alexametrics
أفكار

التخميرة الجماعية

مدّة القراءة : 4 دقيقة
التخميرة الجماعية

 

بقلم مصطفى كمال النابلي*

 

لفترة طويلة كنت منزعجًا، قلقًا وفي ذهول مما يحدث في تونس. لم أعد أستوعبُ الأحداث المتسارعة التي تجري حولي... لا يبدو شيء منطقيّا. لنقل، أن العقل لم يعد يحكمُ تونس!

أخيرًا أدركت أن بلادنا كانت "في حالة تخميرة ". منذ فترة طويلة ، انخرطت البلاد في '' تخميرة جماعية'' … رقصة جنونية لا يُمكن السيطرة عليها، لا تخضع لأي منطق، فقط خاضعة لمنطق النزوات والعواطف والغرائز. والنتيجة كانت انفصالا تاما وشاملا، وخطيرا عن الواقع.

'' دولة في تخميرة '' أقصدُ الجميع: مواطنيها، منظماتها السياسية والاجتماعية والمدنية ، قادتها السياسيين، قادة الرأي العام، وسائل الإعلام ، وحتى مُثقفوها. جميع الفئات الاجتماعية، وجميع الفئات العمرية، كل الأطياف السياسية، جميع المستويات التعليمية والمهنية. الاستثناءات نادرة، وأصواتهم تضيع في الزحام، وتصبحُ غير مسموعة في الضوضاء.

إستطلاعات الرأي دائما تجعلني أتساءل، كيف يمكن أن يكون عدد كبير من التونسيين مؤمنين أن الأمور تتجهُ للأسوأ بينما تظهر نفسُ هذه الاغلبية متفائلة بمستقبل البلاد؟

الأغلبية الساحقة من التونسيين يعتقدون أنّ وضع البلاد سيّء لكنهم يدعمون من جهة أخرى 'زعيما' سياسيًا يتحكم في هذا الوضع السيئ. كيف يمكن لعدد كبير من المواطنين أن يدعموا بشراسة رجلا لا يعرفون عنه شيئًا تقريبًا، لا تاريخه ولا برنامجه ولا نواياه، معتمدين فقط على بضع التصريحات وبعض النوايا و ''سمعته النظيفة"؟

مخاطر الكارثة الاقتصادية والاجتماعية أمامنا وكانت واضحة منذ سنوات ... لكننا اخترنا أن نتجاهلها ونتظاهر بأنها مجردّ تهويلات صادرة عن بعض الأشرار... نحن ننظر إلى الهاوية أمامنا ... لكننا مازلنا نأمل، ونعتقد أن كل شيء سيكون بخير !

والحقيقة أن التونسيين باتوا متعلقّين، بل مدمنين على البحث عن "المعجزات" ... "رجل سياسي أو إمرأة سياسية معجزة تُخرج البلاد من أزماتها وتناقضاتها ... "حل عجيب " يحلّ هذه المشاكل. ''نظام سياسي معجزة'' ينتج حوكمة ''مثالية '' للشأن العام ويستجيب بشكل مثالي لما ''يريده الشعب'' ... ''مؤسسة معجزة'' تعيد الاستقرار ... ''دولة صديقة معجزة'' تنقذنا من الكارثة .. "هبة سماوية معجزة'' تنقذنا من الكارثة المعلنة .. نبحث عن "حلول جديدة " وعن " ابتكارات تاريخية"!

كما نريد "الشيء" و "نقيضه"!

نريد دولة تمنحنا كل شيء ... الأمن والنظام والعمل والصحة والتعليم والنقل عالي الجودة ... لكننا في ذات الوقت نكره الدولة والقيود التي تفرضها علينا …
نريد الخدمات العمومية ... ولا نريد دفع الضرائب …
نريد الديمقراطية ... ولا نريد الأحزاب السياسية …

نريد أن يكون لدينا "قائد قوي" ... لكننا نكره احترام القانون ونتجاهل الشعور بالواجب ...
نحن نعشق بلدنا، ويسعدنا الفوز بمباراة كرة قدم ... لنا فخر دون حدود بتونسي يتألّق دوليا ... ولكننا نقوم بإلقاء الفضلات في الشارع والطريق العام أو أمام منزل جيراننا ، ونقوم بافساد عمل زملائنا في العمل ، ولا نعطي الأولوية للمسنّين في الصفوف الطويلة.. المشكل أننا لا نحترمُ بعضنا.

نريد تحرير السوق... ولكن نريد أيضًا من الدولة أن تضمن كل شيء ، أسعار منخفضة ، توفير سلع وخدمات عالية الجودة.

نريد الحصول على وظيفة وأجر ولكن دون فرض قيود عمل أو مردودية…
نريد خدمات عمومية ممتازة ... لكن دون انضباط في العمل وعوبات للمخالفين…

نريد نفقات عمومية لتلبية "الاحتياجات الاجتماعية" ... لكننا لا نريد المزيد من العمل، ولا نريد ضرائبا بالطبع ، ولا ديونا ...

نريد "إصلاح" كل شيء ... لكننا لا نريد التخلي عن أي "مكتسبات" ، أو تغيير أي شيء يهمنا شخصيًا….نعتقد أن ما تمّ القيام به وبناءه من قبل من سبقونا خاطىء ... يجب تدميره واستبداله ... ولكننا لا نملك أيّ فكرة عن كيفية القيام بذلك وبماذا ... نفعل ذلك أحيانًا بحسن نية ... ولكن في كثير من الأحيان بسوء نية وبخبث ... نحن منخرطون في عملية تدمير كبيرة لمؤسساتنا ، ودولتنا ، ومهاراتنا ، ورأس مالنا الاجتماعي ، ووفاقنا الاجتماعي …
نحن متورطون في تناقضات لا نهاية لها وغير قابلة للحل ... في انفصام متقدم ... لن يتمكن أي نظام سياسي وحده بالسماح لنا للخروج من هذا …


إذا هذه '' التخميرة الجماعية'' تنتهي بإنتاج "بائعي الأوهام " أو "بائعي السراب" الذين يقترحون "حلول معجزة". كل شخص لديه الحل ... كل شخص لديه العلاج ... التخميرة أصبحت جماعية ... والارتباك أصبح شاملا…

منهم الذي يعد بـ "تنظيف كل شيء وتطهيره" ويعيد لنا "دولة نظيفة وجديدة" … و الذي يعد بـ"نظام سياسي" جديد للقرن الحادي والعشرين يحل مشاكل الإنسانية ... ويمنح "السلطة للشعب" ... وينهي سيطرة الوسطاء و "المحتكرين السياسيين"... والذي يعدنا بإعطائنا ''نظام ديمقراطي" يكون "الأفضل في العالم" و يمكنه أن يشفينا من كلّ آلامنا …

والذي يعد بـ "نظام اجتماعي" يلبي احتياجات الفئات الهشة والمحرومين ... دون تضحيات ودون ألم… والذي يعد "بمنموذج تنمية" جديد يحل تمامًا مشاكل الإنتاجية وتوزيع الثروات … والذي يعد بأنّ الحل سهل ويقتضي على "الاعتماد على أنفسنا" ، وتحقيق "الاكتفاء الذاتي" ، و "الانفصال" عن بقية العالم….
والذي يقدم بكلّ ثقة في النفس أنّه يكفي أن يتمّ "القضاء على القطاع الغير منظم بجعله منظم " ويتمّ "القضاء على المحتكرين والمهربين" ، كي يتمّ حل كلّ المشاكل في تونس وكأنّ ذلك يتمّ بعصا سحرية …

وهناك الذي يعتقد أنه يكفي "تغيير العملة الوطنية" ، لوضع حد للمهربّين وللقطاع غير المنظم (الموازي) …
كلّ يعتقد أنّه ''اكتشف'' الحل ، وأن كل ما عليه فقط هو تطبيق وصفته السحرية ... غالبًا هم غير مدركون أن "مثل هذه الحلول" كانت موضوع تجارب وتحليلات وتقييمات منذ عقود وقرون… في حين أنّ معظم هذه الحلول كانت ولا تزال في بعض الأحيان مثيرة للجدل ، وأنها في كثير من الأوقات لم تعالج أي شيء أبدًا ، بل زادت المشكلات سوءًا!
في كل هذا ، لا توجد "قيود" في الميزانية أو "قيود" اقتصادية ، ولا خيارات فردية أو جماعية معقدة، أو تحكيمات للنظر فيها؛ لا عمل أو تضحيات، ولا تضارب مصالح أو صراعات محتملة بين المجموعات والجهات الفاعلة الاقتصادية والاجتماعية ؛ لا توجد إمكانية للخطأ أو آليات التصحيح ؛ لا توجد مشاكل صعبة تتطلب مهارات وتفكيرًا ناضجًا ، ولا مجال للعقل والصرامة والسيطرة على "عواطف" و "نبضات" بعضنا البعض ...
بالطبع نحن بحاجة إلى "الديمقراطية" و "مكافحة الفساد" و "الحكم الرشيد" و "نزاهة قادتنا" وتشجيع قنوات التوزيع الرسمية وتحسينها. بالطبع نحن بحاجة إلى إصلاح مؤسساتنا السياسية ، نحتاج إلى دولة اجتماعية ، وتقليص التفاوتات ... بل نحن بحاجة إلى ثقافة العمل في جميع المجالات. لكن لا يوجد جانب واحد يمكن أن يكون "الحل". تحتاج البلاد إلى وظيفة تعافي هائلة في جميع المجالات ، لكن أكثر ما تحتاجه هو العودة إلى الحياة الطبيعية والعقلانية. العودة إلى العالم الحقيقي ، إلى منطق حل المشكلات من خلال العمل ، والتفكير العقلاني ، واستخدام المهارات بدلاً من الشعوذة ، بعيدًا عن التفوق الفردي ، والشعارات الجوفاء والحلول الزائفة التي تبدو "سريعة" و "معجزة" ، ولكنها غالبًا ما تكون مجرد وهم.
بإدعاء أنّ الصعوبات غير منجودة وانكارها ؛ من خلال تهميش العقلانية والصرامة والكفاءة ، ينتهي بنا الأمر برؤية تكرس الكراهية والانقسامات والوصم على أنها الآليات الوحيدة للتفاعل الاجتماعي ... وهذا ما يبدو أنه أصبح أكثر الأنشطة الاجتماعية ازدهارًا في هذه الأوقات الصعبة.
نحن نخلط بين الحقائق والتخيلات…. لم نعد نميز بين الحقيقة والباطل ... أصبحت الخُدع هي القاعدة ... أي شخص لديه فكرة أو موقف مختلف يصبح عدوا ... "سيئ" ... بين "الصادق" و "الفاسد" ... بين "الخونة" و "المخلصون" .. بين "الوطنيين" و "المباعين" .. بقيت خطوة واحدة فقط للعبور نحو الصراع ، نحو العنف ، نحو تصفية الحسابات ، نحو الفوضى وتفكك المجتمع والدولة.

يمكن أن تستمر النشوة ، مع عواقب قد تكون وخيمة وقاسية! ستستمر الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في التراكم. سوف تستمر مؤسسات الدولة في الاضمحلال.

سيصبح من الصعب العثور على طرق للخروج.ستكون المعاناة كبيرة.

ولكن في بعض الأحيان ، تكون النشوة أيضًا ، بمجرد الخروج منها ، محررة ، وتسمح لك بالشعور بالتحسن واستعادة الصحة والفطرة السليمة! لكنها نادرة وغير مؤكدة للغاية!

وهذا... سيكون معجزة حقيقية!

 

*محافض البنك المركزي التونسي سابقا

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter