alexametrics
أفكار

قدرُنا حتميةُ الإصلاح السياسي من أجل تجديد الشرعية واستعادة المشروعية

مدّة القراءة : 12 دقيقة
قدرُنا حتميةُ الإصلاح السياسي من أجل تجديد الشرعية واستعادة المشروعية

 

محمود بوناب

 

إلى السيدات والسادة المحترمين:

 

رئيس الجمهورية، رئيس الحكومة، رئيس مجلس نواب الشعب، قيادات الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحكومي، قيادات الأحزاب السياسية الوطنية…

 

أيها السيدات والسادة، إن الخطر داهم والفتنة استيقظت والوطن مقبل على زلزال...

 

ولا يخفى على أحد منكم، أيا كان موقعه أو انتمائه، أن هذا البلدَ الذي يجمعنا يعيش أزمة سياسية  عميقة ومتصاعدة وأزمةً اقتصادية خانقة، وأن أدوات الحكم التي ورثناها عن الفترة التأسيسية (الدستور، منظومة الحكم والفصل بين السلطات، القانون الانتخابي، قانون الأحزاب…) قد بينت محدوديتها وقصورَها في تلبية طموحات التونسيين والنهوض بالبلاد في كنف حكم وطني مستقر يعيد إليهم الأمل في المستقبل ويُعَبِّدُ أمامهم الطريق للخروج من المأزق الذي آلت إليه الدولة برمّتها نتيجة الخيارات التأسيسية العشوائية غير محسوبة العواقب والحسابات والمصالح الفئوية والحزبية الضيقة.

 

وتعلمون بلا مواربة أن حصيلة الولاية التشريعية والرئاسية الأولى في عهد دستور 2014 متواضعة جدا إن لم نقل هزيلة، وزادت أوضاعَ البلاد سوءا في كافة المجالات، وأن ما سُمى ب "الوحدة الوطنية" أو"التوافق" الذي حَكَمَ السنوات الخمس الماضية وسوَّقوا له بذريعة الخوف من "التغول" و كعنصر استقرار بحُجَّة عدم السقوط في متاهات الفوضى مثلما ألت اليه الأوضاع في الشقيقة ليبيا، قد أفرغ الديمقراطية التونسية الفتية من مضمونها وأجهض طموحات التونسيين.

 

فقد شكَّلَ ذلك التوافق أكبر عملية تحيل في تاريخ البلاد التونسية الحديث، لأنه كان مجرد سلسلة من الخيبات المتعاقبة والنكث بالوعود والعهود، والغش والخيانات المتبادلة، وتكريس الفئوية ونفوذ الأسرة واللوبيات، وتفشي السياحة الحزبية والمناورات الخفية من أجل البقاء في السلطة أو الإقتراب منها لتذوق غنائمها.

 

كما أن ذلك الاتفاق المشؤوم الذي تم في باريس في أكتوبر 2013 وسُمي ب "توافق الشيخين"، وهو في الحقيقة التفافٌ على المطالب التي عبرت عنها معظم التيارات السياسية المشاركة فيما سُمِّيَ آنذاك "اعتصام الرحيل" في جويلية 2013، والذي على أساسه جرى التوافق على تقاسم السلطة بين مؤسس حزب نداء تونس آنذاك الباجي قايد السبسي ورئيس حركة النهضة التي لها أغلبية المقاعد في المجلس الوطني التأسيسي السيد راشد الغنوشي، قد انتهى بحرب مفتوحة بين رأسيْ السلطة التنفيذية، رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وأخرى خفية بين الرجلين الذيْن أبرماه من أجل تقاسم مقاليد الحكم ومراكز النفوذ.

لقد نتج عن ذلك التوافق ركود للحياة السياسية في البلاد وتعفنها، وتحول مع الأيام من ضامن "في الظاهر" لاستقرار المشهد السياسي إلى غرفة سرية تتم فيها المناورات والصفقات بين القيادات التي تتقاسم مراكز النفوذ.

 

كما لم يعد خافيا على أحد منكم أن الدستور الذي أقره المجلس الوطني التأسيسي يوم 27 جانفي 2014، ووصفه رئيس المجلس آنذاك بأنه "أحسن دستور في العالم"، وعلى الرغم مما تضمنه من إيجابيات غير مسبوقة في البلاد العربية بشأن حرية التعبير واحترام حقوق الإنسان، تبين أنه وثيقة مليئة بالمطبّات والثغرات تم وضعها وفق أهداف سياسية غير معلنة وحسابات ضيقة من أجل تكريس المحاصصة في تقاسم السلطة، وأنه، رغم البهرجة التي أحاطت بالمصادقة عليه، وثيقة تأسيسية لا ترتقي إلى ما كان يطمح إليه التونسيون من إرساء دولة مؤسسات فاعلة ومستقرة ومنظومة حكم متماسكة وفعالة، ودخول التاريخ من بابه الواسع بعد ثورة إعتبرها العالم بأسره مبهرة وناجحة.

فضلا عن ذلك، فإن دستور 2014 جاء بنظام سياسي هجين وغير مألوف في البلاد العربية، نظام "المنزلة بين منزلتين" الذي لم يراعِ الخصوصيات الثقافية والتاريخية للمجتمع التونسي..نظام لا رئاسي ولا برلماني، إذ ظهر جليا بالممارسة أن لا أحد يحكم فعلا، حتى أن خبير القانون الدستوري اللامع الأستاذ أمين محفوظ وصف النظام المنبثق عن الدستور التونسي بصيغة لا تخلُ من طرافة لكنها تُخفي مأساةً حقيقية عندما قال:"أنا لا أحكم.. أنت لا تحكم.. ولا نترك من يحكم"!

فلا رئيس الدولة الذي يحظى بشرعية سياسية لا يظاهيه فيها أحد، بحكم أنه منتخب عبر الاقتراع المباشر من الشعب، ولا رئيس الحكومة الذي يُفترض أنه يمثل الحزب أو التحالف الأكبر في مجلس النواب من حيث عدد المقاعد ويكون مسنودا بأغلبية برلمانية متماسكة ومتجانسة، يمسكان فعلا بزمام الأمور ومقاليد السلطة، لأن السلطة الحقيقية بقيت مشتتة بين الأحزاب السياسية الحاكمة، وخصوصا منها الحزب الذي يملك أكبر عدد من النواب في البرلمان، فهو المهيمن على المشهد السياسي وعلى حلفائه الظرفيين الذين يتحولون شيئا فشيئا إلى شبه أتباع!

إلى جانب ذلك، فإن الدستور التأسيسي لم يساهم في إصلاح منظومة الحكم المهترئة والفاسدة، ولا في ترسيخ الحريات الفردية والعامة ولا في تكريس التعددية الحقيقية والتداول السلمي والنزيه على الحكم ولا في إعادة هيبة الدولة وسلطة القانون وإصلاح الإدارة العمومية...لا بل إن الذين وضعوه كانوا أول مُنْتهِكيه دون اكتراث من أحد، في عدم التزامهم بما ينص عليه من ضرورة استكمال إرساء المؤسسات الدستورية في آجال محددة وعلى رأسها المحكمة الدستورية التي لم يعد خافيا على التونسيين أن غيابها عن المشهد أمر مُدبَّرٌ ومتفق عليه بين أحزاب الحكم خلال الولاية التشريعية السابقة..ولا يلوح في الأفق أي مؤشر على أن البرلمان الحالي سيختلف عن سلفه في هذا المجال!

كما أنكم تعلمون جيدا أيها السيدات والسادة أن النظام الإنتخابي قد تم وضعه، هو أيضا، على أساس  حسابات سياسية وفئوية ضيقة من أجل تكريس هيمنة التيارات والأحزاب الأكثر تنظيما وانتشارا وإمكانات مالية دون أن تكون لأيٍّ منها القدرةُ على نيْلِ الأغلبية التي تخوله الحكم بمفرده أو تشكيل أغلبية حكومية متجانسة على أساس البرامج والرؤى المشتركة، وليس على أساس مجرد الاتفاق على المشاركة في الحكم.. بعد إجراء الإنتخابات!

فضلا عن ذلك، فإن اعتماد نظام تصويت نسبي على أساس القوائم الحزبية أو المستقلة في بلد أصوات الناخبين فيه مشتتة ويعاني من عزوف كبير للمقترعين عن أداء واجبهم لا يمكن أن يُفرز سوى فسيفساء سياسية وحزبية غير قابلة لا للتكامل ولا للتجانس ولا حتى هي قادرة على الحكم… إنها متواجدة في المشهد لمجرد التواجد والإستفادة من مغانم السلطة..بفضل ما يسمى في نظام القوائم "أكبر البقايا" والذي يخول لنائب ما الفوز بمقعد في مجلس النواب، وهو لم يحصل سوى على بضع عشرات من أصوات الناخبين!

أتعلمون أن هناك اليوم في مجلس نواب الشعب 54 نائبا فقط من مجموع 217 نائبا فازوا بمقاعدهم بعد توفر الحاصل الانتخابي لديهم، أي أنهم تحصلوا على عدد من الأصوات يساوي إجمالي الأصوات المطلوبة للحصول على المقعد الدائرة انتخابية. أما البقية، أي ثلاثة أرباع أعضاء البرلمان، فقد فازوا بمقاعدهم بفضل "أكبر البقايا"! أليست هذه مهزلة سياسية وتحريف سافر لإرادة الناخبين؟

ومن المعلوم لكم جميعا منذ 2011 أنه باستثناء حزب حركة النهضة، لا يوجد في المشهد السياسي الوطني حزب واحد له مخزون انتخابي مستقر في كافة جهات البلاد يتراوح بين 15 و20% من النسيج الإنتخابي أو إجمالي أصوات الناخبين المسجلين يضمن له على الدوام وفي كل الإستحقاقات الإنتخابية بين ربع وثلث مقاعد البرلمان بفضل نظام القوائم النسبية.

لذا، فإن مآل الإنتخابات في بلادنا أصبح معروفا مسبقا، ويكفي أن يكون لأي حزب سياسي مؤسسة لسبر الأراء تتحلى بالمصداقية والمهنية ليعرف حقيقة حجمه في المشهد السياسي إلى جانب حركة النهضة التي يصعب على أي حزب إزاحتها من موقع الصدارة (نداء تونس عام 2014 كان الإستثناء الذي صنعه الباجي قايد السبسي، لكن أين هو نداء تونس اليوم؟).

وبالتالي، فإن القولَ إن المشهد السياسي التونسي تحول إلى "ديمقراطية بلا ديمقراطية" أو إلى ديمقراطية صورية من أجل تزيين الواجهة والتغطية على خراب الخلفية، هو جوهر الحقيقة وليس مجانبا للواقع المزري بسبب الممارسات المنحرفة في بلادنا، لأنه تبيّن جليّاً أن المشاركة السياسية للمواطن التونسي تقتصر اليوم على مجرد الإدلاء بصوته من انتخابات إلى أخرى. بعد ذلك، له الله!

وَلَوْ تساءل كل واحد منا هل لديه قناعة أن صوته ساهم بدرجة أو بأخرى في إحداث التغيير المنشود نحو الأفضل؟ وهل أن المرشح الذي منحه صوتَه أهلٌ لتلك الثقة؟ سوف نجد أن الجواب لن يكون إلا  تجسيدا لما يتقاسمُه التونسيون بكافة أطيافهم من مرارة وإحباط وغضب..ونفور تام من الشأن العام والمشاركة في الإستحقاقات الإنتخابية. أرأيتم كيف أصبح الناخب التونسي بمثابة شاهد الزور على التلاعب بالانتخابات ولماذا نَفَرَ من السياسة و مَقَتَ السياسيين وفقَدَ الأمل في كل شيء؟ 

على صعيد آخر، اسمحوا لي أيها السيدات والسادة أن أسألكم: هل أن الديمقراطية في بلادنا تُترجم بعدد الأحزاب الموجودة على الساحة السياسية؟ وألا تعتقدون أن استمرار العمل لسنوات بالمرسوم عدد 87 لسنة 2011، دون أن تتوفر في مجلس نواب الشعب طيلة ولاية تأسيسية وأخرى تشريعية إرادة سياسية لتغييره أو إقرار قانون متكامل للأحزاب والتنظيمات السياسية، قد أفقد المشهد السياسي أي مصداقية وحوَّله الى مسرح كئيب للتهريج والتجاذبات والمزايدات، وأصبحنا نقف مشدوهين أمام المهازل المخجلة التي تقع تحت قبة مجلس نواب الشعب!

فما رأيكم في تواجد أكثر من 220 حزبا في بلد تحكمه فقط بين 4 أو 5 أحزاب وأقل من 10 منها ممثلة في مجلس النواب! (لو أحصينا الفاعلين الحقيقيين في المشهد السياسي الذين يعرفهم الرأي العام ونراهم في وسائل الإعلام ببرامج الشأن العام لما وصل عددهم إلى 220 أو حتى إلى 100!).

وما جدوى هذا الكم الهائل من الأحزاب والدكاكين السياسية المعطلة؟ ولماذا كل هذا التساهل والتسيب في منح التراخيص لكل من هبَّ ودب؟ أليس وراء ذلك أهدافا خفية لتشتيت المشهد السياسي العام أقصى ما يمكن؟ ألسنا قادرين على اعتماد قانون أحزاب يجمع ولا يُشتت، يبني ولا يهدم، قانون يكون أكثر تشددا في منح التراخيص ويتحلى بالصرامة المطلقة في ضرورة الكشف عن مصادر التمويل وعدد المنخرطين والعلاقات مع الخارج؟ قانون يقضي على ظاهرة "السياحة الحزبية" التي تُكَرِّسُ التخلف والانتهازية وخداع الناخبين، ويفرض على كل نائب منتخب يريد الإنتقال من كتلة برلمانية إلى أخرى أن يستقيل من مقعده ويخوض الانتخابات الجزئية على نفقته الخاصة؟

هذا أيها السيدات والسادة وضعنا السياسي والتأسيسي القاتم. أما على الصعيد الإقتصادي، فالأوضاع اكثرُ سوء والصورة أكثر قتامة وبؤسا. إنكم تعلمون أن معظم خبراء الإقتصاد سواء في تونس أو في الخارج من العارفين بالشأن التونسي والمتابعين له، يُجمعون على أن معضلة بلادنا الكبرى تتمثل في المنوال التنموي العقيم والمنوال الاقتصادي الريعي الذي اعتمدته الدولة منذ السبعينات بعد الفشل الذريع الذي مُنيت به تجربة التعاضد. وهم يؤكدون بلا لُبس أن هذا المنوال الذي انخرطت فيه البلاد التونسية منذ أواسط الثمانينات مع برنامج الإصلاح الهيكلي لصندوق النقد الدولي، مثَّلَ ارتهانا للاقتصاد الوطني للأقطاب العالمية وللمؤسسات المالية الدولية، حيث أصبح اقتصادُنا تابعا ولا يستقطب سوى الاستثمارات الهشة ذات القيمة المضافة الضعيفة وذات الطاقة التشغيلية المحدودة على حساب الإستثمار الوطني والحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشغالين.

 

كما أفرز ذلك المنوال تفاوتا في نسق النمو الاقتصادي والاجتماعي بين جهات البلاد نتج عنه غياب للعدالة الاجتماعية وبطالة مرتفعة وتراجع للطبقة الوسطى وتعميق للتباعد الطبقي بين من يملكون كل شيء ومن لا يملكون أي شيئ، علاوة على الانعكاسات السلبية لهذا الخيار مثل صعوبة فرض سيادة القانون من أجل ضمان حسن التسيير والحوكمة الرشيدة وتكريس الشفافية في المعاملات.

 

وتعلمون أيها السيدات والسادة أن أيا من الحكومات التي تعاقبت على إدارة البلاد منذ 2011 تجرأت، ولو لمجرد المحاولة، على الشروع في تصحيح هذا المنوال العقيم وعلى إعادة النظر في الخيارات الإقتصادية والتنموية البالية التي تجاوزها الزمن ونتج عنها تردي مستمر ومتصاعد  للإقتصاد الوطني و اختلال للتوازنات المالية وانهيار في قيمة العملة الوطنية...

 

كما نتَجَ عنها تحكمُ فئة صغيرة جدا من أصحاب المال والأعمال (وطنيين و أجانب) في مكامن الإقتصاد الوطني ومفاصله، وبلغت تلك الفئة من النفوذ ما جعلها قادرة متى شاءت على التأثير المباشر في القرار السياسي الوطني، فأصبحت الحكومات المتعاقبة إما خاضعة لإرادة بعض المصالح المحدودة التي لا علاقة لها بالمصلحة الوطنية أو مقيدة اليديْن تدور حول نفسها، ولا تملك قدرة على الإصلاح ولا على تلبية ولو الحد الأدنى من انتظارات الناس في التشغيل والسكن والصحة وتحسين القدرة الشرائية وتطوير الخدمات العمومية وإيجاد حلول للصعوبات الهيكلية المتراكمة والمعضلات التي تكبل قدرات البلاد.

 

لا بل إن الأزمة الخانقة التي تعيشها الدولة وهيمنة مجموعات الضغط والنفوذ على المشهد هيمنة تكاد تكون مطلقة، كبلت قدرات البلاد وأثقلت كاهل المستثمرين والموظفين وعموم المواطنين بالضرائب الإضافية والأداءات الجبائية المجحفة، وباتت أسعار المواد الاستهلاكية والسلع والخدمات جحيما تكتوي به يوميا العائلات المعوزة والمتوسطة الدخل، وتعطلت وتيرة الاستثمار وحلت المواد المستوردة محل بعض السلع المنتَجَة محليا، وأسفرت المضاربة التجارية والاحتكار وسوء الإدارة في تنظيم مسالك التوزيع عن فقدان الأدوية في الصيدليات وشح في المواد الغذائية الأساسية، وتدهورت أوضاع الشركات العمومية وبلغت الحكومة وبعض أجهزة الدولة درجة من الوهن جعلتها لا تكترث بالمظاهر المخلة بالقانون والإقتصاد الوطني مثل الارتفاع المخيف للعنف المدني والجريمة المنظمة والتسيب الإداري وتفشي التهريب والتجارة الموازية.

 

ولولا حرص الأجهزة الأمنية والعسكرية والجمركية على التصدي بالحزم الممكن وبالوسائل المتاحة إلى كافة مظاهر التسيب والتلاعب بالقوانين ونفوذ اللوبيات، لانفرط عقد الإقتصاد الوطني، رغم أن تلك الأجهزة تفتقر الى الوسائل والأدوات التقنية واللوجستية المطلوبة للقيام بعملها على أكمل وجه.

 

أيها السيدات والسادة، إن الرهانات المفصلية والمعضلات المزمنة التي تواجهها بلادنا والتي أصبحت تهدد كيانها، بعد أن زاد الطين بلّة هذا الوباء المميت الي ابتُلينا به مع باقي دول العالم والذي تسبب في شل الحركة الإقتصادية وبث الرعب في نفوس الناس، تحتِّمُ علينا جميعا، حكاما ومحكومين، أيا كان موقعنا وأيا كان انتماءنا، التحلي بأعلى درجات المسؤولية والإلتزام والوطنية كي لا تنزلق الأوضاع في بلادنا بين عشية وضحاها نحو الأسوأ، نحو الإنفجار والفوضى العارمة لا سمح الله.

 

فمؤسسات الحكم في بلادنا كما تروْن تعمل بمعزل عن بعضها البعض وتكتفي بالشكليات البديهية التي تعتقد أنها تُطمئن بها التونسيين وهي في حقيقة الأمر تغالطهم بها وتخدعهم (هل يحتاج رئيس الجمهورية أن يُذكِّر الناس في أكثر من مناسبة بأن في تونس رئيسا واحدا للداخل والخارج!)، والعلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب تبدو اليوم وكأنها على صفيح ساخن ومتجهة نحو تصعيد خطير على استقرار منظومة الحكم!

 

كما أن الحكومات المتعاقبة لا تتردد في توظيف مؤسسات الدولة وأجهزتها من أجل تصفية حسابات سياسية خاصة أو تحقيق أهداف وطموحات شخصية أو حزبية، فضلا عن توظيف التوترات الاجتماعية والنقابية لتصبح أداة للمواجهة بين الفرقاء السياسيين، هذا طبعا إلى جانب أن معظم التعيينات في المناصب السامية والحساسة بالدولة تتم على أساس المحاصصة الحزبية والولاءات الشخصية والحزبية دون غيرها.

 

أيها السيدات والسادة، إلى متى في رأيكم سيصبر التونسيون على كل هذه الرداءة وهذا الوهن وهذه الكروب التي تُثقِل كاهلهم وتنغص حياتهم وتهدد مستقبل أولادهم ومناعة وطنهم؟ وكيف السبيل للخروج من هذا البؤس وهذه العتمة؟ وهل ما زال لأصواتنا ومشاركتنا في الإستحقاقات الإنتخابية معنى أو قيمة؟ ومن سيضمن لنا أن الولاية الرئاسية والتشريعية الحالية ستكون أفضل من سابقتها وستحقق للتونسيين بعض أمانيهم وتطلعاتهم في توفير حرية حقيقية وكرامة حقيقية وديمقراطية حقيقية وتنمية حقيقية...لأن كل ما رأيناه منذ 10 سنوات وما قبلها، ليس سوى الزيْف والغبن والكذب والفشل الذريع في كسب ثقة الناس وتحريك المياه الراكدة وإصلاح ما أفسدته الجهالة والأنانية والحسابات الفئوية الضيقة والاستخفاف بالإنسان التونسي والولاء لغير هذا الوطن.

 

لكن الأسئلة المصيرية الأخطر والأهم التي أطرحها عليكم، وأرجو أن تتسع صدورُكم للتمعن فيها بكل أمانة هي: إلى متى، تحت غطاء الشرعية الأجوف، سنواصل العمل بهذا الدستور الأبتر الذي يحتاج إلى مراجعة معمقة؟ وإلى متى سيظل التونسيون خاضعين في التعبير عن إرادتهم والمشاركة في تسيير شؤون بلدهم لقانون انتخابي يتلاعب بأصواتهم ويزيِّف إرادتهم؟ وإلى متى ستظل بلادنا مكبلة بمنظومة حكم هجينة لا رئاسية ولا برلمانية؟ لا رئيس الجمهورية يحظى فيها بصلاحيات تتناسب مع الثقة التي وضعها التونسيون في شخصه أو مع الإرادة الشعبية الحاسمة التي أوصلته إلى المنصب؟ ولا رئيس الحكومة يملك فيها حَيِّزا من المناورة من أجل إيجاد الحلول العاجلة للمشاكل الملحة وإقرار السياسات التي تستجيب لتطلعات التونسيين وانتظاراتهم؟ لأنه لا يمكنه الخروج عن طوع الأغلبية البرلمانية المؤازرة لحكومته ولا عن إرادة "أسياده" رؤساء الأحزاب المشكلة للائتلاف الحكومي حتى وإن انعدَمتْ بين تلك الأحزاب أي قواسم مشتركة مسبقة لتتواجد في الحكم مع بعضها البعض! أليست الديمقراطية هي سلطة الشعب؟ لماذا انحرفت في بلادنا إلى سلطة الأحزاب التي لا تمثل إلا نفسَها؟

 

وإلى متى سنظل صامتين مثل شهود الزور على التكاثر المشبوه للأحزاب السياسية الذي لوث المشهد العام وساهم في اختلال التوازنات الفكرية بين مختلف المشارب السياسية واضمحلال تيارات بأكملها وعلى رأسها اليسار التونسي الذي تتحمل قياداته مسؤولية تاريخية جسيمة في إزاحته من المشهد وغيابه الكلي عن مجلس النواب وعموم المشهد السياسي؟ هذا علاوة على التجاوزات التي ترتكبها بعض تلك الأحزاب في الكشف عن مصادر تمويلها وعدد منخرطيها وارتباطاتها بالخارج؟

 

الأكيد أن التونسيين ضاقوا ذرعا بكل هذا النحس وهذه الرداءة وما عاد بوسعهم أن يصبروا عليْكم ولا على كل هذه المحن إلى ما لا نهاية. ومثلما نفذ صبرُهم واقتلعوا ذات يوم منظومة الحكم السابقة من جذورها، فإنهم قادرون على كسر شوكة كل المختالين المزهوين ببهرج السلطة والملتحفين بلحاف الشرعية، وهو اليوم لحاف مدنس بالرياء والبهتان و بكلمة حق يُراد بها باطل.

 

فلا شرعية تبرر اهتراء منظومة الحكم بهذه السرعة في ظرف زمني وجيز وتفتُّتها، وهي التي يفترض أنها تعبر عن إرادة الشعب، ولا شرعية تبرر الإصرار على التمسك بنظام فاشل وعقيم تُجمع شرائح واسعة من التونسيين على ضرورة  تغييره وإصلاحه، لا بل إن بقاءه كما هو بات يمثل خطرا على ما تبقى من وحدتنا الوطنية وعلى مستقبل بلادنا، لأن الناس لن يصبروا خلال السنوات الخمس المقبلة على ولاية تشريعية ورئاسية أخرى زائفة ومخادعة على غرار التي سبقتها، ما دامت الوجوه هي نفسها والممارسات والأفكار هي نفسها والأحزاب هي نفسها وإن تغير أسماء بعضها، لأن ذلك سيقود البلاد إلى التهلكة.

إن التونسيين أيها السيدات والسادة في معظمهم يتطلعون إلى آفاق أرحب، إلى الضوء الساطع بدل هذا الظلام الدامس، إلى التفاهم (الحقيقي) بدل الشقاق والنفاق والمواربة، إلى ما يُطَمئِنُ قلوبهم على مستقبل أطفالهم ومستقبل وطنهم، إلى وطن ذي عزة ومناعة يسوده العدل والحرية والرخاء ويطيب فيه العيش، إلى دولة فاعلة وفعالة...لذا، فإن المسؤولية الملقاة على عاتقكم  جسيمة وتاريخية من أجل إيجاد أفضل السبل للشروع في إصلاح ما يتوجب إصلاحه وتعديل ما يجب تعديله وفق ما تقتضيه المصالح العليا للبلاد. لقد طفح الكيل و طــــال الإنتظار!

 

إن المسؤولية هنا تقع بالدرجة الأولى على كاهل السيد رئيس الجمهورية الذي أبدى في السابق وما يزال تحفظات واعتراضات على الخيارات التي سادت المشهد السياسي منذ 2011، وعلى كاهل السيد رئيس مجلس نواب الشعب، خصوصا وأن حزبه حركة النهضة الذي كانت له أغلبية مريحة من النواب في المجلس التأسيسي، يتحمل القسط الأكبر من المسؤولية في الخيارات التي تم إقرارُها في القانون الانتخابي وفي الدستور بشأن منظومة الحكم والفصل بين السلطات.

 

والأستاذ الغنوشي يملك من التبصُّر والتجربة والحس السياسي ما يجعله لن يتردد في الإقرار بعدم صواب بعض الخيارات وبضرورة مراجعتها وتغييرها بما يخدم المصلحة الوطنية، لأنه أول من يعلم أن السلطة زائلة وأن التاريخ لا يرحم وأن هذا الوطن المُبتَلى وهذا الشعب الصابر على البلاء يستحقان أفضل مما أنجزته حكوماته ومؤسساتُه المتعاقبة ونخبتُه السياسية (بكافة أطيافها) خلال السنوات العشر الماضية.

 

كما تقع المسؤولية على كاهل الأحزاب الشريكة في الائتلاف الحكومي والأحزاب الممثلة في البرلمان والمنظمات الوطنية مثل اتحاد الشغل واتحاد الأعراف واتحاد الفلاحين واتحاد المرأة ورابطة حقوق الإنسان ونقابة الصحفيين ومنظمات المجتمع المدني وخبراء القانون الدستوري… الذين يجب أن يكونوا شريكا كاملا و فاعلا في عملية الإصلاح السياسي.

 

والمهم أن تصدق النوايا وتنهض العزائم وأن نتحلى جميعا بالتواضع ونكران الذات والوطنية الحقة لتكون هناك أمام التونسيين في أقرب فرصة ممكنة، ولم لا قبل نهاية هذا العام؟ إذا ما تركت لنا جائحة كورونا مجالا لالتقاط أنفاسنا، مبادرةٌ وطنية تلبي طموحات التونسيين وتُشركُهم في مسيرة إصلاح سياسي شامل تعبِّد الطريق أمام إصلاحات إقتصادية واجتماعية جذرية.

 

والمهم أيضا أن تتجدد الشرعية السياسية في بلادنا على أساس الثقة المتبادلة والتطلع إلى المستقبل بكل ثبات وإصرار على الإنجاز، بعيدا عن الشكوك والتجاذبات والجدل العقيم والولاءات الضيقة، وأن تعود للتونسيين المشروعية وسلطة الإختيار لاستفتائهم الحر والمباشر على النظام الانتخابي الذي يناسبهم ونظام الحكم الملائم لبلدهم، إن أردواه رئاسيا أم برلمانيا، والإصلاحات الدستورية المأمولة بما يُلبي طموحاتهم نحو قيام دولة عزيزة وعادلة ومنيعة...وإلا فإن الخطر داهم والفتنة استيقظت والوطن مقبل على زلزال.

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter