alexametrics
آراء

إلى السيد راشد الغنوشي: إما تصحيح المسار أو الاندثار!

مدّة القراءة : 6 دقيقة

 

السيد رئيس حركة النهضة ورئيس مجلس النواب،

 

أتوجه إلى سيادتك بكل احترام وبكل ثقة في أنك اليوم، أمام الظروف العصيبة التي تعيشها بلادنا، لن تتوانَ في إعلاء المصلحة الوطنية على كل المصالح والحسابات السياسية الأخرى. كما أرجو أن يتسع صدرك للتمعن في مضمون هذه الرسالة دون أفكار مسبقة أو تأويلات في غير محلها لأن الله وحده ومصلحة هذا الوطن المنكوب من وراء القصد.

 

فأنت تعرفني منذ سنوات وتعلم أنني، وإن كنت من دعاة الفصل الكامل بين الدين والسياسة والالتزام المطلق بالحريات الفردية و بمدنية الدولة، وسبق أن انتقدت في منابر عدة بعض مواقف وسياسات حركة النهضة، أرفض رفضا قاطعا كافة سياسات الاستئصال والإقصاء والتحريض، و قناعتي راسخة أن لا فضل لتونسي على تونسي آخر إلا بالولاء للوطن وحده والتضحية بما يجود في سبيل عزته ومناعته

 

إنكم تعلمون جيدا أن الأغلبية الصامتة من التونسيين قد ضاقت ذرعا بالفوضى العارمة السائدة في المشهد السياسي منذ 2011، وبالعجز الفادح لمنظومة الحكم التي ورثناها عن الفترة التأسيسية عن تلبية طموحاتهم نحو النهوض بالبلاد في كنف حكم وطني مستقر يُعَبِّدُ أمامهم الطريق للخروج من المأزق السياسي والإنهيار الإقتصادي اللذيْن آلت إليهما الدولة برمّتها نتيجة الخيارات التأسيسية العشوائية غير محسوبة العواقب ونتيجة السياسات العقيمة التي انتهجتها حكومات المحاصصة الحزبية المتعاقبة.

 

وتعلمون أيضا أن حركة النهضة وحلفائها ومن والاهم وأيد مسعاهم متواجدون في الحكم دونما انقطاع منذ 2011، وكانت لهم الأغلبية المطلقة واليد الطولى في المجلس الوطني التأسيسي ( أكثر من 150 مقعدا من مجموع 217)، وأنتم يا سيدي تتحملون أمام الله وأمام التاريخ وأمام التونسيين كل المسؤولية عن وضع وصياغة دستور ونظام حكم كنتم تعلمون مسبقا أنه لا يرتقي إلى ما كان يطمح إليه التونسيون في إرساء دولة قوية وعادلة، دولة منيعة تحكمها مؤسسات مستقرة ومتكاملة فيما بينها. 

 

ولم يعد خافيا على عاقل أن هذا الدستور، ورغم ما تضمنه من إيجابيات غير مسبوقة في البلاد العربية بشأن حرية التعبير واحترام حقوق الإنسان، ليس سوى وثيقة مليئة بالمطبّات والثغرات طغت على وضعها حسابات سياسية ضيقة وغير معلنة من أجل تكريس المحاصصة في تقاسم غنائم السلطة بين أحزاب المشهد السياسي.

 

لقد جاء دستور 2014 للتونسيين بنظام سياسي هجين..نظام لا رئاسي ولا برلماني، إذ ظهر جليا بالممارسة أن لا أحد يحكم البلاد فعلا. ولولا وجود جيش جمهوري وأمن جمهوري لا يخضعان للتجاذبات، لانفرط عقد تونس وآلت الأمور إلى ما لا تُحمدُ عُقباه.

 

فلا رئيس الدولة الذي يحظى بشرعية انتخابية لا يظاهيه فيها أحد، بحكم أنه منتخب عبر الاقتراع المباشر من الشعب، ولا رئيس الحكومة الذي يُفترض أنه يمثل الحزب أو التحالف الأكبر في مجلس النواب من حيث عدد المقاعد ويكون مسنودا بأغلبية برلمانية متماسكة ومتجانسة، يمسكان فعلا بزمام الأمور وبمقاليد السلطة التي تخولهم آداء مهامهم في كنف الشفافية والثقة بالنفس وعلوية القانون، لأن السلطة الحقيقية بقيت مشتتة في أروقة قصر باردو بين أحزاب الحكم، وخصوصا منها الحزب الذي يملك أكبر عدد من النواب في البرلمان...وهو اليوم حركة النهضة.

 

إلى جانب ذلك، لا يخفى على سيادتك أن حركة النهضة وحلفاءها يتحملون كامل المسؤولية عن التشتت والتشرذم اللذيْن يسودان المشهد السياسي الوطني واللذين باتا يمثلان تهديدا جديا للوحدة الوطنية والسلم الإجتماعي بسبب الخيارات العشوائية والإنحرافات الواردة في القانون الأساسي الإنتخابي الذي أقره المجلس التأسيسي وصادق عليه رئيس الجمهورية في ماي 2014، لأن حركة النهضة وحلفاءها قد نسجوا قانونا انتخابيا على المقاس يضمن هيمنة التيارات والأحزاب الأكثر انتشارا وإمكانات مالية دون أن تكون لأيٍّ منها القدرةُ على نيْلِ الأغلبية التي تخوله الحكم بمفرده أو تشكيل أغلبية حكومية متجانسة على أساس البرامج والرؤى المشتركة، وليس على أساس مجرد الاتفاق على تقاسم أعباء الحكم.. بعد إجراء الإنتخابات!

وزاد الطين بلة اعتماد نظام اقتراع نسبي على أساس القوائم الحزبية أو المستقلة في بلد أصوات الناخبين فيه مشتتة إلى حد التشرذم ويعاني من عزوف كبير للمقترعين عن أداء واجبهم، نظام لا تُفرز نتائجه سوى فسيفساء سياسية وحزبية غير قابلة لا للتكامل ولا للتجانس ولا حتى هي قادرة على الحكم… لأنها متواجدة في المشهد لمجرد التواجد والإستفادة من مغانم السلطة..بفضل ما يسمى في نظام القوائم "أكبر البقايا" والذي يخول لنائب ما الفوز بمقعد في مجلس النواب، وهو لم يحصل سوى على بضع عشرات من أصوات الناخبين!

فأنت اليوم رئيس مجلس نواب الشعب وتعلم دون شك أن 54 نائبا فقط من مجموع 217 فازوا بمقاعدهم بعد توفر الحاصل الانتخابي لديهم، أي أنهم تحصلوا على عدد من الأصوات يساوي إجمالي الأصوات المطلوبة للحصول على المقعد المنشود في الدائرة الانتخابية. أما البقية، أي ثلاثة أرباع أعضاء البرلمان، فقد فازوا بمقاعدهم بفضل "أكبر البقايا"!

أليست هذه مهزلة سياسية وتحريف سافر لإرادة الناخبين تتحمل مسؤوليته الأطراف التي نسجت القانون الإنتخابي وصادقت عليه وعلى رأسها حركة النهضة؟

إنني على يقين بحكم معرفتي بمواقفكم ورؤيتكم للواقع التونسي أن حصيلة السنوات العشر الماضية التي هيمنت فيها حركة النهضة برئاستك على المشهد السياسي والتشريعي غير مرضية لكم على الصعيدين السياسي والشخصي، لأنه لا يمكن لعاقل أن يجادل في أنها حصيلة هزيلة جدا وزادت أوضاعَ البلاد والعباد سوءا في كافة المجالات.

كما أن حصيلة الولاية التشريعية والرئاسية الأولى في عهد دستور 2014 والتي تقاسمتم فيها مقاليد الحكم والمسؤولية مع حركة نداء تونس المندثرة ليست أفضل منها، وأن ما أسميتموه رفقة شريككم المغفور له الباجي قائد السبسي ب "الوحدة الوطنية" أو"التوافق" الذي سوقتم له كعنصر استقرار بحُجَّة عدم السقوط في متاهات الفوضى مثلما ألت اليه الأوضاع في الشقيقتين ليبيا وسوريا، وإن حال فعلا دون سقوط بلادنا في مستنقع العنف والدمار، لم يحقق أبدا الإستقرار المنشود.

 

لا بل إنه، قد ساهم في إفراغ الديمقراطية التونسية الفتية من مضمونها وأجهض طموحات التونسيين و أصابهم بالإحباط والقرف من تُرّهات المشهد السياسي تحت ذريعة الإنتقال الديمقراطي الذي أصبح بمثابة ورقة التوت التي تحجب الفشل الذريع للبرلمان والحكومات المتعاقبة في تلبية ولو الحد الأدنى من طموحات التونسيين في الحياة الكريمة وبناء الدولة المنيعة العادلة.

 

إن حصيلة السنوات الخمس للولاية التشريعية والرئاسية الماضية لم تكن سوى سلسلة من الخيبات والإنتكاسات المتعاقبة والنكث بالوعود والعهود، والغش والخيانات المتبادلة، وتكريس الفئوية ونفوذ الأسرة واللوبيات، وتفشي السياحة الحزبية و المناورات الخفية من أجل البقاء في السلطة أو الإقتراب منها لتذوق غنائمها.

 

لقد نتج عن ذلك التوافق ركود للحياة السياسية في البلاد وتعفنها، وتحول ذلك التوافق مع الأيام من ضامن "في الظاهر" لاستقرار المشهد السياسي إلى غرفة سرية تتم فيها المناورات والصفقات بين القيادات التي تتقاسم مراكز النفوذ.

 

السيد رئيس حركة النهضة ورئيس مجلس النواب،

إنك اليوم، أكثر من أي مسؤول آخر في الدولة التونسية، بحكم موقعك في حركة النهضة ورصيدك النضالي في بناءها وإيصالها إلى أعلى مراتب السلطة، وبحكم موقعك في مجلس النواب، تقف أمام لحظة مفصلية وتقع على كاهلك مسؤولية تاريخية تجاه هذا الوطن وتجاه التونسيين، في لحظة حاسمة قد لا تتكرر، لحظة ستكون لها انعكاسات جسيمة على مستقبل بلادنا، حيث يواصل رئيس الحكومة المكلف مساعي محمومة من أجل تشكيل حكومة يريدها رئيس الجمهورية أن تكون حكومة "لكل التونسيين"!

 

أتساءل هنا؟ كيف ستكون حكومة كل التونسيين والسيد المشيشي جاء من خارج الفسيفساء الحزبية المشتتة للمشهد السياسي، ولا هو ولا رئيس الجمهورية يملكان الحد الأدنى من الضمانات لتشكيل حزام سياسي يساند الحكومة المنتظرة في مجلس النواب؟ وماذا، لا سمح الله، و لم يتوفق السيد المشيشي في تشكيل الحكومة؟ سوف لن يكون هنالك خيار آخر أمام رئيس الجمهورية سوى حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات عامة جديدة! إنها أسوأ أنواع المخاطرة بمستقبل البلاد وتوازناتها الهشة واستقرارها، خصوصا إذا ما جرت الإنتخابات عملا بالقانون الإنتخابي الحالي وعدنا إلى نقطة الصفر!

 

إننا كما نحملك وحزبك المسؤولية عن الخيارات التأسيسية الخاطئة وغير الملائمة التي كبلت الدولة التونسية وشلّت حركية مؤسساتها، نسألك اليوم إلى متى سيظل الحال في بلادنا على ما هو عليه من رداءة وتفكك ومخاطرة بمستقبل أبناءنا دون أن يحرك أحد ساكنا في انتظار أن تزداد الأوضاع تعفنا وتسقط الدولة في مخالب العنف والتطرف؟

 

إلى متى، تحت غطاء الشرعية وهي هنا كلمة حق يراد بها باطل، سنواصل العمل بهذا الدستور الأبتر؟ وإلى متى سيظل التونسيون خاضعين في التعبير عن إرادتهم والمشاركة في تسيير شؤون بلدهم لقانون انتخابي مغشوش يتلاعب بأصواتهم ويزيِّف إرادتهم؟

 

وإلى متى ستظل بلادنا مكبلة بمنظومة حكم هجينة لا رئاسية ولا برلمانية؟ لا رئيس الجمهورية يحظى فيها بصلاحيات تتناسب مع الثقة التي وضعها التونسيون في شخصه أو مع الإرادة الشعبية الحاسمة التي أوصلته إلى المنصب؟ ولا رئيس الحكومة يملك فيها حَيِّزا من المناورة من أجل إيجاد الحلول العاجلة للمشاكل الملحة وإقرار السياسات التي تستجيب لتطلعات التونسيين وانتظاراتهم؟

 

وإلى متى ستظل مؤسسات الدولة في بلادنا تعمل بمعزل عن بعضها البعض وتكتفي بالشكليات البديهية التي تعتقد أنها تُطمئن بها التونسيين، وهي في حقيقة الأمر تغالطهم بها وتخدعهم؟

 

وإلى متى ستظل حكومات المحاصصة متحكمة برقابنا تراكم الخيبة على الفشل ولا تتردد في توظيف مؤسسات الدولة وأجهزتها من أجل تصفية حسابات سياسية خاصة أو تحقيق أهداف وطموحات شخصية أو حزبية؟ وإلى متى سيتواصل تقاسم التعيينات في المناصب السامية و الحساسة بالدولة على أساس المحاصصة والولاءات  الحزبية والمنافع الشخصية دون غيرها؟

 

وفوق كل هذا إلى متى في رأيكم سيصبر التونسيون على كل هذه الرداءة وهذا الوهن وهذه الكروب التي تُثقِل كاهلهم وتنغص حياتهم وتهدد مستقبل أولادهم ومناعة وطنهم؟ وكيف السبيل للخروج من هذا البؤس وهذه العتمة؟ وهل ما زال لأصواتنا ومشاركتنا في الإستحقاقات الإنتخابية معنى أو قيمة؟

 

أستاذ راشد، إن المسؤولية الملقاة على عاتقك اليوم جسيمة بجسامة المحن والتحديات التي تثقل كاهل هذا الوطن وتكبل إرادة حكوماته ومؤسساته وتشل قدرات شعبه، وإنني على يقين أنك تملك من التبصُّر والتجربة والحس السياسي ما يجعلك لن تتوان في الإقرار بعدم صواب الخيارات الدستورية والتشريعية التي أسست لنظام الحكم والقانون الإنتخابي الحالييْن وبضرورة مراجعتها وتغييرها بما يخدم المصلحة العامة والإستقرار الوطني.

 

فأنت أول من يعلم أن السلطة زائلة وأن التاريخ لا يرحم وأن هذا الوطن المُبتَلى وهذا الشعب الصابر على البلاء يستحقان أفضل مما أنجزته حكوماته ومؤسساتُه المتعاقبة ونخبتُه السياسية بكافة أطيافها.

 

إننا لن ننتظر من سيادتك أقل من مبادرة دستورية جامعة لإدخال إصلاحات على منظومة الحكم وتعديل القانون الإنتخابي بما يلبي طموحات التونسيين ويُشركُهم في مسيرة إصلاح سياسي شامل من أجل قيام دولة مستقرة وعادلة ومنيعة...لأنه ما من خيار أمامنا سوى تصحيح المسار أو الاندثار. والله من وراء القصد..

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter

تقرؤون أيضا

03 جانفي 2022 16:04
0
30 ديسمبر 2021 16:29
0
27 ديسمبر 2021 17:00
0