alexametrics
أفكار

الحوار الوطني: من آلية مساومة سياسية إلى مسار بناء تنموي تفاوضي

مدّة القراءة : 9 دقيقة
الحوار الوطني: من آلية مساومة سياسية إلى مسار بناء تنموي تفاوضي


بقلم: أيمن بريكي*

 

كل الدول والهياكل السياسة تتأسس على اتفاقات سياسية تمثل إما مخرجات أو نتائج خلافات أو مساومات بين النخب السياسية. فهيكلة الدول ماهي إلا نتاج لاتفاقات سياسية أساسية، تشكل لحظة فهم مشترك بين النخب عموما، وبينها وبين المجتمع، أن مصالحهم أو معتقداتهم لن يخدمها إلا نوع معين من الهياكل السياسية أو من التنظيمات المعينة لهياكل ومظاهر ممارسة السلطة السياسية.
عرفت تونس حوار وطنيا برعاية أربع منظمات وطنية تمكن من تجنيب البلاد أزمة سياسية حادة. لكن هذا الحوار كان عبارة عما يعرف علميا ب "المساومات الحصرية للنخبة" وهي نوع من "الاتفاقات المؤقتة للنخبة "، تكون اتفاقات ظرفية، لا تدوم زمنيا، تكون غالبا مشخصنة تدور حول شخوص الفاعلين الأساسيين وأضيق من استيعاب الضغط المجتمعي، قد تجنب الدول ضغطا سياسيا بصفة ظرفية لكن التجربة على مستوى دولي تثبت أن هذه الاتفاقات لا تؤسس لاستقرار سياسي، ولا تحد من الاستقطاب السياسي والاجتماعي وعليه لا تؤسس لمسار تنموي ولا تضع تصور مؤسساتي واضح. فتبقى المجتمعات هشة تجاه مصادر الضغط التي خلقت الأزمة من الأساس.
وهنا تظهر أهمية دعوة الاتحاد التونسي للشغل "لحوار تشاركي شامل"، كما تظهر أهمية رؤية رئاسة الجمهورية للحوار كحوار يشارك فيه "ممثلون عن الشباب من كل الجهات" هذه الخصائص التي جرت على لسان المؤسسات الوطنية (رئاسة جمهورية وبرلمان) والمنظمة الوطنية، تعد من خصائص الحوار وطني الذي يؤسس لما يعرف علميا ب "التسويات السياسية" ونعتبر هذا النوع من النقاشات مسارا سياسيا للتنمية والإصلاح المؤسساتي يتم تشكيله مفهوميا ليستهدف البناء على المدى البعيد ويتطلب علاقات وتشاور أوسع بين النخبة ومناصريها والمجتمع.
فيخرج الحوار من التصور العمودي الحصري والسياسي البحت، نحو تصور أفقي "إدماجي" وشامل يرتكز على "أسس معرفية" تكسب الدولة "هويتها الذاتية" سياسيا، وهي بدورها توظف هويتها كآلية "اندماج اجتماعي" تحقق التماسك مجتمعيا. انقسام الآراء بين داعٍ للحوار ورافض له يعكس عمق الصراع السياسي المنفصل عن الواقع العلمي العملي والميداني الاجتماعي. فلا يجب تقديم هذا الحوار كحل وإنما يجب تقديمه كنهاية مرحلة للاستثمار في الاختلافات، وبداية الاستثمار في المشتركات و"البناء المشترك" لهوية حديثة للجمهورية تكون بمثابة "الانعكاس" للهويات الذاتية والفردية لكل الفاعلين على اختلافهم.
فكرة "التكوين المشترك" تجعل من الدعوات المؤسساتية الوطنية للحوار بمثابة لحظة انفتاح "نافذة سياسات"، قد تمكن من إدخال سياسات عمومية "قيمية" "معرفية". تقطع مع التوجه السياسي الحصري وتؤسس لسياسات وطنية "مبنية على الفرد".
"تتفق العلوم السياسية التطبيقية" على أهمية الحوارات السياسية عموما في فترات الصراع السياسي، حيث تبرم النخب اتفاقات وقتية عن طريق مساومات، غالبا ما تكون اعتباطية، دون "هندسة سياسية"، إما بحثا عن تجنب الصراع المجتمعي أو تحقيق بعض المكاسب الحينية. جدوى ونتائج هذه المساومات تكون محدودة، حتى وإن أثبتت أغلب التجارب الميدانية أن هذه المساومات قد تجنب الدول الصراعات الحادة والحروب الأهلية، سواء على المستوى الأفريقي أو الدولي.

لتحقيق أكبر قدر ممكن من النجاعة والفاعلية وتحقيق تغييرات دراماتيكية في بنية العمل السياسي ومؤسسات الدولة وعلاقتها بالمجتمع وعلاقة المجتمع بالدولة يجب على الحوار أن يكون مبدئياً تشاركياً بعيد عن التصورات المصلحية الحينية، وأن يكون مشفوعا بميثاق يعلن برنامجا تنمويا سياسيا قانونيا مجتمعيا واضحا تنفذه الحكومات المتتالية. هذا التصور لا يطلب ذوبان الأحزاب في تكتل واحد وإنهاء "التنافس" الفكري بينها، فمن المهم للبلاد تواصل المنافسة بين الأفراد والجماعات النخبوية في إطار الأحزاب والحركات والمنظمات، لكنه يوفر آلية للتخلص من الإشكالات السياسو-سياسوية وتحديد الإطار العام للعمل السياسي والتنافس في هياكل وطنية تضمن المساواة وتكافؤ الفرص وعدم التمييز.


كيف يجب فهم وتعريف الحوار كمسار بناء تنموي تفاوضي؟

مسار إدماجي ومستدام.
موروث الدكتاتورية وهيمنة الحزب الواحد على الدولة حولا الحزب لتمثل للدولة، وإرادة هذه الأخيرة لمحض ترجمة لإرادة من يقود الحزب، وما انجر عن ذلك من شخصنة للسلطة وفساد واحتكار وتمييز سياسي واجتماعي وترابي وتنموي، بالإضافة إلى عشر سنوات من الانتقال الصعب ساهم في مزيد تردي الوضع اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، لا يمكن تجاوزهم بنقاشات حصرية سياسية-قانونية، كما لا يمكن تجاوزه عبر سياسات مجزأة وغير منسقة تفتقر للهندسة السياسية التطبيقية، العلمية. لذلك:
يجب على الحوار أن يكون لحظة عمل مشترك لخلق استراتيجيات تسخر كل موارد البلاد البشرية والاقتصادية والفكرية في جهد متناسق وهداف تمكن الثقة في ديمومته واستدامة نتائجه مستقبلا. هذه الاستراتيجيات يجب أن تكون قابلة للتطبيق وطنيا وجهويا ومحليا عن طريق الحكومة والهيئات والمنظمات الوطنية ومنظمات المجتمع المدني وفقا للأطر التي يضعها البرنامج المتمخض عن الحوار.
حوار متعدد المستويات.
يجب أن يجيب الحوار عن الأسئلة السياسية الحينية والملحة التي تسبب الخلاف السياسي بين الأطراف المختلفة لجلب الاستقرار على المدى القريب للساحة السياسية، أي حوار إجرائي نخبوي حصري.
يجب أيضا أن يترافق مع حوار بنائي إدماجي تشاركي يدمج كل "الفاعلين العلنيين" حكومة وبرلمان ومعارضة وجمعيات وإعلاميين من جهة و"الفاعليين الخفيين" أكاديميين وإداريين ومجموعات ضغط وكل أصحاب المصلحة المجتمعية من جهة أخرى، بغاية تقريب وجهات النظر لبدء مسار التغيير طويل الأمد.
حوار معرفي، مبدئي.
يجب أن يكون الحوار معرفيا بحيث لا يرتكز فقط على أسس علمية تقدمها العلوم السياسية التطبيقية "كحساء أولي" لبناء معرفي ينجز مهامه ومتطلباته من حيث تجاوز الإشكاليات وإدخال تصور أكثر نجاعة للسياسات العمومية.
يجب أن ينطلق الحوار من واقعه السوسيو-معرفي لاستكمال مسار "التعلم من التاريخ" من حيث التعلم من الأخطاء التاريخية لتجارب الحكم والانتقال والتعهد بعدم تكرارها ورسم خطط للإصلاح المؤسساتي.
يجب أن يكون الحوار بداية لمسار تشكيل "الفهم المتبادل" بين الفاعلين على أرضية معرفية تجعل من الآخر "شريك مساوي" لا فقط في الحقوق بل في تشكيل الثقافة السياسية والتي تعتبر الحقيقة الأساسية في تركيبة الهوية الذاتية للمؤسسات الوطنية فهي أساس التفاعل بين الأفراد والمجتمع وهذا الأخير والدولة.
يجب أن يسود الحوار مبدئان مركزيان: "مبدأ اللاعود" أي اللاعود للاستثمار في الاختلافات، واللاعود للعنف، واللاعود لانتهاك الحقوق والحريات الأساسية للأفراد، واللاعود لاستعداء الآخر الشريك الوطني، وبالتالي الحرص على بناء "الثقة المتبادلة"، و"مبدأ اللأحادية" أي نبذ العمل الأحادي والمصلحية ومركزية الذات، والالتزام بقواعد الديمقراطية وبمبادئ دولة القانون والحوكمة الدستورية الحديثة.
يجب على كل شريك في الحوار الحرص على "ضبط النفس" لضمان استمرارية العمل المشترك، مع تنمية الحس التفاعلي للشركاء في الحوار وبالتالي إدماج الشريك الغير دمقراطي ودمقرطته عوض دفعه خارج مسار التفاعل بين الأطراف الوطنية وتعطيل مسار بناء "الهوية الجماعية".
يجب أن يلتزم الشركاء ب “الاعتراف بالأخطاء" والالتزام بحوار عقلاني يقوم على قوة الحجة المنطقية وعدم التبرير للأخطاء والمغالطات والانسياق في السلوكيات التضليلية التي قد تنهي التفاعل وبالتالي العودة للمربع الأول، أي لحالة الصراع الذي يعجز أي طرف على حسمه والفوز به بمفرده والذي وإن تمكن من حسمه لن يتمكن من تحمل تبعاته على المجموعة الوطنية وعلى مصلحته الذاتية.

التسويات المتمخضة عن الحوار ليست عقدا اجتماعيا.
الإعلانات، الأطر العملية والبرامج المتمخضة عن الحوار ليست عقدا اجتماعيا ولا يجب أن تفهم كذلك، فهذا الأخير ليس سوى حوار لتجاوز الصعوبات التي تعيشها البلد في ظرفية تاريخية معينة، نظرا لغياب الفهم المتبادل والتصورات السياسية المتناسقة. فالحوار قد يكون موضوع مساومات ظرفية، وحلول حينية، وبالتالي لا يجب أن يحد هذا المسار من إمكانية خلق عقد الاجتماعي.
الحرص على تنفيذ مراحل مسار الحوار وفق تصور علمي قد يذلل الصعوبات أمام حصول هذا العقد، إذا ما تمكن من وأد الأزمات الغير مجدية وتجاوزها نحو تقديم إطار للبناء المشترك، حول "هوية جماعية" للدولة والمجتمع والفاعلين، يكون هذا الأساس الأصلب والأكثر مبدئية لعقد اجتماعي بين الدولة والمجتمع.

ماهي التصورات الأساسية التي يتمحور حولها الحوار؟

مسار يحركه الشعب.
الشعب هو الركيزة الأساسية لوجود أي دولة ولوجود النخب الحاكمة والمؤسسات. هو من يمنح السلط والصفات والمراكز وهو من يسحبها. الشعب، إرادته الجماعية وتطلعاته هي الموارد الأساسية للدولة والنخب. لذلك:
على الحوار التركيز على "حاجات الشعب الملحة"، لا التغييرات الدستورية أو القانونية أو الانتخابية التي على أهميتها تظل ثانوية وهامشية ميدانيا. يرتكز الحوار على طاقة الشعب لقيادة مسار تلبية حاجياته، دون تفرقة على أساس الدين، العرق أو الجنس، إن كانوا بدويين أو حضر، ريفيين أو "ولاد بلاد"، فقراء أو أغنياء، نخب أو هامشيين، شعب تونس يجب أن يشارك في تشكيل مستقبله.
لتحقيق هذا التصور يتم استحداث هياكل حوار وتفاوض مجتمعي مباشرة أو افتراضية ليكون الشعب في كامل التراب الوطني مشاركا في المسار.

الملكية الوطنية للمسار
يجب أن يتأسس هذا الحوار على "معرفة وطنية" و"فهم وطني" لمتطلبات المرحلة ولعمق الأزمة ولضرورة تجاوزها. فالشركاء الدوليون أو الأجانب هم مجرد شركاء في الدفع نحو حلحلة الأزمة، لا يملكون لا المعرفة ولا الفهم المحلي، وبالتالي تنتهي جهودهم في حدود معينة وقد تعطى أحيانا جهودهم نتائج عكسية، وعليه فالأطراف الوطنية يجب أن تتمسك بملكية مسار التفاعل والتمسك بتقسيم واضح للعمل فيما بينها للدفع نحو البناء المشترك مع الأخذ بالاعتبار كل المصالح.
يجب أن "يتمسك كل طرف بملكية مسار التفاعل" والحوار. فكما يعبر كل طرف عن مخاوفه ويدافع عن مصالحه في إطار الصراع والساحة السياسية التي يعتبر نفسه جزءً مركزياً فيها، فعليه التمسك بالمسار وعدم الدفع نحو إسقاطه وأن يتمسك بدوره المركزي في مسار الحوار والبناء الوطني وأن يدافع عن حقوقه المشروعة في أن تمثله الهوية الوطنية الجامعة.
امتلاك المسار وتبني تمشي قائم على تشريك الشعب وجعله محرك الإصلاح مرتبطون أساسا بمفهوم السلم المجتمعي.

السلم المجتمعي والأمن للجميع.
يجب أن يشمل مسار دعم السلم المجتمعي والأمن الوطني الجميع، حيث يقدم الحوار مبادرة واضحة لتعزيزهما ولإصلاح منظومة الأمن الوطني على أساس قائم على مبادئ "الأمن البشري".
جعل موروث القمع وسنوات الانتقال المنظومة الأمنية الوطنية والنظام القضائي ضحيتين إما لأيديولوجيات الحزب، أو للدولة التمييزية أو للتجاذبات الحزبية دون رؤية إصلاحية واضحة.
يجب أن تؤسس أرضية سياسية، بهندسة واضحة لإدخال إصلاحات شاملة تأخذ بعين الاعتبار الحقوق الأساسية للأفراد سواء كانوا مواطنين أو أمنيين أو قضاة وفتح الطريق أمام "حوار دائم تعاوني" بين الوزارة المعنية لبناء "استراتيجيات بين-وزارية" لدعم مسار الإصلاح والبناء المشترك الدائم ولمكافحة الجريمة والإرهاب والشعوبية والجهوية أو المناطقية وكل أشكال العنصريات التي تهدد السلم المجتمعي والأمن العام.
يجب أن يوفر الحوار فرصة الاتفاق على أهداف سياسية واضحة، يتم تنفيذها ضمن مسار الإصلاح، للتأسيس لمنظومة أمن وطني محترفة، ولنظام قضائي عادل يعكس التنوع الوطني، بما يضمن التأسيس لعقيدة إصلاح تقوم على احترام الحقوق الأساسية للأفراد والمساواة بين الجنسين والعمل وفق مبادئ الحوكمة ودولة القانون.
ضمان السلم المجتمعي والأمن للجميع، يحيلنا إلى فكرة البناء الوطني.

البناء الوطني.

من أهم الأزمات التي تعرفها الجمهورية هي الانقسامات الوطنية المبنية على عقائد تمييز ديني أو جهوي أو حزبي أو جنسي. هذه الانقسامات وأشكال التفاوت واللامساواة التي تركها النظام المنحل، عمقتها الصراعات والمساومات السياسوية خلال فترة الانتقال.
يجب على الأطراف المشاركة في الحوار الخروج من حالة الاستثمار في الاختلافات التي تؤبد الانقسامات الوطنية. إن انخراط أي طرف في تأبيد الانقسامات أو التغاضي عنها أو تبريرها، ما هو إلا تمييز ضد المجتمع والوطن عموما وحرمان له من حقه في التقدم والعيش الكريم وطريقة مبطنة لضمان استمرار التمييز وكل مظاهر الهشاشة المجتمعية.
يجب أن يؤسس الحوار لاستراتيجيات بناء وطني تشاركية تقوم على الأمن البشري وحق كل الجهات في التنمية المستدامة بما يتماشى وخصائصها الاجتماعية والجغرافية، لا فقط التوقف عند فكرة حق الجهات المحرومة في التمييز الإيجابي وتحويل هذا التمييز لتمييز إيجابي في توزيع الفقر.
التأسيس لمسار البناء المشترك لكل الجهات، على أساس منهجي "التماسك الترابي" و"التماسك الاجتماعي" وتحميل الدولة والنخب الوطنية مسؤولية دورها الطلائعي في التنمية والبناء الوطني.
هذا التصور للبناء الوطني المشترك هو الأساس لبناء جمهورية لا تحرص فقط على تنمية جهاتها وفقا لمبدأ المساواة بل تنمية الفرد التونسي وبناء شخصيته وقدراته الذاتية وبالتالي بناء وطن يعكس هوية مجتمعه ومجتمع يرى انعكاس هوياته الذاتية في مؤسساته الوطنية ذات الهوية الجامعة، وعليه التأسيس "لحياة وطنية مشتركة" في ظل التنوع الوطني. وهو ما يجعل الجمهورية تأخذ دورا فعالا في المجتمع الدولي، عوض الاقتصار على دور "إسفنجة المساعدات". فقط التصورات العلمية التطبيقية المبنية على الفرد والحقوق الأساسية وعلى تنمية الحيوية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية قادرة على ضمان السيادة الوطنية وتحوبل الجمهورية لشريك فاعل في المنظومة الدولية.

تطوير الموارد البشرية وبناء الاقتصاد.

يتطلب البناء الوطني الربط بين تطوير القدرات الذاتية للفرد وبناء الاقتصاد الوطني وعليه الربط بين التنمية والبناء الوطني، أي تنمية فردية تقود لتنمية وطنية فبناء وطني، خلافا للتصور الذي يسود منذ الخمسينات والقائم على تغليب التنمية الاقتصادية الوطنية على حقوق الأفراد عموما وحقهم في التنمية الذاتية والمشاركة الفعالة والديمقراطية في اتخاذ القرار والبناء الوطني خصوصا. وهو تصور قد أثبت خطورته نظرا لأنه المساهم المركزي في تأبيد واستدامة النزاعات الهدامة، والحلقة المفرغة من استعداء المخالفين، فالاستثمار في الاختلافات، فالقمع، فخلق الأزمات، فالانفجار ثم العودة لنقطة الصفر التي ليست سوى الدخول في أزمة أعمق تقوم على شرعنه الفشل وخلق زعامات وهمية تعمق بدورها أزمة أطراف الصراع، الذين يعمقون الأزمة الوطنية.
يجب أن يحسم الحوار هذه النقطة وبالتالي التوجه نحو الربط بين تنمية الفرد والتنمية الوطنية، ولا تنمية للفرد دون حقوق وحريات أساسية، ولا نمو اقتصادي بدون ديمقراطية تضمن الشفافية وتكافؤ الفرص وتحرص على خلق مناخ اقتصادي قائم على "الثقة المتبادلة" والمنافسة الحرة والنزيهة.
في حين يذهب التصور العام أيضا لاعتقاد بأن الديمقراطية وإعادة توزيع الثروة هي محبطات للنمو الاقتصادي الذي يعرف بأنه الزيادة في الإنتاج في السلع والخدمات الاقتصادية، القابلة للقياس، لفترة بالمقارنة بفترة زمنية أخرى، وتقف هنا التنمية كجهد لإعادة التوزيع في مناطق الفقر في هوامش المدن أو الأرياف لدعم "نوعية الحياة" الوطنية. وبهذا التصور فإن التنمية هي ضد النمو وهو تصور يساهم في تعميق هوة الفقر وخلق الصراعات المجتمعية خاصةً في "الدول الهشة". ويجب أن يحسم الحوار في هذا التصور وأيضا فيما يخص البرامج التي يجب أن يقدمها كمخرجات للتنفيذ من قبل الحكومات التي سترافق المسار. قطعا من المهم الحرص على دفع النمو كزيادة في الإنتاج ويجب أن يكون هذا هدف أساسي لكل استراتيجية يقترحها الحوار. ولكن، يجب القطع مع التصور السابق لصالح البحث في كيفية خلق فرص لحدوث النمو، وكيف وأين ومدى استدامة هذا النمو، وكيفية توزيعه، وفقا لمبدأ "التماسك الترابي" والخصائص الجغرافية لكل منطقة، ومدى مساهمته في بناء القدرة الإنتاجية الطويلة الأجل وتنمية الموارد البشرية، وما هو أثره على البيئة. هذه هي المسائل الحاسمة عند النظر في البناء الوطني والتنمية.
يجب أن يتمخض الحوار عن برامج واستراتيجيات تدمج التنمية الفردية والنمو والتنمية وإعادة البناء وإعادة التوزيع في برنامج موحد. ومفتاح هذا الدمج هو برنامج هيكلي معرفي حديث وفعال يقدم إمكانية الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والاتصالات والنقل والصحة والتعليم والتدريب الحديث لجميع أبناء الشعب.
يجب أن يقدم الحوار برنامج يلبي الاحتياجات الأساسية ويفتح المجال أمام الإمكانات الاقتصادية والبشرية التي طال قمعها في المدن وهوامش المدن والأرياف. وهذا بدوره سيؤدي إلى زيادة الإنتاج في جميع قطاعات الاقتصاد، ومن خلال تحديث البنية التحتية وتنمية الموارد البشرية، يتم أيضا تعزيز القدرة التصديرية والنجاح في الربط بين النمو والتنمية وإعادة التوزيع العادل وتحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق الحرص على تكافؤ الفرص وهو أمر أساسي لتحقيق السلم المجتمعي والأمن للجميع.
ولن يتم تحقيق أي من النقاط السابقة إلا بالحرص على استكمال مسار الدمقرطة القائم منذ سنوات وبناء الثقة المتبادلة.

دمقرطة الدولة والمجتمع.

سيطرة الأقلية المتنفذة على اتخاذ القرار الوطني منذ عقود جعل هذه الأخيرة تعتقد بامتلاكها "امتياز طبيعي" أو "حق دم" في الهيمنة على الدولة ومقدراتها وحتى تعطيل مسار تقدم هذه الدولة والمجتمع نحو الديمقراطية والمشاركة المجتمعية الفعالة في اتخاذ القرار بتعلة "عدم جهوزية المجتمع"، تم تجاوز هذه المرحلة منذ 2011 وأظهر المجتمع جهوزيته في كل المناسبات الفاصلة في تاريخ وطنه في حين تخلفت هذه الأقليات في تبني منطق علمي ولعب دورها الطلائعي في قيادة هذا المجتمع، مما جعل مسار الانتقال يعرف هزات وانتكاسات عديدة وتعثر دائم منذ بدايته.
يجب على الحوار تقديم إطار جامع يحافظ على كل المصالح الشرعية ويدفع مسار المصالحة الوطنية على أساس ديمقراطي تشاركي، يتجاوز فكرة الهيمنة، فلا هيمنة لأقليات ولا لأغلبيات. فالهيمنة فقط للمصلحة الوطنية التي تمثل الجميع والتي تدمج كل المصالح الشرعية المادية والمعيارية ضمن المصلحة المؤسساتية لمؤسسات الدولة التي تقودها الأغلبية الحائزة على الشرعية والمشروعية لكنها مجبرة على إدماج تصور الأقليات لا فقط احتراما لحقوق الأقليات الأساسية، بل لأن خلق هذه الموازنة الديمقراطية هو "ضرورة أمنية" ومن أهم مقتضيات السلم المجتمعي.
يجب أن يدخل هذا الحوار تصورا جديدا لاتخاذ القرار وتطبيقه، فمن غير المنطقي عدم تشريك الشعب، بأقلياته المتنوعة الدينية والعرقية والجنسية في اتخاذ القرار الذي يمسه هو أساسا "كموضوع للسياسات العمومية".
مسار الدمقرطة يجب أن يجلب التغيير على مستوى التفكير والممارسة للدولة والشعب على حد السواء. كما لا يمكن اختزال الديمقراطية في تونس في مجرد انتخابات دورية على أهميتها إجرائيا، وإنما يجب آن يدفع الحوار الجميع نحو الانخراط في مسار ديمقراطي نشيط يمكن الجميع من المشاركة الفعلية والفعالة في البناء الوطني المشترك والتنمية الوطنية الفردية والجماعية.

خلاصة:
ينبغي أن يبدأ الحوار ببناء الثقة بين الأطراف السياسية ثم عملها على استعادة الثقة الشعبية عبر الحرص على إثبات حسن نواياهم وصحة ادعاءاتهم والخروج من "منطق المساومة" إلى "منطق الجدل المعرفي" ومن "قوة المساومات المصلحية" إلى "قوة الحجة" المعرفية السياسية التي تصبح أساسا لتشكيل الوعي الوطني وبناء الفهم المتبادل.
هذا الفهم المتبادل ينهي غياب الثقة ويبدد الخوف، الذي يترجم في الصراع السياسي الحالي بالعنف والهروب إلي الأمام ورفض المكاشفة وتعطيل مسارات الإصلاح والابتزاز المتبادل، فمنذ 2011 تنخرط النخب في معارك بلا رادع من أجل الهيمنة السياسية، التي لم يقدر ولن يقدر أي طرف على حسمها بشكل قطعي وينظر الجميع لطبيعة متوحشة للسياسة والعمل السياسي على أنه عمل لا مكان فيه إلا للفائز، الذي يستحوذ على كل شيء ويحرق ما قبله.
كما يجب أن يلتزم أطراف الحوار بالبحث عن "تسويات سياسية" معرفية تضمن استمرارية المشاريع والتصورات المؤسساتية وديمومة الاستقرار السياسي والقدرة على تقييم ودراسة أثر العمل السياسي على المجتمع بشكل حيني.
يجب أن يخرج هذا الحوار السياسة في تونس من حالة الفعل الاعتباطي النفعي إلى حالة "الفعل التواصلي" المعرفي.

 

*أيمن بريكي: باحث دولي في العلوم السياسية

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter