alexametrics
أفكار

رئيس الجمهورية في مواجهة منظومة أحزاب لا يثق بها وآليات دستورية لا يستسيغها!

مدّة القراءة : 7 دقيقة
رئيس الجمهورية في مواجهة منظومة أحزاب لا يثق بها وآليات دستورية لا يستسيغها!

 

محمود بوناب


نشرتُ في هذا المنبر بتاريخ 18 نوفمبر 2019، غداة تسليم الرئيس قيس سعيد السيد الحبيب الجملي رسالة تكليفه بتشكيل حكومة مقالا استبعدت فيه توفر الظروف الملائمة والتأييد السياسي الذي يضمن للسيد الجملي النجاح في تلك المهمة مما جاء فيه:


"...إن الخيار الوحيد المتوفر اليوم أمام التونسيين للخروج من النفق بالوسائل القانونية والسلمية ليس متاحا إلا لرئيس الجمهورية. فهو الوحيد في المشهد الوطني الذي يملك شرعية سياسية وشعبية لا يجادله فيها أحد، وهو الذي استأمنه ملايين التونسيين على وحدة البلاد ومناعتها وأوْكَلوا له مهمة إصلاح ما أفسدته حكومات تقاسم غنائم السلطة وبرلمان المحاصصة الحزبية والتجاذبات السياسية العقيمة...، وهو يعلم جيدا أن الإبقاء على النظام السياسي الحالي يمثل تكريسا للجمود والرداءة والعجز وأن التوافق يمثل أحيانا أسوأ الخيارات للإبقاء على وضع متعفن…"


وها قد أخفق السيد الحبيب الجملي في اكتساب ثقة البرلمان لحكومته التي عرضها يوم 10 جانفي 2020 على مجلس النواب ومُني هو والحزب الذي كلفه بخيبة مرة وصادمة بعد أن رفض مجلس نواب الشعب بأغلبية حاسمة لا غبار عليها منح الثقة لتلك الحكومة، وآلت الأمور برمتها إلى رئيس الجمهورية وفق ما تنص عليه الفقرة الثالثة من الفصل 89 من دستور 2014 التي تنص على أنه: 


" عند تجاوز الأجل المحدد دون تكوين الحكومة، أو في حالة عدم الحصول على ثقة مجلس نواب الشعب، يقوم رئيس الجمهورية في أجل عشرة أيام بإجراء مشاورات مع الأحزاب والإئتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة في أجل أقصاه شهر"...


قبل الخوض في هذا المسار الجديد على التونسيين وغير المسبوق في تاريخ الدولة التونسية، وجب تحديد المطبٌات والأخطاء الجوهرية التي وقع فيها السيد محمد الحبيب الجملي والحزب الذي اختاره والتي سَيَتعين على "الشخصية الأقدر" التي سيكلفها رئيس الجمهورية بعد التشاور مع الأحزاب والكتل النيابية تفاديها وعدم الوقوع فيها بكل ما أوتيت من قوة وحنكة ولباقة في مشاوراتها مع رئاستيْ قرطاج وباردو ومع الأحزاب الممثلة في البرلمان ومجموعات الضغط المتحكمة في جل مفاصل الدولة والإقتصاد الوطني من أجل ضمان أقصى فرص النجاح لتشكيل حكومة تحظى بالمصداقية الشعبية وبحزام سياسي يضمن نجاعتها واستمراريتها، وهي خمسة أخطاء بديهية لكن عواقبها كانت وخيمة:


1- راهنت حركة النهضة على تعوّد التونسيين على هيمنتها على المشهد السياسي الوطني منذ 2011 وتشرذم التمثيل الحزبي  وتشتت الأصوات والمتاجرة بها في مجلس النواب وعلى الأغلبية الظرفية التي مكنت السيد راشد الغنوشي من الفوز برئاسة مجلس النواب، وأصرّت بكل مكابرة على أنها الحزب الفائز في الإنتخابات التشريعية، واعتقدت قيادتها أن من حقها فرض رؤيتها وإرادتها على بقية الأحزاب، ورفضت الحركة الإسلامية القبول بأن حصولها على المرتبة الأولى في الانتخابات لا يخولها وحلفاؤها تشكيل حكومة، ما دامت هي ومن يؤيدها تشكل حسابيا وسياسيا أقلية في مجلس النواب (أقل من ثلث الأصوات)، وقد تجلى ذلك في التصويت على منح الثقة لحكومة الجملي (72 صوتا مقابل 134).


2- من أجل استدراج الأحزاب التي كانت حركة النهضة تصبو إلى مشاركتها في إئتلاف الحكم سيما التيار الديمقراطي وحركة الشعب، قدمت الحركة السيد الحبيب الجملي على أنه شخصية مستقلة والحال أنه سبق للرجل أن شارك لفترة تجاوزت العاميْن (2012-2014) في حكومتيْ المحاصصة بين أحزاب الترويكا بصفته ممثلا لحركة النهضة عندما شغل منصب كاتب الدولة لدى وزير الفلاحة.


3- لم يكن السيد الحبيب الجملي يملك الخبرة الضرورية والأدوات السياسية والتفاوضية ليستوعب منذ انقضاء الشهر الأول من تكليفه أن مهمته آيلة إلى طريق مسدود وأنه لا يمكنه، بعد التراجع الصريح من جانب  التيار الديمقراطي وحركة الشعب عن المشاركة في الحكومة وتقلب مواقف قلب تونس وتحيا تونس تجاهه وتذمر بعض قيادات النهضة نفسها من طريقة إدارته مساعي تشكيل الحكومة، الإستمرار في مهمته وأن عليه التوقف عن الدوران في حلقة مفرغة والإقرار بعجزه عن إنجاز المهمة المنتَظرة منه وإعادة الأمانة إلى الحزب الذي أوكلها له.


4- رغم علمه أن لا أحد في تونس يصدق أنه شخصية مستقلة فعلا وقادرة على الخروج عن طوع حركة النهضة وجلباب رئيسها، أصر السيد الحبيب الجملي على مواصلة مساعيه إلى أن عرَضَ على مجلس النواب حكومة يهيمن على تركيبتها الجهاز القضائي وموظفو الإدارة العمومية(Bureaucrates)، زَاعِمًا أنها مُشَكّلة من شخصيات مستقلة ذات كفاءة عالية، والحال أن أغلبية أعضائها معروفون إما بضعف خبرتهم السياسية والمهنية أو بولائهم المطلق لحركة النهضة، فكانت النتيجة أن المشهد الذي عاشه التونسيون يوم 10 جانفي في مجلس النواب كان مشهدا "سرياليا" حتى أن كثيرا منهم أشفقوا على السيد الجملي وأعضاء حكومته المقترحة الذين بدا معظمهم مذهولا أمام وابل الانتقادات والاتهامات التي تعرضوا لها في المجلس ومصدوما عند الإعلان عن نتيجة التصويت على الثقة!


5- أخَلّ السيد الجملي بالعهد الذي أخذه على عاتقه عند تكليفه أنه سيشكل حكومة مصغرة وسوف يتخلى عن وظائف كتاب الدولة، فإذا به اقترح حكومة حطمت رقما قياسيا في عدد أعضائها! فرغم الظروف العصيبة التي تسود البلاد وضعف الموارد المكبّل لقدرات الدولة وضنك العيش الذي يُثقِلُ كاهل أغلبية التونسيين، شكل الجملي حكومة تضم 42 وزيرا وكاتب دولة، والحال أن البلاد كانت في أمس الحاجة إلى حكومة مصغرة غير مثقلة بالولاءات الحزبية أو الإدارية، لا يتجاوز عدد أعضائها نصف أعضاء الحكومة المقترحة من السيد الجملي على أقصى تقدير من أجل إعطاء أكبر قدر من المرونة والنجاعة والمصداقية للعمل الحكومي والشروع في عملية الإصلاح وإعادة الهيكلة التي طال انتظارها من التونسيين بكافة مشاربهم. 


لقد أخفق السيد الحبيب الجملي لأن حركة النهضة لم تفهم أن البقاء في الحكم مُرهِقٌ ومضنٍ وأن الديمقراطية أساسها التداول على الحكم، ولم تستوعب أن  السياسة يوم لك ويوم عليك وأن السلطة خدّاعة ولا يمكن الإحتفاظ بها إلى ما لا نهاية لأنها تكليف محدد في الزمن، وهي أمانة لا يمكن التلاعب بها أو مقايضتها بمصالح آنية زائلة... فَلَمْ تتعظ الحركة من أخطاء الماضي، سيما من الأخطاء الفظيعة التي تقاسمتها خلال الولاية التشريعية والرئاسية الماضية مع شريكها الراحل الباجي قايد السبسي وحليفها السابق "نداء تونس"  في التحيل على التونسيين بتوافق مغشوش ووحدة وطنية زائفة.


لم تتمعّن قيادة النهضة لا في الرسائل التي أراد الناخبون توجيهها للطبقة السياسية برمتها خلال انتخابات 2019 ولا في التغييرات التي طرأت على النسيج الانتخابي الوطني ولا في الأسباب المنطقية التي أدت إلى فشل مرشحها في التأهل للدور الثاني للانتخابات الرئاسية ولا في تراجع رصيدها الانتخابي في الاستحقاق التشريعي الأخير، واعتبرت أنه ما زال بوسعها المضي قدما في السيطرة على المشهد السياسي العام والتعامل مع باقي مكونات المشهد السياسي وكأنها دُمًى تحركها على هواها للتحكم في مفاصل الحكم بأدوات وسلوكيات بدائية أحيانا...


هُزمت النهضة ومرشحها، وهي وقيادتها من يتحمل المسؤولية كاملة عن هذه الهزيمة ولا يمكن أن تلوم إلا نفسها وبعض قياديها الذين ما زالوا يتعاملون مع السلطة على أنها غنيمة أو فريسة لا يجب التفريط فيها لأحد. ولأول مرة منذ انتخابات المجلس التأسيسي عام 2011، انتقل زمام المبادرة ومركز الثقل في اتخاذ القرار من مونبلزير ثم باردو إلى قرطاج. 


إنها لحظة تاريخية فارقة متاحة أمام رئيس الجمهورية وأمام كافة الأحزاب الممثلة في مجلس النواب والمنظمات الوطنية وعلى رأسها اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين واتحاد المرأة... وهي التحدي الأكبر الذي يواجهونه جميعا هذه الأيام من أجل العمل على تجميع الشتات الحزبي والنيابي وبناء أغلبية برلمانية متجانسة ومستقرة حول برنامج إنقاذ وطني يُعيد إلى التونسيين بعض الأمل في وطنهم وفي نظامهم وفي قدرتهم على طرد النحس وكسر دائرة الفشل.


إنها فرصة قد لا تتكرر في المستقبل القريب للعمل على إصلاح هذا النظام السياسي الهجين الذي كبل قدرات البلاد عبر دستور مليئ بالثغرات والمطبات ونظام انتخابي منحرف أصبح يشكل خطرا على استقرار البلاد واستمرارية الدولة، وفق برنامج تقوده الشخصية الأقدر والأكثر جدارة وكفاءة وأمانة من أجل "حمل الأمانة وأوزارها وتحمل المسؤولية كاملة بأعبائها وأثقالها حتى نفتح معا أمام شعبنا آفاقا أرحب لتحقيق مطالبه في الشغل والعدل والحرية والكرامة الوطنية." مثلما ورد في كتاب التكليف الذي وجهه الرئيس سعيّد للسيد الجملي، ولعله سيُعِيد الصياغة بنفس الألفاظ في رسالة تكليف رئيس الحكومة المنتظر.


لكن التونسيين يعلمون أن رئيس الجمهورية لا يثق بالمنظومة الحزبية وله اعتراضات على منظومة الحكم التي أقرها دستور 2014 وعلى النظام الإنتخابي، وقد أكد ذلك خلال زيارته مدينة القصرين يوم 8 جانفي الجاري منتقدا تشتت المشهد الانتخابي ومعتبرا أنّه حان الوقت لمراجعة الدستور والقانون الانتخابي والانتقال الفعلي إلى الجمهورية الثانية يكون فيها تنظيم إداري وسياسي يستجيب لمطالب التونسيين. وإتهم الرئيس سعيد أطرافا، لم يُحددها، بالعمل على افتعال الأزمات واستعمال خطاب الأزمة كأداة للحكم لديها حتى تبقى الأمور على حالها من فساد، مؤكدا تمسكه بكل التعهدات التي أعلنها في حملته الانتخابية.

كل هذه أولويات قصوى دون شك، ومن حق رئيس الجمهورية أن يطمح لوضع رؤاه وتصوراته على الطاولة من أجل إصلاح المنوال التنموي العقيم الذي اعتمدته الدولة منذ السبعينات وتعديل النظام السياسي الهجين الذي جاء به دستور 2014 في وقت تتلمس فيه البلاد طريقها نحو معادلة حكم جديدة قد تؤدي إلى تغيير جذري للتوازنات التي عرفها التونسيون منذ الثورة. كما من حق الرئيس، لا بل من واجبه، أن يبقى وفيا لتعهداته وللإلتزامات التي أخذها على عاتقه  تجاه ناخبيه خلال الحملة الرئاسية وتجاه عموم التونسيين بعد نيله ثقة أغلبية كاسحة من الناخبين. لكن في المقابل، على رئيس الجمهورية التزام الحذر الشديد لأنه لم يبق أمام الطبقة السياسية أي متسع من الوقت للجعجعة ودق الحنك. 


"البلاد قاعدة تبرك واقتصادها ينهار وشبابها محبط فاقد للأمل وأمنها القومي عرضة للمخاطر والتوانسة عندهم أكثر من عام ونصف يتبعوا مثل شاهد الزور في خصومات ومعارك وتجاذبات ما تعنيهمش وما عندهاش علاقة بمشاكلهم، البلاد تخدم برئيس جديد لتوْ ما قالناش اش ماش يعمل ومازلنا ما سمعناشي وما شفناشي à l'oeuvre، وبحكومة تصريف أعمال نصف وزرائها خرجو والنصف الآخر يستنى وقتاش يخرجو وبإدارة عمومية كارهة نفسها وكارهة الناس الي يُفترض إنها تخدم فيهم، والناس تعاني في المر والخوف وقلة ذات اليد في كل جهات البلاد…ما ننساوش الديمقراطية ماهياش اختراع تونسي، هذاكة علاش يلزمنا نتعلموها على قاعدة ونحترموا ثوابتها ومتغيراتها وسلوكياتها، وإلا رانا باش ندمروا بها رواحنا...ارحمونا، ارحموا ها البلاد، رانا فدينا وكرهنا أنفسنا…


تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter