهي تستند إلى الدين الإسلامي والأخلاقية الإسلامية..."[28]. وقد أكد نفس النائب أن النشاط السياسي لا "يمكن أن ينفصل عن المرجع الحضاري الذي تكون اللغة رمزه الأكبر" علما وأنه يرى "أن منزلة اللغة العربية مهمشة في بلادنا في حين تعد الفرنسية طاغية بنسبة 90 % في التعليم بنسبة 70% في الإدارة العامة بنسبة 100% في المؤسسات"[29]. وفي نفس الإتجاه كان محمد الشاذلي النيفر وفيا للإتجاه الذي دافع عنه سنة 1956 فانتقد الموانع التي وردت في الفصل الثالث متسائلا "لماذا هذه التخوفات من الدين والعربية"[30] و الحال وأن "السابع من نوفمبر أعاد لتونس مسارها الإسلامي"[31].

وفي نفس الإتجاه أكد النائب أحمد العربي أن " دستورنا ينص على أن اللغة العربية هي لغة البلاد الأصلية ونحن الآن قد مضى علينا أكثر من ثلاثين سنة في الإستقلال ولكن اللغة العربية تقهقرت في الإدارة وكذلك أيضا في التعليم بمعنى ذلك أن الدستور لم يحم اللغة العربية بل جعل من اللغة الثانية التي هي غير منصوص عليها في الدستور هي اللغة المستعملة في جميع معاملاتنا الإدارية وغير الإدارية لذلك نحن نحتاج إلى التزام قومي، نلتزم جميعا في السياسة وفي تنظيم شؤوننا بأن نستعمل العربية وندافع عنها كهوية"[32].

و لم تظهر معارضة لهذا الإتجاه إلا من قبل عدد قليل من النواب. فقد بين النائب الحسين المغربي  أن تنصيص القانون على الهوية العربية الإسلامية إنما هو يعكس عقدة تؤدي إلى الشك في الشخصية وهو يأسف إن وقع التنصيص عليه[33].

وقد جاء في رد وزير العدل أن الإختيارات الأساسية الرئاسية تعتز " بالذاتية التونسية وبحضارتنا وبإسلامنا وبعروبتنا". "أما بالنسبة للغة العربية ... فإنها ليست محل خلاف بين التونسيين ونعتز جميعا بلغتنا ونتجنب أن يستند أساسا حزب ما على لغة عربية يمكن أن نتصور أن هناك حزب يتقدم لإحياء اللغة البربرية"[34].  على أن وزير العدل قبل في خاتمة المطاف إدخال تعديل على الفصل الثاني. فقد أصبح، بمقتضى ضغط عدد كبير من النواب، على الحزب أن يدافع على الهوية العربية الإسلامية. بل أكثر من ذلك فقد اعتبر الوزير أنه "من واجبنا جميعا بأن نحترم وندافع عن اللغة العربية"[35].

وبذلك نلاحظ أن إتجاه محمد الشاذلي النيفر أمكن له تكريس وجهة نظره على مستوى قانون أساسي. على أن ذلك لم يتم على مستوى تنقيح الدستور فشرط دفاع الحزب عن الهوية العربية الإسلامية لم يقع تكريسه في الدستور بعد تعديله سنة 1997. بل أكثر من ذلك فإن اللغة لم تكن هذه المرة محل جدل بين النواب والحكومة سواء في القراءة الأولى[36] أو في القراءة الثانية[37]. وبذلك لم يتعرض المجلس، عند الموافقة على التعديل، إلى الهوية العربية الإسلامية بدعوى وجود شرط يمنع على الحزب الإستناد إلى اللغة.

وبذلك يمكن القول أن الدستور التونسي ولئن أعطى مكانة للغة العربية من خلال اعتبارها لغة الدولة إلا أنه حجر على المستوى السياسي أن تكون اللغة مهما كانت أساسا لبرنامج أو أهداف أو نشاط أي حزب سياسي. فحافظ بذلك وإلى حد الآن على العربية كلغة وواصل على نهج الإحتراز من العربية كإيديولوجيا.

وبذلك نتأكد من أن الآباء المؤسسين عندما تعرضوا إلى اللغة فإن ذلك لم يكن له بعد سياسي يتعلق مثلا بفرض اللغة العربية، كلغة وحيدة، على مكونات المجتمع السياسي من مواطنين وأحزاب سياسية وإدارة. بل إن الأمر لا يعدو أن يكون إلا من باب إعطاء طابع رمزي للغة العربية وتعزز ذلك بتكريس حريتي الفكر والتعبير وقيام الجمهورية التونسية على التعددية كمنع الأحزاب من الاستناد في برامجها وأسسها إلى لغة معينة.  ولو لم يكن هناك تخوف من التوظيف الإيديولوجي للغة، لربما لما وقع التنصيص على لغة الدولة صلب الدستور طالما أن المجتمع التونسي كان مجتمعا متجانسا ثم أن النقاش الذي تم داخل المجلس القومي التأسيسي كان باللغة العربية[38] ولم تطرح قط لغة النقاش أو اللغة التي سوف يقع الإعتماد عليها لصياغة مقدمة وفصول الدستور.

إن اللغة، ولئن كانت وسيلة للتخاطب والتفاهم، إلا أن إلتصاقها بما يسمى بالهوية من شأنه أن يخلق العديد من المشاكل. فتتحول بذلك عاملا من عوامل التخلف لتعارضها مع فلسفة التعددية والتسامح[39]. وهو ربما الداعي الذي جعل أرناست رينون يعمد، في المحاضرة التي ألقاها بالسوربون سنة 1882، إلى تهميش كل العوامل التي تتصل بالعرق أو الدين أواللغة، من قاموس تعريف الأمة[40].    

ويبدو أن بورقيبة وأتباعه كانوا واعين بهذه المسألة[41]. ولم يكن التعامل معها بالمسألة الهينة. لأن اللغة، في عقلية وثقافة وفكر الأغلبية الساحقة من الشعب التونسي كما هو الحال بالنسبة لأغلب الدول الناطقة بالعربية، إلتصقت بالهوية العربية الإسلامية[42] لا سيما و أن اللغة العربية هي اللغة التي نزل بها القرآن.  يضاف إلى هذا العامل الأساسي، الظروف التي حكمت وضع الدستور ألا وهي التخلص من الاستعمار الفرنسي الذي فرض لغته على أكثر من مستوى[43] من جهة، وتمسك اليوسفيين، المنافسين السياسيين لبورقيبة، ببعدهم القومي العربي و الإسلامي من جهة أخرى. تصبح، من هنا، حتمية الرجوع إلى العربية في أعمال الدستور عملية لا مفر منها. على أن ذلك لا يجب أن يؤدي، في رأي بورقيبة وأتباعه، إلى طرح المجادلة بين العروبة كإيديولوجيا، وبين القيم الليبرالية التي درست بلغة المستعمر أي الفرنسية. فاللغة لا يجب أن تكون سببا في أي معركة إيديولوجية مع قيم الحرية ولا مصدرا للتصادم بين الحضارات لأن الحضارات، وبكل بساطة، لا تتصارع أوتتصادم وإنما تتنافس. أما التصادم فيحصل بين التخلف والتقدم أو بين الرجعية والحداثة[44]. من هنا نعتبر أن تكريس العربية كلغة الدولة التونسية لا يعني إهدارا لحرية اللغة التي تبقى، حسب اعتقادنا، مضمونة دستوريا سواء بالرجوع إلى النص أو إلى روح الدستور والفلسفة الليبرالية التي انبنى عليها.

 

 أميـن محفـوظ



[1] L’article 30 de la Constitution du Royaume de Belgique, inséré dans le Titre II « Des Belges et de leurs droit »,  prévoit que « L’emploi des langues usités en Belgique est facultatif ; il ne peut être réglé que par la loi, et seulement pour les actes de l’autorité publique et pour les affaires judiciaires ».

[2] L’article 3 de la Constitution du Royaume d’Espagne qui proclame « La richesse des différentes modalités linguistiques de l’Espagne » comme un « patrimoine culturel qui doit être l’objet d’une protection et d’un respect particuliers ».

[3] L’article 6 de la Constitution de la République italienne dispose que la République « protège par des mesures particulières les minorités linguistiques ».

[4] « La liberté de la langue est garantie ». AUBERT (J-F), « Le cas de la Suisse », in Langue(s) et constitution(s), op.cit. ; p.2. L’auteur précise qu’«avant l’entrée en vigueur de la nouvelle constitution fédérale, la liberté de la langue était considérée par le Tribunal fédéral comme un droit fondamental non écrit qui pouvait être invoqué de la même manière qu’un droit fondamental expressément garanti. », Idem. pp. 8-9-10. 

[5] J.O.R.F, 5 août 1994, p11392.

[6]   أكد هذا القانون، بالرجوع إلى الفصل 2 من الدستور، أن اللغة الفرنسية، كعنصر أساسي للشخصية والتراث الفرنسي، هي لغة           السلطة. على أنه تجدر الإشارة إلى صدور نصوص ذات طبيعة مختلفة، صدرت قبل هذا القانون، تهدف إلى حماية اللغة الفرنسية، أهمها كان القانون المؤرخ في 31 ديسمبر 1975 والمتعلق باستعمال اللغة الفرنسية.

[7] JO du 2 août 1994, p.11246, saisine présentée par 60 députés, loi relative à l’emploi de la langue française.

[8] La saisine affirmait qu’ « une langue vit plus d’enthousiasme et de plaisir des mots que des normes contraignantes et de barrières à la libre expression » et qu’il fallait éviter le chauvinisme linguistique et la « purification lexicale », ce que faisait la loi en portant atteinte à la libre communication des pensées et des opinions et en voulant imposer « une langue officielle ». Idem, p.11247.

[9] Il incombe au législateur «  d’opérer la conciliation nécessaire entre ces dispositions d’ordre constitutionnel (celle de l’article 2) et la liberté de communication et d’expression proclamée par l’article 11 de la Déclaration des droits ». Décision 94-345 DC du 29 juillet 1994, Loi relative à l’emploi de la langue française, Recueil de jurisprudence constitutionnelle sous la direction de L. Favoreu, Litec, I, p.595 (consid. 6).

[10] « Considérant d’autre part que la liberté proclamée à l’article 11 de la déclaration des droits de l’homme et du citoyen de 1789… doit être conciliée avec le premier alinéa de l’article 2 de la Constitution selon lequel la langue de la République est le français ». Décision 99-412 DC du 15 juin 1999, Charte européenne des langues régionales ou minoritaires, Idem, p.824 (consid. 7).

[11] « Considérant  que les dispositions (…) n’opèrent aucune distinction entre d’une part les personnes morales de droit public et les personnes de droit privé dans l’exercice d’une mission de service public et d’autre part les autres personnes privées… ». (Cons. N°13), Décision n° 345-94 DC op.cit.,

[12] « Considérant que ces dispositions sont également contraires au premier alinéa de l’article 2 de la Constitution en ce qu’elles tendent à reconnaître un droit à pratiquer une langue autre que le français non seulement dans la vie privée mais également dans la vie publique, à laquelle la Charte (européenne des langues régionales ou minoritaires) rattache la justice et les autorités administratives et services publics » (Consid. N°11), décision n°99-412 DC du 15 juin 1999, op.cit.

[13]  ويعود تعرض المجلس الدستوري لهذه المسألة باعتبار أن الميثاق الأوروبي للغات الجهوية أو لغات الأقلية، موضوع المراقبة في القرار عدد 412، يفرض في مقدمته" استعمال اللغة الجهوية أو لغة الأقلية في الحياة الخاصة أو العامة". 

[14] « Considérant que toutefois, eu égard à la liberté fondamentale de pensée et d’expression proclamée par l’article 11 de la Déclaration des droits de l’homme et du citoyen, il ne pouvait imposer, sous peine de sanctions, pareille obligation aux organismes et services de radiodiffusion sonore et télévisuelle qu’ils soient publics ou privés » (Consi. N°9), Décision n° 345-94 DC op.cit

[15] « Considérant qu’en vertu de ces dispositions (Article 2 de la Constitution et article 11 de la déclaration des droits de l’homme et du citoyen) l’usage du français s’impose aux personnes morales de droit public et aux personnes de droit privé dans l’exercice d’une mission de service public, que les particuliers ne peuvent se prévaloir, dans leurs relations avec les administrations et les services publics, d’un droit à l’usage d’une langue autre que le français, ni être contraints à un tel usage, que l’article 2 de la constitution n’interdit pas de traductions ; que son application ne doit pas conduire à méconnaître l’importance que revêt en matière d’enseignement, de recherche et de communication audiovisuelle, la liberté d’expression et de communication » (Consid. N°8) décision n°99-412 DC du 15 juin 1999, op.cit.

[16] Article 75-1 « Les langues régionales appartiennent au patrimoine de la France », Loi constitutionnelle n°2008-724 du 23 /07/2008 de modernisation des institutions de la République, j.o.r.f. du 24 juillet 2008.

[17] Playing on strong anti-German sentiments, Theodore Roosevelt asserted that “we have room but for one language in this country and that is English language”.

[18] The Supreme Court found that Nebraska law unconstitutional because it impinged on fundamental liberties by “materially” interfering “with the calling of modern language teachers, with the opportunity of students to acquire knowledge, and with the power of parents to control the education of their own”. 262 U.S. 390. V. Rosenfeld (M), « Bilingualism, national identity and diversity in the United States », op.cit., p.8.

[19]  Yniguez v. Arizonans for official English led to a 6-5 decision by a Circuit Court of Appeals (one of the courts just below the U.S. Supreme Court) 69 F. 3d 920 (9th Cir. 1995). « This case raises troubling questions regarding the constitutional status of language rights and conversely, the state’s power to restrict such rights. There are valid concerns on both sides. In our diverse and pluralistic society, the importance of establishing common bonds and common language between citizens is clear. Equally important, however, is the American tradition of tolerance, a tradition that recognizes the difference between encouraging the use of English and repressing the use of other languages »

[20] See Ruiz v. hull, 957 P. 2d 984 (1998). “ By denying persons who are limited in English profiency or entirely laking in it, the right to participate in the political process, the Amendement violates the right to participate in and have access to government, a right is one of the “ fundamental principles of representative government in this country”.

[21] Pour De Witte (B), la liberté linguistique est reconnue par tous les règlements qui garantissent la liberté d’expression, laquelle protégerait non seulement le contenu du message, mais aussi l’outil pour l’exprimer, c’est-à-dire la langue.  « Droits fondamentaux et protection de la diversité linguistique », in Langue et droit, Actes du Premier Congrès de l’Institut international de droit linguistique comparé, Montréal, 1989, pp.92 et s.

[22]  القانون الدستوري عدد 51 لسنة 2002 المؤرخ في 1 جوان 2002.

[23] V. le n° 49 des Archives de philosophie du Droit, intitulé ‘’ Le pluralisme’’, Dalloz, 2005.

[24]  ويحق لنا أن نتساءل عن مدلول اللغة العربية التي يقع اعتمادها. ذلك أنه بالرغم من عدم وجود حرف "ڨ" في أبجديات اللغة العربية إلا أن التسميات الرسمية لبعض الولايات، على سبيل المثال، تعمد إلى اللجوء إلى استعمال هذا الحرف: ڨبلي، ڨابس، ڨفصة...بذلك نلاحظ أن اللغة الأدبية امتزجت باللغة العامية وكان ذلك على المستوى الرسمي.

[25]  علاوة على كون فرض استعمال اللغة العربية يؤدي، أحيانا، إلى وضعيات مزرية. من ذلك تعرض الاستاذ بن عاشور إلى حالة ترجمة مطعم من الفرنسية إلى العربية. فيصبح   Le Relais"لو رولي". أنظر:

BEN ACHOUR (Y), « Les implications linguistiques du problème linguistique au Maghreb », op.cit., p.19.

[26]  محفوظ (أمين)، حرية تكوين الأحزاب السياسية، دراسة مقارنة بين النظامين التونسي والجزائري، مذكرة لنيل شهادة الدراسات المعمقة، كلية الحقوق بسوسة، 1991.

[27]  أنظر الرائد الرسمي التونسي، مداولات مجلس النوابـ عدد 35 ـ جلسة يومي 27 و28 أفريل 1988، ص. 1806 ـ ص.1807.

[28]  أنظر نفس المرجع السابق ص. 1813.

[29]  نفس المرجع السابق ص.1813.

[30]  نفس المرجع السابق ص. 1817.

[31] نفس المرجع السابق ص. 1817.

[32]  نفس المرجع السابق ص.1843. أنظر كذلك مداخلة النائب محمد الطرودي التي تذهب في نفس الإتجاه، المرجع السابق، ص. 1845 ومداخلة النائب محمد الشواشي، المرجع السابق، ص. 1846 و رئيس مجلس النواب، المرجع السابق، ص. 1846.

[33]  نفس المرجع، ص.1844 وقد سانده في ذلك النائب البشير الخنتوش، المرجع السابق، ص. 1846.

[34]  نفس المرجع السابق ص.1837.

[35] نفس المرجع السابق ص. 1851.

[36]  أنظر الرائد الرسمي للجمهورية التونسية، مداولات مجلس النواب ـ عدد 37ـ جلسة يوم الثلاثاء 15 جويلية 1997 ص12 وما يليها.

[37]  أنظر الرائد الرسمي للجمهورية التونسية، مداولات مجلس النواب ـ عدد 2ـ جلسة يوم الثلاثاء 21 أكتوبر 1997 ص20 ـ21.

[38] أنظر على سبيل المثال تدخل أندري باروش، مناقشات المجلس القومي التأسيسي، ر.ر.ج.ت. ، عدد 11، جلسة يوم الإثنين 26 جانفي 1958، ص.249.

[39] V. TERR (5), « Le pluralisme et le droit », in Le Pluralisme, Arch.phil.droit 49, Dalloz, 2005, p. 69 et s.

[40] « Qu’est-ce qu’une nation ? » est une conférence donnée par Ernest Renan à la Sorbonne en 1882, et publiée par la suite dans les Discours et conférences, en 1887. Le discours de la Sorbonne reste, avec La Vie de Jésus, le texte le plus connu de Renan. Reçu premier à l’agrégation de philosophie en 1848, E. Renan devient docteur ès lettres à la suite d’une thèse sur le philosophe Averroès terminée en 1852.

[41]  يبدو لنا من خلال قراءة الدستور أن الآباء المؤسسين حاولوا تجنب الحديث عن الأمة الإسلامية أو الأمة العربية. بل إن مصطلح الأمة وقع اختزاله في تونس دون غيرها وهو ما يمكن أن نستشفه من خلال تسمية المجلس النيابي بـ"مجلس الأمة"(الفصل 18) وأن النائب يمثل "الأمة جمعاء" (الفصل25)، و يمين رئيس الجمهورية الذي تضمن قسما بأن يـرعى" مصالح الأمة رعاية كاملة" (الفصل 42) علاوة على أن التوطئة حاولت التعرض إلى الماضي المشترك (التخلص من السيطرة الأجنبية" لتحيقق الأهداف المشتركة: " توثيق عرى الوحدة القومية والتمسك بالقيم الإنسانية...إقامة ديمقراطية.". وبذلك نرى أن الرأي الذي انتصر هو الرأي الذي يأخذ بأغلب جوانب النظرية الذاتية للأمة. 

[42] أنظر تعقيب هشام جعيط على مداخلة عبد الكريم غلاب التي تحمل عنوان:" التعريب ودوره في حركات التحرير في المغرب العربي" من التعريب ودوره في تدعيم الوجود العربي والوحدة العربية، مرجع سبق ذكره، ص.196.

[43]  عاشوري (عبد العزيز)، " محاولة لتقويم تجربة التعريب في تونس"، وقع ذكره، ص.229 وما بعدها.

[44]  ربط أبو القاسم الشابي، شاعر"أغاني الحياة"، بين المسألة اللغوية ومسألة الحداثة واعتبر جهله للغات الأجنبية عائقا يحول بينه وبين النفاذ إلى الأصل من آداب وحضارات الأمم الأخرى. وقد حث أصدقاءه من الأدباء التونسيين على "دراسة اللغة الفرنسية واستخراج كنوزها ونشر آياتها الرائعة بين أبناء (الشعب) الضائعين". أنظر: السنوسي (منير)، "أدب أبو القاسم الشابي من زاوية علوم السياسة"، أعمال مهداة للعميد عياض بن عاشور، مركز النشر الجامعي، 2008، ص. 1200.

 

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter