alexametrics
أفكار

نوال السعداوي رحيل امرأة جسورة وشجاعة

مدّة القراءة : 3 دقيقة
نوال السعداوي رحيل امرأة جسورة وشجاعة

 

سيماء المزوغي

 

كلما أتذكّر صورة نوال السعداوي في ذهني، أراها امرأة لا تغادر حلبة القتال مطلقا، ولا تخشى الضربات من كل جانب، امرأة لا تخاف ولا تتراجع أبدا.. كأنّ التمرّد محقون في جيناتها، جلي في حياتها وكتاباتها.. بل وأكثر من هذا متصالحة مع ذاتها وتأبى أن تعيش حياة مليئة بالزيف..  صورة ربما اتفق الجميع على بعض من نقاطها: امرأة غاضبة باستمرار، ولا تستسلم أبدا.. ومواصلة في أمر الصورة،  وفي السنة الماضية أدرجتها مجلة التايمز الأمريكية ضمن قائمة أكثر 100 امرأة تأثيرا، فكانت صورتها تتصدر الغلاف الخارجي.

ربما كانت للخطيئة الكبرى أثر عميق في حياة نوال، أثر أخرجته للسطح بعد سنين، هو الأثر عينه الذي حاربته بشدّة.. فعندما كانت في عمر السادسة خضعت لعملية ختان، بينما كانت والدتها تبتسم.. لعلّها الخطيئة الكبرى.. فلا عجب أنها حاربت ممارسة ختان البنات في مجتمعها بشراسة، واعتبرتها ممارسة لقمع النساء وقهرهن.

كان ملاذها الوحيد الكتب، فقد كتبت روايتها الأولى في عمر الثلاثة عشرة، لعلّها وجدت حياة ما في الكتابة والكتب، فنوال أيضا هي الإبنة الثانية بين تسعة أبناء.. بعد ذلك حاولت عائلتها تزويجها طفلة في عمر العاشرة، ولم ينجح الأمر هذه المرّة ولم تتزوج، بفضل مساندة والدتها.. واصلت تعليمها وهي تدرك جيدا أنّ كل التقدير للأبناء لا للبنات..

واصلت تعليمها وتخرّجت من كلية الطب بجامعة القاهرة في الخمسينات ثم عملت طبيبة أمراض صدرية،  ثم تخصصت في الطب النفسي..  عندما عملت طبيبة لم تستمع إلى ألم أجساد النساء فقط بل إلى حكاياتهن ومعاناتهن، لاحظت كطبيبة أثر الممارسات القمعية التي تتحمّلها المرأة من مجتمعها.. كتبت نوال "المرأة والجنس" وفضحت ممارسة تشويه الأعضاء الجنسية للمرأة، وأدانت ختان البنات.. فأخرجت من عملها كطبيبة، بل وأغلقت حتى مجلة الصحة التي أسستها، والتي كانت المتنفس لها للتعبير عن أرائها التي يرفضها المجتمع وتستنكرها السلطة وتكفّرها دار الإفتاء..

كل هذا لم يثن المحاربة نوال السعداوي، بل كانت تحتكّ مع الموت كلّ مرة..  وحدث أن التقت يوما ما إمرأة تدعى فردوس، امرأة تعيش حياة تشوبها "الخطيئة والأحلام والصدق والانهزام الأنثوي" كما تقول نوال، إمرأة محكومة بالإعدام ، امرأة تشبه كل النساء، كابدت أشكال وأنماط  تعنيف وقهر المجتمع ومن خلفه الرجل للمرأة جسديا ونفسيا، حتى أتى موعد الخلاص، خلاصها وتحرّرها من معنفها، يوم قتلته، بالتالي أسقطت جلادها، وتحرّرت..  فكانت راوية "إمرأة عند نقطة الصفر" راوية أخرى لنوال التي وضعت إصبعها على العنف المسلّط على النساء بكل مستوياته..

ثم بدأت راوياتها تنهمر، لم تترك حيفا يمارس ضد المرأة لم تتناوله أو تحاربه أو تفضحه، ولم تنس كطبيبة وكامرأة جرائم الاعتداءات الجنسية وما يسمى بجرائم الشرف.. وكانت في كل هذا تواصل القتال في حلبتها.. تلك الحلبة التي لا تنتهي.. فطريق الحرية محكوم بالكفاح والقتال..

صدحت بآرائها السياسية وكانت من معارضي الرئيس المصري أنور السادات، كانت تتكلّم عاليا ولا تأبى شيئا، اعتقلت وسجنت.. عندما تروي نوال حياتها داخل السجن لا تنسى أن تقول أنها كتبت مذكراتها باستخدام مناشف ورقية وقلم لرسم الحواجب هربته إليها عاملة جنس سجينة. حتى بعد خروجها من السجن ابان اغتيال السادات، بقيت تحت الرقابة، كل شيء يخضع للرقابة نشاطها، تحركاتها، كتاباتها.. فقط كانت أفكارها كما إرادتها حرّة..

 عندما تصدح بآرائها السياسية لا تواجه عنجهية الحاكم  فقط إنما غطرسة الرجال، خصوصا غطرسة من يدّعون الحداثة أيضا، لعل نوال كسرت رمزيا  جزء من ريشة نزار قباني، عندما خاطبته في توأم السلطة والجنس، قائلة: في بلادنا يقول بعض الرجال منهم نزار قباني أن السياسة تفسد جمال المرأة وتحوّلها إلى حيوان سياسي مثل الرجل يشتهي السلطة والمال و العنف، إلا أنهم يعيبون على المرأة العربية تقاعسها عن الانخراط في الحياة العامة السياسية، فإذا سمعت المرأة كلامهم وانخرطت في السياسة أصبحت في نظرهم بلا جمال و بلا أنوثة. أليس هذا هو أحد تناقضات المجتمع الطبقي الأبوي؟ ..

كانت نوال تؤمن بنفسها دون قيد أو شرط وتستشرف وطنا ترأسه إمرأة يوما ما، حتى أنها ترشحت في الانتخابات الرئاسية في مصر عام 2004، وكانت تعلم أنّ الحركة رمزية لا غير.. والحلم مشروع إلى أن يتحقّق ..

وعلى مرّ السنين واجهت نوال الغاضبة دوما تهديدات الماضويين والرجعيين والمغاليين، وصلت إلى تهديدات بالقتل، ورُفعت ضدها دعاوي قضائية،  ولم تأبه حتى أنها تقول لا يشعر الإنسان بالخطر إلا وهو خارجه، فإذا ما أصبح في قلب الخطر صار جزاء منه ولم يعد يشعر به، هكذا دائما هي في قلب الخطر.. فتحت بعد ذلك النار على ارتداء الحجاب في مجتمع يعتبر جسد المرأة ملكا له، وكانت في آن تدعو النساء  لقبول صورهن دون استخدام مساحيق التجميل، في الحقيقة حاربت نوال مساحيق التجميل وعمالياته بالضراوة نفسها التي حاربت بها ارتداء الحجاب.. بل وانتقدت بشدّة ارتداء الملابس الخفيفة للمرأة، وكان هذا مربك للعديد من النساء..  ربما كانت نوال تذهب إلى الأقصى أحيانا،  ربما لأنها لا تأبه للأمور بقدر ما تعني رمزية الأشياء.. فالمرأة يجب أن تحبّ نفسها كما هي دون مساحيق للتجميل، في الفضاء العام والخاص.. أمام من تحب ومن لا تحب.. وتلك جرأة لا تمتلكها الكثير من النساء..

"لقد أصبح الخطر جزء من حياتي منذ أن رفعت القلم وكتبت. لا يوجد ما هو أخطر من الحقيقة في عالم مملوء بالكذب"، هكذا قالت وكتبت وعاشت، شجاعة حتى الرمق الأخير.. كافحت نوال السعدواي  باسم الحرية والعلم والإنسان، كل قيود الجسد الأنثوي، وكانت تصدح برأيها بكل شجاعة ولا يهمها بالمرّة أن تصدم بغضب من لا يفهمون الحرية..

في الحقيقة لا يمكن أن نختزل ما أمنت به نوال في بعض الأسطر هنا، لا يمكن أن نختزل معاركها وكتابتها لنصرة المرأة وتحريرها، ولإعلاء ثقافة حقوق الإنسان ومن كانوا على الهامش دوما.. لا يمكن أن نختزل مئات من الحكايات والمقابلات والروايات والمحاضرات والشهادات.. ولكن ما بقي، أنّ نوال السعداوي كانت إمرأة استثنائية وشجاعة حتى الرمق الأخير، أثّرت في كل إمرأة حرّة وفي كل إنسان يحارب قيوده.. لم تخش الاختلاف وكانت جسورة للغاية..

 

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter