alexametrics
الأولى

التلوث البيئي.. الموت القادم على مهل

مدّة القراءة : 4 دقيقة
التلوث البيئي.. الموت القادم على مهل


لا يتخذ السؤال البيئي أولويّة في أجنداتِ المشاريع الإنتخابيّة، عادةً مايُزاح الى هوامشِ الوعُودِ، في الخواتيمِ التي يعقبها تصفيق الأنصار وشعاراتهُـم الحماسيّة الواعدة بنصر سياسيّ جديد. لكنّ المسألة البيئة تُعادل المسائل الإجتماعيّة والسياسيّة أهمية في الواقع، بعيدًا عن المنابر أو لنقُل- أسفل المنابر، بعيدًا عن اهتماماتِ الراغبين في قرطاج أو القصبة. تغيبُ عن البال أحيانًا، لكنّها تعودُ في شكلِ رسائل عاجلة من الطبيعة الأمّ، أنْ أسرِعوا قبل أن تحلّ الكارثة بالمتنفس الأطلسي الأخضر الذي تحيطه الصحاري جنوبا وغربًا.

 

في 2017  صدر تقرير عن معهد التأثيرات الصحية الأمريكي لتقييم وضع التلوث الهوائي في العالم كاشفا أن تلوث الهواء مسؤول في تونس عن مقتل 4500 شخص في 2015 نتيجة التعرض له لفترات ممتدة، كما احتلت تونس المرتبة الثالثة افريقيا. لا يمكن انكار الهاجس البيئي الذي بدأ يتسلل الى الوعي المواطني التونسي، لكن الاستثناءات هنا وهناك لا يمكنها أن تكون- بعد أساسا للقاعدة. المواطن التونسي القاعدي المسكون بالمشاغل الاجتماعية أساسا ثم الشاغل الأمني الذي ظهر من العدم اثر اعتلاء الاسلاميين السلطةـ  للحظة، لا يبدو أن التونسي يولي اهتماما للبيئة التي لا تتجاوز علاقته بها المكانة التي يحتلها "لبيب" في الذاكرة التونسية. لكن استطلاع للرأي حول الوضع البيئي أنجزته مؤسسة”هاينريش بول” بالتعاون مع مكتب الدراسات “وان تو وان” أظهر أن 8 تونسيين على 10 يرون أن الشأن البيئي يعنيهم جدًا أو يعنيهم إلى حد ما، و 7 تونسيين من أصل 10 لهم رغبة في تغيير عادات استهلاكهم للطاقة لمصلحة الأجيال القادمة. من هنا نستدل أن انشغال التونسي للأمن البيئي حاصل، لكن هواجس أخرى تطغى على اليومي المعيش جعلت البيئة سجلا بعيدا على الرفوف لا يطاله اهتمام الاعلام- ولا العامة.

 

منذ أيام، جاءتنا صور صادمة من عاصمة الجنوب، صفاقس. الاف الأسماك النافقة جرتها الأمواج الى شاطئ سيدي منصور، فيما تحول لون المياه الى الأحمر القاني، وانبعثت روائح كريهة من الشاطئ الذي يمثل متنفسا للجهة. ورغم أن هذه الظاهرة الغريبة لم يتم ربطها بطريقة مباشرة بالثلوث الا أنها أعادت للواجهة مسألة التلوث بالجهة.  "مصنع الموت" هكذا يلقب أبناء الجهة مصنع السياب الذي أغشى الولاية بغمامة صفراء نتيجة التسريبات الغازية التي يصدرها. دراسة أنجزتها الإدارة العامة للتهيئة الترابية التابعة لوزارة التجهيز والإسكان قد كشفت تعدد مصادر التلوث بولاية صفاقس وبتسببها في حدوث أضرار متفاوتة على البيئة على غرار التلوث البحري والتلوث الهوائي وتلوث التربة الا أن مصنع السياب لوحده ينتج حوالي 1.1 مليون طن سنويا من الفوسفوجيبس.هذه النفايات الصلبة تغطي مساحة تقدر بـ40 هكتار وسمكها يفوق 30 متر أي ما يعادل 12 مليون م3، لتمثل المصدر الرئيسي للتلوث الهوائي والمائي بالولاية. مصنع السياب يفرز سنويًا أكثر من 500 ألف متر مكعب من السوائل الملوثة التي يلقيها في البحر على غرار الكبريت والفليور والفسفور، التي أضرت بالثروة السمكية في صفاقس، وأضرت بالنشاط البحري وأحالت الصيادين على بطالة غير معلنه. المصنع الذي يخشى العديد اغلاقه لما يوفره من مواطن شغل يخلف أكثر من 200 ألف طن من المواد الصلبة والمسرطنة مما يتسبب بتلويث المائدة المائية على مساحة280 هكتار.

الى قابس، ومنذ 1972 متى أنشأ المجمع الكيميائي بالجهة، اطلق ثلاثي الرعب الذي يهدد البحر والبر والهواء في "شط السلام" التّي يقطنها نحو 18 ألف نسمة، وتبعد قرابة 4 كلم عن مدينة قابس. المجمع  يضخ ما يقارب 30 مليون طن من مادة الفوسفوجبس في البحر،ويضخ دخانا ضارا محملا بالجزئيات الكيميائية يصل مداه الى حوالي 35 كلم في سماء المدينة ليخيم عليها كشبح الموت. منذ عقود والمدينة تأكل أبنائها، الى أن أصبحت الاصابة بسرطتن الرئة خبرا عاديا بسبب    التي تغتال أهل قابس، وتزرع موتا بطيئا في أرضهم  قاتلة  للنخيل والزراعات والبقول التي تحرقتها الغازات المنبعثة من المجمع .  السماء في قابس، كحال صفاقس، تحول لونها من الزرقة الى الاصفرار. من جهة أخرى،   أدى هذا التلوث إلى اختلال التوازن البيئي في الجهة بالقضاء على  أنواع من الأعشاب و تلاشي حوالي ثلثي الثروة السمكية التي كانت تتواجد بكثرة في مياه خليج قابس. وبسبب الاختلال البيولويجي، تراجعت أنشطة الصيد البحري كذلك وأضر المجمع الكيميائي بالعائلات متوسطة الدخل التي كان الخليج مصدر رزقها الوحيد.

 

آمال جراد، الخبيرة دولية في البيئة أكدت لاذاعة اكسبريس أن تونس عملت على انجاز عديد المشاريع والرفع من الإستثمارات لكن غاب الجانب الوقائي وحماية البيئة. مشيرة الى أن جهاز القوانين البيئية بتونس متطور جدا مشيرة و اي وحدة صناعية جديدة يتم احداثها تنجز خلالها دراسة حول التأثيرات على المحيط. وبينت ان القانون الخاص بالجانب البيئي في تونس مفعل منذ سنة 1988 مشيرة إلى أن الوحدات المنجزة قبل هذا التاريخ القانون يفرض عليها ازالة مخاطر التلوث البيئي.وتابعت في السياق نفسه” القانون موجود لكن الإشكالية في التطبيق والمراقبة ومسؤولية التلوث هي مسؤولية المنتج بالاساس ”.

 

 

 يقر الدستور التونسي بضمان الحق في بيئة سليمة، حيث يقر في التوطئة بالوعي بضرورة المحافظة على البيئة سليمة. كذلك في  الفصل 45 الذي أقر: "تضمن الدولة الحق في بيئة سليمة ومتوازنة...". هذا الإقرار جاء عاماً وشاملاً ويصنف بذلك الحق في بيئة سليمة للتونسيين جميعا كحق من حقوق تضمنه شأنه شأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتفاقية اذ لايقل أهمية عن الحق في الصحة أو المساواة بين الجنسين. ولم يتضمن الدستور تعريفات ضبابية للبيئة أو ذكرا هامشيا لهذا الحق بل خصه بفقرات خاصة به على غرار وجوب "القضاء على التلوث البيئي"  الذي ينسب مسؤوليته الى الدولة  "التي توفر الوسائل الكفيلة بالقضاء عليه" (الفصل 45). 

 

خص الدستور كذلك "سلامة المناخ" مؤكدا على انخراط الجمهورية التونسية  في الاتفاقيات الدولية المتعلقة بسلامة المناخ وناصا على  إصدار قوانين وطنية متعلقة بذلك. كما أولى الدستور للحق في الماء بفقرة خاصة في باب الحقوق والحريات حيث نص الفصل 44 على أن: "الحق في الماء مضمون، المحافظة على الماء وترشيد استغلاله واجب على الدولة والمجتمع". كما نص  الدستور في فصله 129 على بعث  "هيئة التنمية المستدامة وحماية حقوق الأجيال القادمة"، وهو الهيكل الذي سيعنى بالمسائل البيئية. تمشي تشريعي واعد يعكس وعي الدولة وسلطاتها بالقضايا البيئية، تعزز بادراج سلك الشرطة البيئية في 2017. لكن الأطر التشريعية وحدها لا تكفي لتكريس ثقافة وطنية ترفض التلوث، تبدأ من اغلاق المجمعات الكيميائية أو ترشيد التصرف في فضلاتها حسب المعايير الدولية  الحديثة بدل حرقها أو القاءها في البحر. فهل نرى حوارا وطنيا للبيئة، مثلما شهدنا أسبوع النقل وحوار الصحة.. أم أن، مقاربة الأولويات ستواصل اعتبار البيئة شعارا هامشيا لا يصنع البروباغندا..

عبير قاسمي  

 

 

 

 

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter