لا يُمكن لتونس أن تكون الا تونسيّة !
كونيّة هذا البلد الصغير التي تُذاب فيه الهُوّيات ظلت محل نقاش هادئ منذ الثورة، تشّعب الأصول وتعدد الانتماءات لم ينجح في التفرقة وان صنع مشهدا سياسيّا غريبا. لكنّ تكرار المطالبة بتصنيف واحد لتونس بدأ يتحول من سؤال مشروع الى مُحاولة عزل.
هل نحنُ بربر أم أمازيغ أم عرب أم اندلسيون أم أفارقة أم كائنات فضائية، سؤال يرهق حاسدي التجربة الديمقراطيّة ليحاولوا في كلّ مرة اثارته بحثا عن أيّ اشارة وهن أو تقاتل أهليّ يُهاجمون عبرها السلم الاجتماعية التونسية في قنواتهم وبرامجهم الحواريّة و"مقدماتهم النارية" عارضين هشاشة التجربة وامكانية اختراقها عبر اثارة قضية الهوية. (لأن المادة الاخبارية في هذه البلدان لا تعدو كونها تغطية لأنشطة الملك أو الرئيس).
عزل تونس ولو رمزيا عن مُحيطها العربي ليس بريئا، ومحاولة التأسيس لقطيعة مستقبلية ليس صدفة أيضا، ومحاولة تحويل النقاش حول الهوية من نقاش حضاري منفتح الى تصادم عصابيّ مرضي هو محاولة ضرب للنموذج السلمي التونسي. تتزامن اثارة هذا السؤال مع الصورة المخجلة التي يُصدّرها البرلمان والنواب للعالم.
أول ظهور لحملة "طرد تونس من الدول العربية" كان في 2017 مع تدوينات متفرقة طالبت بمحو تونس من سجل العرب اذا ما صادق البرلمان على مشروع قانون الحريات الفردية ومُقترح المساواة في الميراث الذي أعلن عنه الراحل الباجي قائد السبسي. كيف تخرق تونس تعاليم الاسلام وتُطالب بالمساواة لنساءها عوض أن تجلدهم وتحبسهم في المطبخ؟ لم يفهم أشقائنا هذا المقترح وهاجمونا بأحّط الألفاظ وكالعادة بدأت حفلةُ التكفير في بعض القنوات الخليجية والمصرية. بعد 3 سنوات، تعود الحملة وهذه المرة لطرد شمال افريقيا برمته من نعمة الانتماء الى العالم العربي المتقدّم علما وأخلاقا وثقافة، للأسف، بطاقة العضوية الذهبية ستُسحب منا لنبقى أيتاما بلا أصل. سخافة الحملة حملت معها سخافة التعاليق، فاستغل موضوع الساعة للبحث عن الأصل التونسي المفقود، بحث عميق وجديّ يقوم به جهابذة المؤرخين على ويكيبديا علّهم يظفرون على هذا الموقع بالاجابة للسؤال الحارق- أقدم سؤال فلسفي .. من أنا؟
بين الفرحين بهذه الحملة الذين يعتبرون أنّ تونس "أمازيغية" وبين الرافضين لها معتبرين أن تونس "اسلامية عربية" لم نرى أحدا يذكر جهود الدولة الوطنية في نحت صفة "الأمة التونسية" واعلاء الانتماء للوطن على كلّ الانتماءات الأخرى تجنبا للهرطقة – التي نراها اليوم. تناغم الهوية العربية الاسلامية والهوية البربرية والانتماء الشمال افريقي والقرب الى اوروبا العلمانيّة ومحصلة استقبال عشرات الحضارات على مدى قرون خلق هوية جمعيّة صلبة تملك القليل من كلّ شيء وتجعلها خُلاصة لكل التواريخ- وخلاصة موّفقة رغم كلّ سلبياتها. لم يرتفع السؤال عن الهوية وربطها بالاديولوجيا بعد الثورة الا سعيا للوصول الى السلطة وتغيير نمط العيش والتعليم والحكم.
ومن الجانب الاخر، يوجد منظرون لـ"حداثة" تقطع تماما مع ارث تونس الحضاري والتاريخي، وكلاهما محاولة متطرفة على طريقتها.
"تونس منذ أقدم العصور.. كانت دائماً شديدة الحفاظ على شخصيتها حتى في العهود التي تُفرض عليها لغة جديدة وتُحمل على اعتناق دين الدخلاء" هي مقولة من احدى خطابات الحبيب بورقيبة تعبر عن تصوره العام للدولة الوطنية التي أراد أن يبنيها- مع قادة اخرين، على أساس فرادة وخصوصية التونسيين وانطلاقا منهم كي تكون دوما دولتهم. ولئن كانت التجربة "قسرية" وبدت كأنها الزامية تحت ظلّ "زعيم" ونظام واحد، الا أنها نجحت في جعل الدولة العمود الفقري الجامع الذي حوّل الأفراد الى مواطنين يلتفون حول مشروع واحد بغظّ النظر عن هوياتهم الفردية. التونسي هو وريث هذه التجربة ذات الجانبين، الأول تاريخي انصهرت فيه الانتماءات لتشكيل هوية ثرية ومركبة، و الثاني جانب ممارسة سياسية ركزت على توحيد الشعب في ظل دولة واحدة.
لا، لسنا أمازيغا ولسنا عربا ولسنا فينيقيين، نحن كل ذلك مُجتمعا. بخُطى متعثرة وخيبات متفرقة نحاول مواصلة تجربة التعايش السلمي، ومازالنا نحاول التعافي من صدمة الارهاب والتطرف ورفع العلم الأسود بعد لغط أزمة الهوية منذ 2011. وعودة هذا السؤال البيزنطي ليس الا دليلا أن البعض لم يفهم الدرس ; البعض يراهنون على فشلنا ويريدون أن يرونا نخوض صراعات هُووية تقسمنا.
والى اشقائنا العرب الخائفين على عروبتهم المصون من الحريّة التونسية الشريرة، نحن نتمنّى لكم اعتزازا كاعتزازنا بتُونسيتنا وفخرا كفخرنا بها حتى في أسوأ حالاتها. الاجابة واضحة لمن يريدها. نحنُ تونسيون. هذه هويّة قائمة بذاتها تزينها الحضارات المتشابكة. هذه الهوية الجامعة تعلو فوق جميع الهويات الفرعية، تعترف بها ولا تُنكرها أو تقمعها أو تسعى لمحوها لكنها تسمو أعلاها جميعا باعتبارها هوية وطنيّة جماعية. أبناء أكثر من لغة وأكثر من أصل لكننا أبناء دولة وطنية واحدة حرّة وهذا يكفي لاجابة الأصوات المُشككة.
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires