alexametrics
أفكار

ورقة "مفهوماتية "و منهجية حول مطلب اصلاح العدالة

مدّة القراءة : 5 دقيقة
ورقة

 

بقلم عياض الشواشي*

مرة اخرى ، و دون سابق إشعار ، يكتسح موضوع العدالة   الفضاء العام عبر وسائط الإعلام المتعددة  "المكررة " ،مع الوفاء لمنهجنا الاصلي و الأصيل: الاكتفاء بالطواف حول تخوم الموضوع في حركة دائرية "ممغنطة "كلما تكررت  تعمق جهلنا بالموضوع...و لنضيع مفاتيح الموضوع كلما تجادلنا بمناسبته او حوله... اليوم يعود موضوع العدالة ليشد الاهتمام لا بمناسبة عرض البرامج الإنتخابية و الإصلاحية بل مرة اخرى بمناسبة احداث متفرقة،قصوى و خطيرة  ...والتي و على خطورتها تتم معالجتها بمقاربة المستوصفات العمومية...و التطبيب بالحجامة و الحبة السوداء...

تجهز البلاطوهات التلفزية،ذات اعلى درجات الفقر المنهجي و المعرفي، ( و بأردئ الاعلاميين و المحللين السياسيين) ،بقلادياتورات الدفاع عن الحكومة و هركولات معارضيها، لا لتقديم قيمة معرفية مضافة للمتلقي ، او لانضاج الرؤى حول الإصلاح و تحديد أدق مناهج التشخيص العلمي لمواطن الخلل و الإخفاق ، بل للانتصار لأحد أطراف  الصراع السياسي...اي لا يطرح موضوع العدالة و إصلاحها إلا  بمناسبة حدث سياسي مؤثر ، و بأفقر اشكال البراغمتية ...

إن المتأمل في مسار تعاطي السلطة السياسية بمختلف مكونات طيفها _تقريبا _ يقف على تهميش متعمد لمسألة إصلاح العدالة او في أحسن الأحوال جهلا بائسا يرتب ارتباكا مستمرا في نسج الخطط استراتجية و البرامج العملية للخروج من حبر الشعارات الفضفاضة إلى غبار الهدم و التأسيس...و هو ما لمسناه منذ مناسبات التنظيم المؤقت للسلط العمومية و لحظة التأسيس الدستوري مرورا بازدراء خبراء هيئة الاستاذ عياض بن عاشور لموضوع العدالة و اجهزتها....

أول اسباب الإخفاق اذا معرفية ...و للاستدلال على ذلك يكفي أن نراجع فقر  قائمة الاطروحات و البحوث و الدراسات العلمية في كليات الحقوق و العلوم السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية و الإنسانيات و الفلسفة حول موضوع العدالة تأسيسا و إدارة و اصلاحا...

ثاني أسباب الإخفاق:

هو السلوك السكتري المرضي لطيف واسع من المنتمين للمهن المكونة لجهاز العدالة من  كتبة و قضاة و محامين و عدول و خبراء عدليين...و ذلك لاصرارهم العبثي على التعاطي مع الموضوع من منظور قطاعي صرف و تهميشهم لدور الحكماء الذين ما انفكوا يسعون منذ نصف قرن،على تعاقب الاجيال،إلى ايجاد أطر مشتركة تمثل حدا ادنى معقولا ،لانضاج الرؤى و المناهج حول إصلاح العدالة و توجيه غلتها لمطلب العدل و سيادة القانون و تشكيل الإنسان/المواطن مكتمل الكرامة حقوقا و حريات....مثلما ظهرت بوادر ذلك المنهج على عهد العميد عبد الستار بن موسى و الهيأة الشرعية لجمعية القضاة ....تلك المكونات التي فوتت على نفسها فرصة إعتماد منهج تأليفي شمولي و انصرفت لوهم تحصيل المنافع القطاعية عبر دكاكين تشريعية لا تؤسس لعدالة ترتقي إلى درجة السلطة الدستورية:مرسوم المحاماة،قانون المجلس الاعلى للقضاء،قانون عدول التنفيذ،قانون الخبراء العدليين ،قانون المصفين و المؤتمنين العدليين،النظام الاساسي لكتبة المحاكم،الانظمة الأساسية للقضاة، قانون التفقدية العامة للشؤون القضائية، قانون الإعانة العدلية....و هي نصوص عولجت في مجملها بمنظور قطاعي ضيق مثير للبكاء المر...

ثالث اسباب الإخفاق(و اخطرها على الإطلاق ):

ازدراء الحكومات المتعاقبة للعدالة و الوقوف وراء تفجير التناقضات بين مختلف الهياكل الممثلة لمكوناتها و شيطنة اصوات الحكمة صلبها و  إرساء سياسة "ديبلوم الحرف " في ادارة أعمال لجان الإصلاح...تذكيرا بافتقار اغلب الحكومات المتعاقبة منذ سنة 2011 لتصورات حقيقية و عميقة حول إصلاح العدالة...و تذكيرا بان كل اللجان التي شكلتها وزارة العدل هي لجان لم تنفتح في تركيبتها على اصحاب اختصاص التصور و النمذجة كعلماء الإجتماع و السياسة و الفلسفة و اقتصرت على تقنيي القانون من محهامين و قضاة و اساتذة قانون إلخ...و لم تنطلق اي منها من دراسات تأليفية علمية للتشخيص او الفاعلية او الجدوى و القابلية للإنجاز...

الأخطر من ذلك انها لعبت على وتر القطاعية و الإسفاف و ضرب سمعة الهياكل الشرعية و الجدية بأذرع اعلامية تافهة و رخيصة مما ساهم في تكثف صعود الأفكار الشعبوية ضمن مكونات العدالة تحت يافطات المعارك الطفولية المثيرة للإشمئزاز....دون الوعي بخطورة تصفية الوسائط المهنية الجدية و المحترمة كالهيئة الوطنية للمحامين و جمعية القضاء و مخاطر سحب البساط من تحتها في تأطير منظوريها خاصة من الناحية "الديونطولوجية " و تبخيس دورها في تمتين وعي القضاة و المحامين اساسا بأهمية التشبع بقيم الجمهورية و مركزية منظومة الحقوق و الحريات و سيادة القانون...و مغادرتهم نهائيا لمرتبة القاضي الموظف العمومي و المحامي بائع الخدمة القانونية...و هو ما ستدفع السلطة التنفيذية فواتيره  الثقيلة إن عاجلا او آجلا...عندما ينقلب السحر على الساحر...القاضي الموظف العمومي الذي تشكل عبر ترسبات ممارسات تاريخية لدولة الإستقلال استماتت منذ مسودة دستور 1959 ، بمستوى معيشي تعيس و دماغ محشو بثقافة "سيدي حاضر يا شكاية " ، و بحث بافلوفي على الاستكانة تحت جناح السلطة التنفيذية خوفا و طمعا...

رابع أسباب الإخفاق:

بؤس منظومة الانتداب لمنتسبي المهن القانونية و القضائية و ضعف فلسفة مناهج تكوينهم  و اقتصارها على مناهج و مواد تقنية لا تسهم إلا في إنتاج صغار تقنيي القانون المكلفين بمعالجة خوارزمية لمسائل ذات مراجع فلسفية و حقوقية و سياسية شديدة التأثير و الخطورة...

خامس اسباب الإخفاق:

غياب منظومة حوكمة حقيقية في سياق إدارة العدالة بما جعلها لستة عقود تدار بطريقة ادارة المرافق العمومية في افق سبعينيات القرن الماضي و تجريد هياكل المهن القانونية و القضائية و المحاكم و المؤسسات من اي دور في ذلك بما اسهم في تشكل أخطر اشكال البيروقراطية و أعفنها على الإطلاق و تهميش دور المحاكم و الكتبة  و المحامين و العدول و الخبراء و نفيهم إلى الأطراف مقابل احتلال السلطة المركزية لمحور القيادة رغم جهلها التاريخي و الفطري بخصوصيات ادارة العدالة....

غياب منظومة حوكمة العدالة يؤدي باستمرار إلى اخلالات سيرها و ازمات متتالية و عجز عن تحقيق دورها الدستوري و الحقوقي و الاجتماعي و الثقافي في ظل عجز الدولة منذ الاستقلال على صياغة سياسة قضائية تحقق "مفهومية " مخرجات عمل العدالة و تحقق اسباب الأمن القانوني كرديف اساسي للحق الأصلي في الحياة.

سادس أسباب الإخفاق:

هو افتقار هياكل المهن القانونية و القضائية لأبسط الإمكانيات المادية لتأطير منخرطيها و تعبئتهم حول القضايا الاساسية المتعلقة باستقلال القضاء و سيادة قراره و قدسية حق الدفاع و الحق في المحاكمة العادلة و "ديونتولوجية" العمل القضائي( و اهمها على الإطلاق الكفاءة المهنية و إحترام قيم الجمهورية) محدودية مواردها المادية و افتقارها لمخابر بحث و دراسات و رصد  تؤصل لمواقفها و تسهم في جعلها قوة إقتراح فعلية و قوة تغيير حقيقية....و اقتصار ادوات عملها على استثمار رصيد مصداقيتها و نضاليتها  في ظل مشهد عام يميل إلى شيطنة العدالة و يزدري دورها.

بما اسهم في بروز تيارات شعبوية صلب المهن القانونية و القضائية تتبنى سردية شاعرية و طفولية تشكل تهديدا حقيقيا لجدية العمل على إصلاح العدالة و استدامة المطالب الوطنية في قضاء مستقل ضامن للحقوق و الحريات

سابع أسباب الإخفاق:

تردي مستوى  جزء هام من المنظومة الإعلامية و ارتهانها للوبيات المال و الفساد و استحالتها روافع شعارات ازدراء للعدالة و تزييف الوعي حول دورها صلب البناء الديموقراطي  ،  عبر الحملات الاعلامية المنسقة و الممنهجة.

ثامن أسباب الإخفاق:

ايغال هياكل منظمة الامم المتحدة و البنك الدولي وغيره من الجهات المانحة في اختزال إصلاح العدالة في بعده التقني المتعارف عليه حسب مدونات الممارسات الفضلى حتى اضحت عملية الإصلاح عملية "بيوميكانيكية " سطحية،صالحة لكل زمان ومكان.

هذا اجمالا و بحساب العناوين العريضة ما يمكن ان نطلق عليه اسباب اخفاق تشكل عدالة حقيقية قادرة على انجاز مهماتها الدستورية و المواطنية ...يستوجب حتما اعتبار مقاتيح الإصلاح تمر عبر استثارة قطيعة ابستيمولوجية في حقل مناهج الإصلاح ترتب مقاربة ذات بعدين اثنين على الأقل :

بعد نظري  استراتيجي

و بعد عملي.

اما من جهة تفعيل  البعد الأول فلا بد من ضغط  القوى الحية و التقدمية  في اتجاه تنظيم مؤتمر وطني حول إصلاح العدالة تتراسه شخصية وطنية من عالم الفلسفة او الإنسانيات و تشارك فيه مختلف القوى المدنية و السياسية و الهياكل المهنية لجهاز العدالة  و الهيئات التعدلية و ممقثلي مختلف وسائل الإعلام و الهيئات التعديلية و المجلس الأعلى للقضاء ،توضع على ذمته الموارد المعقولة لانجاز استشارة وطنية و إطلاق دراسة جدية تكونان متنا علميا موثوق به في تحديد مهمات لجان الإصلاح و ملامح تشكيلتها  و تقديم الإجابات النظرية حول مواضيع الحوكمة و الإدارة و مكافحة الفساد و التخلص من التشوهات السكترية و ماضي الاستبداد و التاسيس لوحدة الجهاز و تكريس مهماته الدستورية و اعادة الإعتبار للمنظمات الوطنية ذات النظر مقاومة لمد التيارات الشعبوية و السكترية.

و اما من جهة تفعيل البعد الثاني فالمتجه هو تركيز لجان مختلطة ممثلة و منفتحة على كافة الحساسيات و الاختصاصات تقدم برامج عملية في الإصلاح مشفوعة بمشاريع نصوص تشريعية و ترتيبية ترتجم مخرجات البعد الأول و تقدم برامج و موارد دعم الهياكل المهنية الجادة كشريك اصلي في إصلاح العدالة و حاجز امام زحف التيارات الشعبوية كمتن سكتري متخلف بسردياته المتنوعة العازفة على وتر المطلبية البدائية و المقاربات الطفولية

 

*عياض الشواشي: قاضي

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter