إسلام الغنوشي الديمقراطي المدني يحمل التأشيرة " حلال"
يبدو أنّنا صرنا شعبا استهلاكيا بامتياز.. وصار اقتصادنا يرتكز على التوريد، وتساهلنا في توريد كلّ شيء حتى البضائع التي ننتج.. واللافت أنّنا تعودّنا على هذه السياسة منذ 2011، والفضل في ذلك يعود إلى النهضة منذ أن تولّت إدارة أمور حياتنا الاقتصادية والسياسية والثقافية أيضا..
لم تعد أيّة ظاهرة تستفزّنا، بل صرنا نتفكّه لكلّ ما نشاهد ، ونبقى حينا من الزمن نتندّر ونتناقل ما يعترضنا، ثم تأخذنا أحداث أخرى إلى مواقف أخرى، والأيام تسير بنا حثيثا: استوقفنا البيض " الحلال"... والعسل الحلال.. والماء الحلال المستورد من تركيا.. ولا ننسى قلوب تركيا " الحلال" أيضا.. وها أنت أيها القارئ تشنّف أذنيك بمصطلح أقول عنه قديم/ جديد " الإسلام الديمقراطي المدني".. ولا أنكر أنّه متداول بيننا منذ 2003 أي بعيد هجوم 2001؛ لكن.. أن يذكره شيخ الأتقياء وحاكم تونس الأوّل " بشهادته في تلك الحصّة" فهذا يعني أنّ المصطلح مزكّى، ولم يعد منبتّا، وإنّما صار بمثابة شعار الفترة القادمة وعنوان البرنامج الانتخابي لحركة النهضة.. وبما أنّ الفكرة أو قل العبارة ليست بالإخوانية أو الغنوشية فإنّ الأمر يقتضي منّا التنبيه إلى هذا العنصر الجديد الذي حلّ بيننا وسيرتع في قنواتنا ويطير بين أجنحة كلام محلّلينا.. كيف لا وقد تحصّل على تأشيرة " حلال" من عند شخصية بيدها صكوك التوبة وشهادات الرضى على الأحزاب والأشخاص!!!
نطق "الشيخ" بالعبارة، واسمحوا لي بأن ألاحظ أنّه كان لحظة حواره في فرانس 24 أشبه بالمتبرّم والقلق يخرج الكلم في امتعاظ وسمات وجهه لم تتناسق مع حديثه، على كلّ هذه مسألة أخرى.. سئل عن برنامج حركة النهضة في الانتخابات القادمة فأجاب بين شفتين" الإسلام الديمقراطي المدني" ، تعجّب الصحفي وأعاد السؤال ليسمع نفس الجواب على نفس النغمة.. كم كان بودّي لو استأنف الصحفيّ في تحليل المسألة معه لأنّه لو تعمّق في السؤال لبلغ مجالات ما كانت تخطر له ولنا على بال.. وظلّ الحديث معلّقا.. وتُرِكت العبارة تائهة بين المعلّقين ، من متهكّم إلى متعجّب .. إلى مستنكر.. عبارة رمى بها الغنوشي واستأنف سيره في الكلام كأنّه لم يقل شيئا؛ أو كأنّه ردّد ما لقِّن من درس، فأخرجه رتيبا وشبيها بطفل يلقي محفوظات لا يفهم معانيها وما غرضه سوى الحصول على عدد محترم في اختبار الشفاهي..
على كلّ حال هذا إحساسي، ولا إخالني وحدي.. وأعتقد أنّه يقتضي منّي الأمر أن أوضّح بعض النقاط حتى نرفع الحجاب عن هذه العبارة:
العبارة أيها القارئ استعيرت من تقرير استراتيجي قامت به شيرلي بينارد التي تعمل في قسم الأمن القومي بمؤسسة راند الأميركية، و صدر عام 2003 بعنوان "الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والموارد والاستراتيجيات"، هو أحدث دراسة أميركية للحالة الإسلامية في العالم العربي بعد أحداث سبتمبر 2001. ولهذه السيدة حظوة ديبلوماسية فهي زوجة زلماي خليل زاد السفير الأمريكي السابق في كل من أفغانستان والعراق؛ ويعتبر تقريرها نابعا من جهنّم التطّرف والإرهاب.
ونكتفي بالقول:
إنّ هذا التقرير قام على مقاربة أمريكية أيضا أرسى قاعدتها منذ الثمانينات ليونارد بايندر في كتابه "الليبرالية الإسلامية: نقد للإيديولوجيات التنموية" وتتمحور فكرته على أنّ:"وجوب تركيز علاقة بين الليبرالية الإسلامية والليبرالية السياسية. و يرى أن العلمانية مرفوضة في الدول الإسلامية وترد مقترنة بالكفر والردّة، ولذلك فإنّ حضورها في المجتمعات الإسلامية يكاد يكون نخبويا ، ومن المستبعد أن تصلح كأساس إيديولوجي لليبرالية السياسية في الشرق الأوسط". ويطرح الكتاب فرضية يمكن اعتمادها وتقوم على بلورة ليبرالية إسلامية، لينبّه إلى أنّ قيام أيّ تيار قوي في الدول الإسلامية لا يعتمد على الليبرالية الإسلامية في اقترانها بالليبرالية السياسية لن ينجح في الدول العربية، بالرغم من ظهور دول غنية بنفطها".
استغلّت حركات سياسية إسلامية هذه المقاربة ، ونخصّ بالذكر الإخوان المسلمين الذين اقتنصوا الفرصة وأعلنوا عن مراجعات لتنظيمهم فصاروا يكرّسون في خطبهم الديمقراطية، وينادون بتعدّد الأحزاب السياسية، بل ودخلوا معترك الانتخابات في الثمانينات سواء بمصر أو تونس. وأعلنوا عن تبنّيهم للمواثيق الدولية لحقوق الإنسان . في الحقيقة وجد إخوان تونس الطريق معبّدة أمامهم بما أنّ بورقيبة يسّر عملهم في إصدار مجلّة الأحوال الشخصية وما تتضمنه من قوانين منع تعدّد الزوجات ومقاربات تدفع بالرؤية الإسلامية الي أن تحاور المواثيق الدولية. لذلك لم يجدوا حرجا في الانطلاق في مشروعهم للإسلام الليبيرالي.
وفّق الإخوان في إغراء العم سام ... وبدأت أنظار الولايات المتحدة تتجه نحوهم لترى فيهم " العصفور" النادر لتطبيق برنامج " الإسلام اللايت" : قليل من الحقوق للمرأة.. وتغيير بعض القوانين ذات الصلة بالحدود كحد السارق أو الجلد والرجم في الزنا.. وحرية المعتقد ... وصدرت كتب في هذا الشأن من نوع كتاب رايموند ويليام بيكر عام 2003 "إسلام بلا خوف: مصر والإسلاميون الجدد" نشرته جامعة هارفارد. وقد خصصه لدراسة أفكار أربعة من الكتاب الإسلاميين المعروفين وهم أحمد كمال أبو المجد، وطارق البشرى، وفهمي هويدي ومحمد سليم العوَّا.
ونشر أبو المجد في هذه الفترة كتيبا باسم مجموعة كبيرة من المثقفين الإسلاميين وعنوانه "رؤية إسلامية معاصرة". في الحقيقة يتناغم هذا الاتجاه مع ما أوردته شيرلي بينارد في تقريرها من مديح ليوسف القرضاوي في موقفه من حكم المرتدّ الذي لم يشهر كفره، وتعتبر ما قاله مظهرا من مظاهر" الليبيرالية الإسلامية".
لذلك نعتبر سنة 2003 حاسمة في تاريخ الإخوان مع الولايات المتحدّة ، نشأت علاقات تقارب مصالح ودامت إلى يومنا هذا ، ولكم في كتاب "سرّ المعبد" للخرباوي خير شاهد.
فالغنوشي إذن وهو يتحدّث في قناة فرانس 24 يرنو بكلامه لا إلى التونسيين وإنّما همّه كان منحصرا في التوجّه إلى الديبلوماسية الأمريكية ، وما رأيته في تلك الحصّة لم يخرج عن تجديد " بيعة" مع الأمريكان.. ومرّة أخرى أجدني أقوله نيابة عنه: طز في الجسم الانتخابي للنهضة، فهو مضمون ويدين بالطاعة، ويؤمن بأنّه لا يفقه ما يفقهه شيخه، وطز في بقية التونسيين بما أنّ الولايات المتحدّة أقصتهم من استراتيجيتها وإن كانت تكنّ لهم كلّ الاحترام لكنّهم الحلقةَ الضعيفة في السيطرة على عامّة الناس.. وليس ببعيد ما قاله فيهم الغنوشي" صفر فاصل".. هم صفر فاصل عند العم سام وصفر فاصل عند الرقيب العام للإخوان.
أرأيتم كيف أنّ الغنوشي في تلك الحلقة كان بمثابة التلميذ المنضبط أملا في أن يجدّد عهدا مع أقوى نفوذ في العالم؟ تبنّى مصطلحا هجينا على الإسلام ونسي أنّ الإسلام عنوان دين سماوي مثله مثل المسيحية أو اليهودية، ولا يمكن البتّة أن يقرنه باعتباره عقيدة بهاجس الأرض وأحوال السياسة.. فهل سمعتم بمسيحية ديمقراطية مدنية؟ أو بيهودية ديمقراطية مدنية؟.. إنّه لحديث بمثابة الهذيان والضحك على الذقون.. وحديث الغنوشي يومها كان بمثابة من يقدّم لك وصفة في الطبخ من صنف : "ملوخية بالياغرط والسمك" فإن استطاب هذه الأكلة فليأكل منها ما شاء..
أمّا نحن فإنّنا نقول له " اللي يشتهي شهوة يديرها في عشاه"
تعليقك
Commentaires