alexametrics
أفكار

المسألة مسألة أمن قومي أيها السادة!

مدّة القراءة : 6 دقيقة
المسألة مسألة أمن قومي أيها السادة!

 

هل هناك أحد في بلادنا باستطاعته الإجابة على الأسئلة التالية: من أين تأتي بعض القنوات الإذاعية والتلفزيونية التونسية الخاصة بالموارد المالية الضرورية لتسديد رواتب موظفيها وتغطية التزاماتها القانونية ونفقاتها التقنية والإنتاجية والتسويقية، والحال أنها لا تملك أي موارد تجارية ولا تبث أي نوع من الإعلانات التي تضمن لها ولو الحد الأدنى من العائدات المالية؟ وما دامت تلك القنوات لا تحقق أي عائدات مالية، فمن أين تتوفر لها الأموال للوفاء بالتزاماتها وهل تتلقى، كلها أو بعضها، تمويلات من الخارج وهل القانون التونسي يسمح لها بذلك؟ 

 

لا يخفى على أحد أن وسائل الإعلام السمعية البصرية تمثل اليوم المصدر الأساسي والأكثر انتشارا الذي يعتمد عليه التونسيون للوصول إلى المعلومة ومتابعة البرامج الترفيهية و الإخبارية والحملات الإنتخابية ومجريات الأحداث على الساحة الوطنية...، لما يتميز به عن باقي الوسائط المكتوبة أو الرقمية من قدرة على تجاوز العوائق التي تواجه شرائح عدة في المجتمع التونسي، مثل الأمية وضعف مهارات استعمال الكمبيوتر والأجهزة الرقمية الأخرى...

 

ويتبين من خلال المتابعة المستمرة لأداء القنوات الإذاعية والتلفزيونية العمومية ورصد تعاملها مع القضايا الوطنية للبلاد والمجتمع منذ جانفي 2011، أن الإعلام العمومي لم تتوفر له أبدا الإرادة السياسية والأمكانيات المادية والبشرية الضرورية لإصلاحه وتأهيله عل مستوى التشريعات والهياكل والموارد وآليات التسيير والتحول من منوال اقتصادي مُسَير وموجه من قبل الدولة إلى منوال اقتصادي مستقل ومنفتح على الاقتصاد الوطني والقطاع الخاص، من أجل تلبية طموح  التونسيين نحو إنشاء مرفق عمومي يقدم إعلاما تعدديا يكون منفتحا على القضايا المطروحة في الدولة والمجتمع، بعيدا عن كافة أشكال النمطية والأحكام المسبقة والولاءات الضيقة...

 

فحرية الرأي والتعبير التي اكتسبها التونسيون لم تتجسد على أرض الواقع في وسائل إعلامهم بالمواصفات المهنية والأخلاقية المطلوبة بنسج مضمون يرتقي بالذوق العام ويُترجم تنوعهم ويجسد مشاغلهم وطموحاتهم وتطلعهم نحو مستقبل أفضل، ويرسخ لديهم روح المواطنة والمسؤولية ويضع الأمن القومي لبلادهم فوق كل اعتبار، ويروج لقيم الحرية والعدالة ويتصدي إلى الفكر المنحرف سيما إلى التيارات الداعية إلى العنف والتطرف والإقصاء والنعرات الجهوية أو العنصرية....

 

لا بل يمكن القول إن وسائل الإعلام العمومي فشلت فشلا ذريعا في آداء وظيفتها الإجتماعية التربوية والتوعوية، وعجزت عن مواكبة جموح التونسيين نحو التغيير ومواكبة مناخ الحريات وما يقتضيه من استقلالية في السياسات وجرأة وأمانة في الطرح، وموضوعية ومهنية في صناعة المضمون، وبقيت السلطة السياسية غير مكترثة تماما بالإصلاح لا يهمها من المشهد الإعلامي العام سوى التحكم (اللصيق أو عن بعد) في كافة مفاصل الإعلام العمومي والهيمنة بكل ثقلها على المضمون الإخباري إلى درجة تتجاوز أحيانا في وقاحتها واستهتارها بقيم المهنية ومواثيق الشرف الإعلامية وبالرأي العام عموما ما كان سائدا في عهد الرئيسيْن بورقيبة وبن علي.

 

وأمام هذا القصور الخطير من جانب الدولة والحكومات المتعاقبة منذ 2011 في تمكين المواطن التونسي من إعلام عمومي يكون له سندا في سعيه نحو بناء دولة منيعة، عادلة ومزدهرة، ومجتمع منتج ومتكاتف ومؤمن بقدراته، سيما وأن بلادنا تمر بحقبة دقيقة يكتنفها الخوف من المستقبل وتسودها الكثير من الفوضى والفلتان في قطاعات عدة من بينها القطاع الإعلامي، فقد بقيت دار لقمان على حالها وتعددت القنوات الإذاعية والتلفزيونية الخاصة التي سيطر بعضها على المشهد وسط ضبابية مالية وتسييرية تامة وتخبط تشريعي هو أقرب إلى الفوضى من حيث ضعف آليات الرقابة القانونية وضبط سلوكيات القطاع Regulation سيما وأن معظم تلك القنوات لا تلتزم إطلاقا بالضوابط المهنية والأخلاقية إن في السياسات التحريرية والبرامجية التي تتبعها وتقدمها للمتلقي أو تلك الواردة في كراسات الشروط الملزمة لها بنص القانون.

 

وما من شك في أن الفوضى التي تسود المشهد الإعلامي التونسي تمثل خطرا ملموسا على الأمن القومي للدولة والمجتمع ومقومات الثقافية الوطنية من حيث أنها تهدد الإنسجام المجتمعي وتترك المجال فسيحا أمام التلاعب باستقلالية وسائل الإعلام الوطنية والتأثير، المباشر أو غير المباشر، في سياسات الدولة وخياراتها وإحداث الخلل في بنية المجتمع... فأمام الإنفتاح غير المسبوق للحدود وفضاءات البث والإرسال وتعزيز الترابط والتكامل بين وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل الإجتماعي، وفقدان الدول سيطرتها على حركة الفكر والثقافة والإنتاج الإبداعي...، تصبح القوة الكامنة في وسائل الإعلام قوة حقيقية ومؤثرة في المشهديْن السياسي والإقتصادي والإستراتيجي أسماها البعض "القوة الناعمة Soft Power".

 

لذا، فإن مفهوم الأمن القومي لم يعد اليوم مقتصرا على البُعد الإستعلاماتي والعسكري والإقتصادي والتكنولوجي...، ولكنه اتسع ليشمل تهديدات غير مباشرة يُمكنها أن تؤدي إلى إحداث الخلل في بنية المجتمع والدولة على حد السواء، مثل الإستخدام السئ أو غير المسؤول لوسائل الإعلام والإختراق الإعلامي والثقافي أو ما يُعرف اليوم بالحرب الإلكترونية ...

 

فقد أصبح الإعلام بفضل الثورة التي طرأت على وسائل الإتصال من أهم الأدوات التي ارتكزت عليها المخططات الإستراتيجية والتوسعية  في الدول الكبرى ولدى الدول التي تمتلك موارد مالية ضخمة لأن تلك الدول فهمت مبكرا أن استثمارتها في الإعلام يمكن أن تصنع لها نفوذا وتجعل صوتها مسموعا على الساحتين الإقليمية والدولية بقطع النظر عن صغر حجمها وضعف ثقلها السكاني...واستوعبت أن النظام العالمي الجديد تذوب فيه الحواجز بين الثقافات، والأديان، والحضارات وتسيطر فيه وسائل الإعلام على الأفكار والمشاعر بما يُمكن أن يخدم أهدافا معينة عن طريق استخدام الدعاية بهدف التحكُم في الرأي العام وفي أنماط السلوك المختلفة للأفراد والجماعات.

 

وعلى ألرغم من أنه لا يمكن تشخيص الحالة السائدة فى وسائل الإعلام التونسية، سيما القنوات التلفزيونية بـغير كلمتيْ الإنفلات والفوضى، فإن وجود المرسومين 115 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر و116 الخاص بالإعلام السمعي البصري والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري، يعد مكسبا لبلادنا شرط أن يتواصل البناء عليهما لتأطير هذا القطاع الحيوي وتطويره من حيث ضرورة الإستفادة من التجارب العالمية ذات المصداقية في بناء إعلام حر وتعددي غير خاضع لأي من مراكز التجاذب والنفوذ لا من الخارج ولا في الداخل بعيدا عن محاولات الدولة و أجهزة الحكم التحكم في عقول الناس عبر سن تشريعات عقيمة تجاوزها الزمن من أجل إحكام سيطرتها على وسائل الإعلام.

 

في المقابل، لا يجب أن نغفل أن هناك اليوم ضرورة عاجلة، سيما ونحن مقبلون على انتخابات مفصلية في تاريخ بلادنا، لتحرك جماعي من قبل كافة أجهزة الدولة ومؤسساتها (الحكومة، مجلس النواب، دائرة المحاسبات وبقية الأجهزة الرقابية، القضاء، أجهزة أمن الدولة، البنك المركزي، المنظمات المهنية...) من أجل التصدي بكل حزم وصرامة لتغلغل بعض مجموعات الضغط التونسية والأجنبية في المشهد السياسي والإعلامي عبر ضخ الأموال بهدف توظيف وسائل الإعلام من أجل امتلاك موطئ قدم على الساحة الوطنية وخدمة مصالح خاصة أو أجنبية منافية للصالح العام الوطني.

 

ولنا اليوم في المشهد التلفزيوني التونسي أمثلة عديدة لقنوات تم تأسيسها بمبادرات تحوم حولها الكثير من الشكوك والشبهات ويتم تمويلها بموارد غير معلومة المصدر من أجل دعم تيار سياسي وعقائدي معين على الساحة الوطنية. لا بل إن الأخطر من ذلك أن تلك القنوات تنفق ببذخ وتحصل على التراخيص القانونية للبث وأحيانا تنال نصيبا من سوق الإعلانات الوطنية المتواضعة جدا، دون أن تعلن لأحد عن مصادر تمويلها ودون أن تنشر أي معلومة عن حصيلة أعمالها.

 

فلا أحد اليوم في بلادنا يعلم  مقدار التمويل الأجنبي الذي تتلقاه بعض القنوات التلفزيونية الخاصة سواء مباشرة من جهة التمويل (نقدا أوتحويلا)، أوعبر أطراف سياسية تونسية لها ارتباطات وثيقة معلومة بجهات أجنبية. والغريب أو بالأحرى المريب في الأمر أن أجهزة الدولة كافة تغض النظر تماما عن ذلك ولا تكترث بالقنوات التي لا تصرح بالحصيلة السنوية لأعمالها وبمعاملاتها المالية في الداخل ومع الخارج.

 

لذلك، ومثلما تقوم الدولة والعديد من الأجهزة الرقابية والمنظمات المختصة بالتدقيق في مصادر تمويل المستثمرين الخواص والجمعيات الأهلية والخيرية والأحزاب السياسية، فإنه يتوجب عليها إقرار الآليات التشريعية والرقابية الملائمة لضمان اللعب المالي النظيف Financial Fair Play في الساحة الإعلامية، أوّلاً لمنع الإحتكار في المشهد الإعلامي والحيلولة دون امتلاك شخص أو جهة ما أكثر من مجموعة إعلامية واحدة، وثانيا للتأكد من سلامة مصادر تمويل وسائل الإعلام الخاصة وتدقيقها، سيما القنوات التلفزيونية، وإلزام المؤسسات الإعلامية بميثاق وطني للشفافية المالية وبوجوب الكشف عن مصادر تمويلها عبر نشر حصيلة سنوية مفصلة ومدققة لأعمالها، وبالتحديد نفقاتها ومداخيلها واستثماراتها، تكون خاضعة لمصادقة قضاة دائرة المحاسبات قبل نشرها للعموم.

 

وإذا لم تلتزم تلك المؤسسات بذلك وحاولت التلاعب بنتائج أعمالها من أجل إخفاء مصادر تمويلها، فإنها تتعرض إلى عقوبات شديدة يجب أن تصل إلى حد سحب رخصة بثها ومصادرة تجهيزاتها وتعليق إرسالها إذا امتنعت عامين متتالين عن الإعلان عن حساباتها وحصيلة أعمالها...لأن المسألة بكل بساطة تتعلق بأمن هذا الوطن وهذا المجتمع ولم تعد تحتمل التأخير.

 

في الأثناء، يتعين على الدولة أن تركز جهودها على تعزيز استقلالية مؤسسات الإعلام العمومي وإصلاح هياكلها التشريعية والإدارية وآليات العمل والتسيير بها وضمان الموارد المالية الملائمة وطويلة المدى وتمكينها من المرونة اللازمة للنهوض بها شكلا ومضمونا وإشعاعا ومنعها من الرعاية والإستشهار وبث الإعلانات التجارية وترك ذلك لقنوات القطاع الخاص.

 

محمود بوناب

 

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter