مصداقية السلطة القضائية محور صراع جمعية القضاة والمجلس الأعلى للقضاء
يُعرّف المجلس الأعلى للقضاء على أنّه هيئة دستورية ضامنة في نطاق صلاحياتها حُسن سير المرفق القضائي واستقلالية السلطة القضائية طبق أحكام الدستور والمعاهدات الدولية المصادق عليها، إلاّ أنّه في السنوات التسع الأخيرة ما بعد الثورة، شاب هذه الهيئة الدستوريّة جملة من الشوائب والإخلالات فقد من خلالها المرفق القضائي مصداقيته واهتزّت ثقة الرّأي العام في هذه السلطة.
العديد من الملفّات القضائية الخاصّة بالكثير من السياسيّين والإعلاميّين ورجال الأعمال لم يبُتّ في شأنهم القضاء بصفة نهائيّة بعد، ولعلّ من أهمّ هذه القضايا المفتوحة منذ سبع سنوات قضيّة الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي التي تمكّنت هيئة الدفاع عن الشهيدين من الكشف عن تورّط حركة النهضة في عمليّة الإغتيال واتّهمت استنادا للأدلّة وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس 1 بشير العكرمي، الذي كان قاضي تحقيق بالمكتب 13 المتعهّد بملف اغتيال الشهيدين، بإخفاء تفاصيل قانونية للتستّر على راشد الغنوشي، لتُقرّر محكمة التعقيب في 14 جويلية الفارط سحب الملف من المحكمة الابتدائية بتونس وإحالته إلى محكمة أريانة. ثمّ تمّ تسريب خبر نقلة البشير العكرمي من محكمة تونس لتتمّ ترقيته وتعيّينه في منصب مدعي عام للشؤون الجزائية بوزارة العدل قبل نشر الحركة القضائية.
منذ أن تمّ نشر الحركة القضائية الرابعة للقضاة العدليين لسنة 2020-2021 بتاريخ 12 أوت الفارط، والتي أقرّها مجلس القضاء العدلي بعد أربع سنوات والتي شملت 528 قاضيا، احتدّت التجاذبات والصراع وعدم التوافق بين المجلس الأعلى للقضاء وجمعية القضاة التونسيّين التي عبّرت يوم 20 أوت الفارط عن استنكارها لمجموعة من الإخلالات شابت الحركة القضائيّة من حيث إجراءات إقرارها ومضامينها. واعتبرت أنّ تسريب مداولات وقرارات مجلس القضاء العدلي وتفاصيل جلساته التي يقتضي القانون أن تكون سرية، سابقة خطيرة من خلال توجيهها للإعلام وهو ما فتح الباب أمام تأويلات كثيرة حول توظيفات سياسية داخله وأمام التساؤل عن مدى استقلال قراراته عند البتّ في المسارات المهنية للقضاة خاصّة فيما يتعلق بإسناد المسؤوليات القضائية الهامة في إدارة العدالة أو التجريد منها.
جمعيّة القضاة التّونسيّين ندّدت بمواصلة مجلس القضاء العدلي العمل على الحركات القضائية دون وضعه لمدوّنة السلوك القضائي بعد أربع سنوات من تركيزه في تجاوز لكل الآجال المعقولة، في حين أنّ المدوّنة هي من أهمّ واجباته وصلاحياته القانونية وعدم وضعها هو دليل على غياب المرجعية الأساسية في تطبيق معايير النزاهة والحياد والكفاءة في تقييم العمل القضائي وإسناد المسؤوليات القضائية ومراجعتها. وفي نقطة إعلامية لجمعيّة القضاة التونسيّين يوم الخميس 17 سبتمبر 2020، عاد رئيس الجمعيّة أنس الحمايدي على الإخلالات والنقائص واستنكر مواصلة إعلان المجلس عن الحركة القضائية خارج الموعد المحدّد لها قانونا بموجب أحكام الفصل 47 من قانونه الأساسي، والتي تنص على أن يكون آخر أجل لإصدارها في شهر جويلية مضيفا أنه إلى حد الآن لم يتم إرسالها لرئيس الجمهورية للإطلاع عليها ونشرها بالرائد الرسمي. بالإضافة إلى عدم نشر جداول الأقدمية في القضاء وجداول دقيقة بخصوص مطالب إسناد الخطط مع بيان كيفية اعتمادها في تسديد الشغورات المحدثة خلال إنجاز الحركة والآليات المعتمدة لتمكين القضاة من التناظر بشأنها على قدم المساواة وجداول النقل لمصلحة العمل. واعتبر أنّ ذلك عزّز الإحساس بالظلم لدى أغلب القضاة المعنيين بها كعدم نشر جداول تنقيط القضاة فيما يعرف بمناشير الشفافية للمجالس العليا للقضاء في التجارب المقارنة بما يعيق الطعون وعمليات التقيّيم للحركة وأداء المجلس ومدى استجابتهما لمقتضيات الإصلاح القضائي من قبل القضاة وكل الهياكل المعنية والمتابعين للشأن القضائي بناء على المعطيات الدقيقة.
وندّد الحمايدي بعدم تنفيذ المجلس الأعلى للقضاء للأحكام الصادرة عن المحكمة الإدارية طعنا في الحركات القضائية السابقة وفي القرارات التأديبية وعدم إنصاف القضاة المشمولين بها بما لا يتماشى مع مؤسسة ضامنة لحسن سير القضاء واحترام أحكامه وقراراته وهو ما آل إلى مواصلة إحساس القضاة المعنيين بها بالظلم والحيف رغم استصدارهم لأحكام قضائية تنصفهم. كما أشار إلى العديد من الخروقات الجوهرية التي شابت الحركة القضائية من أهمّها ما يتعلّق بإسناد الخطط القضائية ومنها عدم الإعلان عن شغورات أصلية في عديد الخطط القضائية التي وقع تسديدها في الحركة رغم أهميتها من حيث العدد والقيمة في سلم الوظائف القضائية من أبرزها إسناد 18 خطة قاضي تحقيق أول بعشر محاكم ابتدائية و11 وكيل رئيس أول بتسع محاكم ابتدائية و08 مساعدين أول لوكلاء الجمهورية بسبع محاكم ابتدائية في غياب أي تناظر حولها أو معايير للمفاضلة الموضوعية بين القضاة بما يمس من مبادئ الشفافية وتكافؤ الفرص خاصة أنه وقع إسناد عدد هام منها لمن تمت ترقيتهم بمناسبة هذه الحركة في تجاهل لمن هم أكثر أقدمية.
كما أعاب الحمايدي على المجلس عدم الإعلان عن الشغورات المستحدثة أثناء إعداد الحركة القضائية في إبانها لتمكين القضاة من الاطلاع عليها والتناظر حولها طبق مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بما جعل تلك الخطط خاصة في مستوى الرتبة الثالثة حكرا على قضاة معينين على حساب باقي قضاة تلك الرتبة بما آل إلى قفز عدد من القضاة في سلم الخطط القضائية على زملائهم ممن يتجاوزونهم بسنين في الأقدمية، وأشار إلى بروز محاباة أعضاء مجلس القضاء العدلي بعضهم لبعض بخصوص التقييم وإسناد المسؤوليات أو مراجعتها والبت في النقل كمحاباة أزواج بعض الأعضاء من القضاة في تحلل تام من واجب تجنب تضارب المصالح. وأكد أنّ رئيس المجلس الاعلى للقضاء تعهّد بسدّ 51 شغورا إلا أنّه لم يقم بذلك إلى اليوم في حين تم إحداث 52 خطة قضائية لم يتم الإعلان عنها وتمّ تعيين قضاة بصفة سرية دون تناظر ما فتح التساؤل حول كيفية تسمية وكيل الجمهورية الحالي ومدير عام الشؤون الجزائية وعميد قضاة التحقيق والرئيس الأول بمحكمة الاستئناف بباجة ومحكمة الاستئناف بنابل و20 قاضيا للتحقيق.
أنس الحمايدي استنكر أيضا نقلة نحو 5 قاضيات من بينهنّ القاضية زوجة رئيس الجمهورية إشراف شبيل لمصلحة العمل لمسافة 180 كلم للمرة الثانية، واعتبره أمر غير معقول وغير قانوني وفيه نوع من ''التعسّف والإنتقام'' قائلا: ''هذا الإنتقام مِن من؟ وتوظيف هذه النقلة لمصلحة من؟ وهل من مصلحة المجلس الأعلى للقضاء توظيف الحركة القضائية لتصفية حسابات خارجة عن مصلحة القضاة ومصلحة السلطة القضائية؟''. ودعا الحمايدي المجلس الأعلى للقضاء للردّ على كلّ تلك التساؤلات، مُنزّها خضوع المجلس لضغوطات سياسية وأكّد أنّ نقلة زوجة رئيس الجمهورية القاضية إشراف شبيل وأربعة قاضيات يندرج ضمن خرق القانون وخرق الدستور ''وفيه كثير من مجانبة الصواب ويرتقي إلى حدّ التشفّي''. كما ندّد الحمايدي بارتكاب الوكيل العام لمحكمة الاستئناف بنابل وهو عضو في المجلس الأعلى للقضاء، بتدخلات مباشرة لدى النيابة العمومية وقضاة التحقيق في قضايا جزائية ومدنية منها قضية التحرش الخاصة بالنائب زهير مخلوف وقضية رجل الأعمال مراد الخشين بالالتزام بالحجر الصحي، ومؤخرا قضية حادث المرور لصاحب قناة تونسنا عبد الحميد بن عبد الله ودعا إلى ضرورة تجريده من مهامه.
ردّا منه على ما ورد من قبل رئيس جمعيّة القضاة، اعتبر رئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر في تصريح لموزاييك أنّ ما صدر عن أنس الحمايدي يتضمّن ''اتّهام خطير للمجلس الأعلى للقضاء'' مؤكّدا أنّ المجلس لا حسابات له مع القضاة و لا مع رئيس الجمهوريّة، قائلا ''الحسابات والتشفي هذا كلام غير مسؤول وغير مقبول في حقّ مؤسسة دستورية''. وأكّد بوزاخر أنّ المجلس الأعلى للقضاء لا يخدم مصلحة أيّ محور أو أيّ شخص ''ليس لنا حسابات لتصفيتها''، وأوضح أنّ نقلة القُضاة تتمّ في حالة الحاجة إلى ضرورة نقلته إلى محكمة معيّنة أو تتمّ النقلة في حالة ترقية القاضي. وبيّن أنّ نقلة زوجة رئيس الجمهوريّة وأربعة قاضيات كان في إطار ''مصلحة العمل باعتبار أنّهنّ لم يقضين سنوات عمل خارج تونس العاصمة''، كما أنّ القاضية إشراف شبيل ''لم تُعبّر عن رغبتها في معاملة خاصّة في مسألة النقلة بل بالعكس تعتبر نفسها متساوية مع زملائها وأيضا نقلتها كانت بناء على حاجة محكمة الاستئناف بصفاقس بعد أن تمّت ترقيتها للرتبة الثالثة وليس بناء على رغبة مجلس الأعلى للقضاء مؤكّدا أنّها اعترضت على الحركة وسيتمّ النظر في اعتراضها.
رئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر، أوضح أنّ التأخير في نشر الحركة القضائيّة مردّه الظروف الإستثنائيّة التي عاشتها تونس هذه السنة بسبب جائحة كورونا واعتبر أنّ تاريخ 12 أوت الفارط لنشر الحركة لا يُعدّ تاريخ متأخّر مقارنة بتاريخ نشر الحركات السابقة. كما اعتبر أنّ ما صرّح به أنس الحمايدي بخصوص التجاوزات واستغلال النفوذ التي قام بها الوكيل العام بمحكمة الاستئناف بنابل وعضو المجلس الأعلى هي مجرّد تشكيّات قدّمها الحمايدي مؤكّدا أنّ التفقديّة بوزارة العدل تعهّدت بالملف، كما أنّ المجلس في انتظار ما ستُفرزه الأبحاث مشيرا أنّه لا يمكن تجميد عضويّة المعني بالأمر قانونيا.
وليد المالكي عضو مجلس القضاء العدلي، أفاد بدوره اليوم الجمعة 18 سبتمبر 2020، خلال مداخلته في برنامج ''البلاد اليوم'' على موجات الإذاعة الوطنية التونسي، أنّ مسألة التعيّينات في الخطط القضائيّة العليا لم تتمّ عن طريق المحاباة كما صرّح أنس الحمايدي بل تمّت عن مجموعة من المعايّير منها التخصّص والأقدمية مؤكّدا أنّه بتاريخ 1 جوان الفارط قبل نشر الحركة القضائيّة، تمّت استشارة جمعيّة القضاة ونقابة القضاة وجميع الهياكل المتدخلة في القضاء بالإضافة إلى استشارة الهيئة الوطنية للمحامين بكافة فروعها. وأضاف المالكي قائلا '' المجلس الأعلى للقضاء كان ينتهج نهج الشفافية، كما ينتهج نهج الوضوح ونهجا تشاركيا في الحركة القضائية'' مستنكرا تصريحات الحمايدي، وعاد على نقلة زوجة رئيس الجمهوريّة مؤكّدا أنّ المجلس اعتمد مبدأ المساواة بين القضاة.
عدم اعتماد السريّة والشفافية في الحركة القضائيّة وعدم التنسيق بين جمعية القضاة والمجلس الأعلى للقضاء، أعطى الفرصة للنائب الإسلامي سيف الدين مخلوف للتهكّم والتهجّم اللّفظي على أنس الحمايدي وتعمّد تكذيب تصريحاته واعتبر أنّ الحمايدي تعمّد التهجّم على زملائه القضاة، كما اتّهمه بما لم يقُل محرّفا بذلك تصريحات رئيس جمعية القضاة.
السلطة القضائيّة خطّ أحمر لا يجب تجاوزها أو ضرب استقلاليتها ومصداقيتها وإنّ الإتّهامات التي وجّهتها جمعية القضاة التونسيّين للمجلس الأعلى القضاء، لها دور في تعميق الأزمة بالمرفق القضائي في تونس، كما ستُساهم في تمتين ضعف ثقة التونسيّين في هذا المرفق الذي يجب أن يُعالج كلّ المشاكل الداخليّة التنظيميّة التي تشوبه ليُعيد ثقة المواطن في أهمّ سلطة في البلاد.
يسرى رياحي
تعليقك
Commentaires