alexametrics
أفكار

برنس ابن خلدون ومعطف سبينوزا

مدّة القراءة : 3 دقيقة
برنس ابن خلدون ومعطف سبينوزا

 

بقلم:  عبد الحليم المسعودي

 

ترجلت اليوم في تونس المدينة... شارع بورقيبة الزعيم ... بسبب نزولي للطبيب في وسط البلد , طبيب الصداع النصفي  ... ذهلت للتغيرات التي طرأت على قاعدة تمثال ابن خلدون  الثابت في قصيدة  الصغير أولاد أحمد

 ("يا ابن خلدون المدينة أضيق من خطاك

ولكم مررتُ ببرنسك الحديد... فساءني زمني

فاخرج من الوثن الجديد

وأكتب إلى الوثن المقابل ما يليق بحجمه

قل ما تريد: هذا حصانك واقف والكفّ من زمن ترحّب

بالغريب

قل ما تريد

فلنا المدى وله الصديد"...)

تأملت الفظاعات في قاعدة التمثال التي اختارها المصمم (لا أدري من هو) كمقولات من نوع " الإنسان مدني بطبعه، و العدل أساس العمران .."  مقولات شعارات، أقل ما يقال فيها اليوم أنها كلام عام لا معنى حقيقي له في القرن الحادي والعشرين ...وتذكرت أن ابن خلدون كان صامتا فأنطقوه اليوم والحمد لله بعقلية يومية المنار ... هل تعرفون يومية المنار ؟؟؟ (أيها القدامي ؟؟؟) ...  فظاعات رأيتها اليوم مكتوبة في رخام القاعدة تنم على فقر في الحس و المعنى على حد عبارة أحمد ابن أبي الضياف حين قال في أواخر القرن التاسع عشر "تونس الفقيرة حسا ومعنى " ...

لعل كل ذلك من تدبير سعاد الشيخة (هي شيخة غير خليجية لا محالة) ومستشاريها في المجلس البلدي (...بالله عليك يا بيرم التونسي أتركني في حالي يرحم والديك الشيوخ البيارمة) ... كان أمرا موحشا رديئا، مدرسيا تافها ووضيعا ينعم عن عقلية شعارات التلقين (أعتقد أنها شعارات إخوانجية ... الاعتقاد يعني القناعة) ...

المحصلة: فظاعة جمالية ارتكبها زبير التركي بسذاجة نموذجية تليق بهامات الأتراك في مخيال الاستشراق قبل ظهور فونتازمات الإمبراطورية العثمانية (زبير التركي الذي يفتخر بأصوله التركية جهارا في التلفزيون) وملخصها ابن خلدون فاتحا كتابا قيل إنه المقدمة ... تذكرت أطروحة الدكتورة ناجية الوريمي الخطيرة حول ابن خلدون وحول سلفيته الخفيّة (وهذا موضوع فقهي كبير) ...

اللهم سامحنا و أغفر لنا بمساسنا بمقدسات التوانسة ... قلت في نفسي ليس هذا ابن خلدون الرمز الذي أعرفه في شارع بورقيبة عندما عرفته جائعا ومقهورا وهامشيا عندما جئت للعاصمة من وراء علامات الطريق ( البلايك) ... كان أكثر حنوا عليّ في شارع الليالي المدلهمة حيث بصقة المسلول تكاد تراها دينارا ...

 

 

 و لكنني تذكرت في المقابل برنس سبينوزا باروخ, بل معطفه القشيب و تذكرت تمثاله في أمستردام ... نفس الهيئة و المقام في قيام الرّمزية في مخيال أمّته ... التفاصيل مختلفة ... برنس ابن خلدون تونسي أصم برونزي موحش بطرياركي يقول لنا : الأصالة ... الأصالة... الأصالة يا دين الله الواحد على لسان محمد مزالي ( من يا ترى كان يقدر على ارتداء برنس  في أوقات الزّمة؟ .... من كان يعرفٌ صوت الرطاب في السدّاية تكتبه أصابع بينيلوبيه Pénélope  بقلم من خشب ... برنوس نوميديا أعني ...)

 برنس سبينوزا معطف دكاترة الفقه التلمودي, مرصع بالطيور و العصافير و الببغوات ( طبعا سبينوزا يؤمن بالنص مكتوبا و محفوظا و يرفض التأويل و يؤكد أن العيب في القارئ و ليس في النص ) ... تمثال ابن خلدون تمثال أيديولوجي , لا لعلمه أو لمعرفته  كما أراد الحاكم ( بورقيبة) بل مناوأة ضد الكاتدرائية على اليسار و سفارة فرنسا على اليمين) ,,, لقد وصلت الرسالة الساذجة ... أعتقد ( وقد أكون مجانبا للصواب) أن تمثال سبينوزا أكثر جمالا و أناقة (كم تحبون الكفار و تكرهون بني جلدتكم يقول أحدهم الآن) , هكذا أراه , مجردا من كل رسالة , مجردا من كل شعار , مجردا من كل مقولة , إلا من موقع سبينوزا في العقل الفلسفي البشري و في المفصل الرئيس  :  فصل الدين عن الدولة وفي قلب الجدل اللاهوتي ...

انظروا التواضع في تمثال سبينوزا ... أنظروا التصنع في تمثال ابن خلدون .... النحات الذي صمم تمثال ابن خلدون لا أعتقد أنه قرأ حرفا واحدا، لكنه قرأ الأيدولوجيا الفاسدة التي عنوانها " الأصالة والمعاصرة " .... النحّات الذي صمّم تمثال سبينوزا فكّر في الحريّة، كأنه يستحضر نص "منطق الطير" لفريد الدين العطار، كأنه يقول لنا فكر سبينوزا يبشّر بجنة الحرية ...  فكر ابن خلدون تحول في تونس عند الجهلة إلى مجرد شعارات حزبية فارغة (العدل أساس العمران مثلا) شعارات "عصائدية" رجعية بامتياز أشهرها حزب شعبوي رجعي في الانتخابات الماضية وحكم بها البلاد بشعار أكثر وضوحا: " الظلم مصعد للعمران / الخراب" ... سبينوزا لا شعارات لا حذلقة لا بلاغة ... تقشف في الجمال والبساطة والحجم والأشكال .... نساء هولنديات بإمكانهن الجلوس بقرب التمثال وهدهدة رُضّعهن ...في يوم ربيعي... في تمثال ابن خلدون... يأتيك "طحّان" نزق فيعكّر مزاجك ... فتبول على فكرة المواطنة (تبول عليها في عقلك طبعا) ... سبينوزا فاتح مشروع الحداثة ... ابن خلدون النازل في قفة من أسوار دمشق يخاطب (مطبعا مع المغول) الغازي المغولي تيمورلنك ...

 

 

 قال لي الطبيب اليوم بخصوص الصداع النصفي لا تقرأ كثيرا لا حاجة لك في القراءة و عليك بالدعاء إن شاء الله لاباس ...بخصوص الصور، صور الأشعة، فهي مجرد مقدمة لعلاج طويل , قلت له : مقدمة ؟ جاوبني ضاحكا: -العلاج يبدأ بالمقدمة والشفاء بالمؤخرة .... رن هاتفي , أجيب : -  آلووووو ... شكون معايا ... ألوووو  ( لا أعرف الرقم) ... تفضل خويا : سي حليم , معاك سفارة هولاندا ... (بهتة) ....ألووو .... انقطاع الخط.

ترجلت اليوم في تونس المدينة... شارع بورقيبة الزعيم ... أمر بجانب تمثال ابن خلدون ...تذكرت الراحل الفيلسوف والروائي كمال الزغباني حين كان ينزل في 14 جويلية من كل عام تحت الشمس الحارقة يندّد وحده مفردا ضد السفارة الفرنسية في الشارع الرئيسي و مطالبا بترحيل مقر السفارة في مكان آخر كما فعلت جل السفارات الأجنبية ... كان كمال يقول يحتفل الفرنسيون بذكرى احتلال سجن  الباستيي la prise de la  Bastille في الثورة الفرنسية لكنهم شيدوا سجون باستية في شكل سفارات في مستعمراتهم القديمة .

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter