"إئتلاف الكرامة": صنيعة النهضة شنيعة الثّورة
يبدو أنّ إئتلاف الكرامة هو الأكثر ضجيجا في المشهد السياسي اليوم، ليأتي من الخوالف في توليفة متناقضة لضوابط السوالف، وحقّق هذا الإئتلاف اكتساحا قياسيّا لتركيبته الفلكلوريّة وطبيعة جمهوره الشعبوي العدواني، يضاف إليها شهوة وسائل الإعلام لتحقيق نسب عالية في المشاهدة بحضوره لتأثيث برامج الإثارة، غير أنّ هذا الإئتلاف يمثّل أحد أهم إنتكاسات الإنتقال الديمقراطي وصعود المد الشعبوي في تونس، وما قد يمثّله من خطر مستقبلي في عدم كبح جماح أنصاره العدوانيين.
ليس لإئتلاف الكرامة كيان سياسيّ مستقلّ بذاته، بل هو ملحق للحزب الإسلامي حركة النهضة وأحد توابعه في السّمع والطاعة، يناط به تنفيذ أجندات حركة النهضة التي لا تريد أن يُحسب عليها سلوكها السياسي، وليس لهذا الإئتلاف مشروع سياسي سوى مجموعة من الشعارات الشعبويّة التي رفعتها النهضة إبّان الثورة وعجزت عن تحقيقها، فغادرها العديد من الأنصار من المليون ونصف ناخب إلى نصف مليون، ولذلك كان هذا الإئتلاف صنيعة نهضاويّة لإستقطاب تلك الجماهير الغاضبة من فشل التهضة في تحقيق مطالب الثورة في التوزيع العادل للثروة البترولية والفسفاط وتحقيق العدالة الإجتماعية وتجسيم مبدأ السيادة الوطنيّة بطرد السفير الفرنسي...
وعليه يجب تفكيك طبيعة العلاقة العميقة بين حركة النهضة وهذا الإئتلاف لنفهم البُعد الوظيفي البراغماتي لهذا الطيف السياسي الحركي: لقد اشتغل الإسلام السياسي (جماعة الإخوان) منذ بداياته في الثلاثينات على مفهوم "الجهاز الخاص" بما هو الذّراع العنيفة تجاه الخصوم السياسيين بالتصفية والتعنيف والإغتيال، وكان هذا الجهاز الخاص يتلقّى التوجيهات مباشرة من مرشد الجماعة، وفي الخمسينات انفصل الجهاز الخاص عن الجماعة ظاهريّا ليشكّل "التنظيم الخاص" بقيادة سيّد قطب حتّى لا تتحمّل الجماعة مسؤولية أعمالها التخريبيّة، ثم بعد تصفيته ظهرت تنظيمات جهاديّة رديفة للإسلام السياسي تتصدّر المواجهة الأمنية والعسكريّة، فكان الإسلام السياسي خزّانا لهذه الحركات العنيفة مُظهرا المسكوت عنه في مقولات الجهاد والتمكين وتكفير الدولة والمجتمع.
وفي حالة حركة النهضة، كان للحركة جهازها الخاص الذي تورّط قبل الثورة في عمليات إرهابيّة فجّرت الجماعة بين السجون والهروب عبر المواجهة مع ديكتاتوريّة النظام السّابق، لكن بعد الثورة ساهمت حركة النهضة في ظهور الجماعات السلفيّة الجهاديّة بالتأييد والمعاضدة والدّفاع عنهم وتقديم الدعم لهم، فكان تنظيم "أنصار الشريعة" الرّديف العملي لممارستها السياسيّة التي تجلّت في روابط حماية الثورة وحملات "إكبس" و"وينو البترول" وإعتصام التلفزة الوطنية، وكان خطابها التحريضي، وربّما بتعليمات من قادة الحركة، بوّابة للتصفية والإغتيالات للرموز السياسية المعارضة، ولمّا أدّى تنظيم أنصار الشريعة دوره "الجهادي"، سعت حركة النهضة إلى البحث عن بديل في الغاضبين والمارقين المأمورين، فكان تنظيم إئتلاف الكرامة بفواضل جمهور النهضة أداة للعنف السياسي والتكفير والشعبويّة، وليس صحيحا تسميّة هذا التكتّل بأنّه "باراشوك" للحركة يمتصّ الضربات والصدمات بدلا عنها في وضع دفاعي، بل هو تكتّل هجومي عنيف عدواني خلقته الحركة لهرسلة السياسيين الخصوم وتشويههم والتحريض عليهم سواء من بقايا التجمّع ممثلا في حزب عبير موسي أو حتى ضدّ شركاء سنوات الجمر محمد عبّو ورموز اليسار، فحركة النهضة تريد ضرب الآخرين لكن ليس بيدها بل بيد صنيعتها التي تأتمر بأوامرها، ولعلّ اللحظة السياسيّة الراهنة فرضت على الحركة ممارسة الإغتيال الأخلاقي بحملات ممنهجة عبر الوسائط الإجتماعيّة ووسائل الإعلام التي تنخرط في موجة الإثارة.
إئتلاف الكرامة هو صنيعة النهضة شنيعة الثورة، مخاطره في أتباعه وأنصاره الشرسين، هم ورثة روابط الثورة التي قتلت لطفي نقّض سحلا في الشوارع، وهم الذين هاجموا المثقفين والمبدعين وكفّروهم، وهم من يقوم بعمليات تبييض الإرهاب والتشكيك في مساراته، وهذا ينذر بالمخاطر المستقبليّة ساعة خروج هذا الإئتلاف من الساحة السياسيّة لينفلت أتباعه ضدّ خصومهم في الرأي، فحتى نوابه في البرلمان هم خليط من يتامى حركة النهضة وبعض التائبين الباحثين عن عذريّة ثوريّة بخطاب شعبوي، وهؤلاء النواب قادرون بضجيجهم على تبرير تحوّلاتهم السياسيّة بطلب من حركة النهضة، فيصبح حزب قلب تونس وزعيمه نبيل القروي ممثلا للخط الثوري بدعوى التكتيك السياسي والفهلوة الشعبويّة، ذلك أنّ الخطاب الشعبوي يفتقد لأبسط مظاهر الحياء والأخلاق في تبرير النفاق السياسي.
بين إنتخابات 2014 و2019 لم تفقد حركة النهضة شيئا من عدد مقاعدها النيابيّة كما يعتقد الكثيرون، ولكنّ الحسابات السياسيّة عبر النظام الإنتخابي الحالي جعلها تحافظ على نواتها الإنتخابيّة الصلبة والمقدّرة ب400 ألف، ولكنّها ساهمت في خلق كيان سياسي هجين يحصد أصوات اليائسين من الحركة والغاضبين منها بنظام أكبر البقايا، فكان هذا الإئتلاف آداتها العدوانيّة لمحاربة خصومها السياسيين، ووسيلتها للتحالف مع الفاسدين، فقد عرف راشد الغنوشي كيف يتصرّف في جمهوره الذي استقبله ذات يوم، فقسمه ثلاثة شقوق: الشقّ الأول من الشباب الغاضب أرسله إلى الجهاد في تونس وليبيا وسوريا منذ سنة 2012، والشقّ الثاني فصله مع الدعوي فأرسله لشيوخ الخطاب الأخلاقوي الدّيني منذ سنة 2016، والشقّ الثالث من الشباب الثائر "الغبي" كما وصفه أحدهم أرسله لإئتلاف الكرامة منذ سنة 2019 ليشبع وعودا بتأميم النفط وطرد السفير وطاعة المرشد الأمير..
تعليقك
Commentaires