سيرة حامل ميكروفون- اليكم كواليس الاعلام كما نقلها ماهر عبد الرحمان
حين نُشرت الطبعة الأولى من "سيرة حامل ميكروفون" لماهر عبد الرحمان في سنة 2016، لم أكن سوى تلميذة بكالوريا بتصوّر طوباويّ سخيف عن الصحافة، هذا الحلم الذي أصبو اليه وأهابه. حينها كُنت أقع بحبّ محمود المسعدي وأتجهزّ لأن تكون الصحافةُ تجربة انسانيّة بتلك الكثافة والـرُقيّ تُسقطني لأعلى- كُنت أرى الصحفيين 'أبو هريرة' العصر، بتلك الهشاشة والطرافة.
لو وقعت سيرة حامل الميكروفون بيدي تلك السنة، لحوّلتُ وجهة التوجيه الجامعيّ الى التدريس أو القانون، خشية من هذا المجال غير الامن للنساء- والمتقاطع مع قذارة السياسية واكراهاتها. اليوم، كصحفية تتريّث أولى خطواتها ، وجدتُ سيرة عن الانا في مؤلف عن الاخر. عرض لنا ماهر عبد الرحمان، صحفيّ، باحث في الاعلام السمعي البصري وكاتب تونسي، تجربة ثلاثة عقود من العمل الصحفيّ المُلتزم داخل تونس وخارجها، فكان وثيقة تأريخيّـــة مُفيدة بسرد سلس يُذكّر القارئ بأنّ الرجل راوٍ، هذه المرّة اختار أن يمنح للعالم، مرويّة عن ذاته. يتنزّل هذا المحكي الاسترجاعي في طبعته الثانية والمنقحّة عن دار الكتاب في 403 صفحة ضمن سجّل اليوميات، ولا يمكن تصنيفه كتابة صحفيّة لأنه يستعرضُ أدوات أدبيّة تخرجه من جنس الملمح الى ساحة الكتابة الابداعيّة : ما أمتع الكتابة، يقولُ ماهر عبد الرحمان، فيُجيبه محمود درويش (الصحفي أيضا) في مديح الظلّ العالي مُلخصا هذا الكتاب :
"ما أوسع الثورة، ما أضيقَ الرحلة، ما أكبَرَ الفكرة، ما أصغَر الدولة!"
ينهضُ الكتابُ على خيط ناظم زمنيّ مقسّم على ثلاثة 'أزمنة' : الصحافة تحت نير ثلاثة أنظمة، دراستها وأولى مصافحاتها زمن بورقيبة، اكتشافُ أسرارها خلال أوج جنوح نظام بن علي، وأخيرا اللحظة الحية والملتبسة لما بعد الثورة. أما متنُ النصّ فيُراوح بين ثنائية الداخل والخارج : داخل معهد الصحافة وخارجه، داخل تونس وخارجها. يدرس الكتاب علاقة التأثر والتأثير بين الصحافة والسلطة والسياسة، متأرجحا بين جدليّة البقاء والرحيّل والمتغيرات في تونس والعالم.
يمنحنا الكاتب أثرا بلغة مباشرتيّة لكنها تتضمنُ في بعض الصفحات خطابا تحليليا مُقتضبا : انّها تجلياتُ ارتباط شخوص الصحفي والروائي والملاحظ للشأن السياسي في ذهن الرجل، شخوص تتشاجر حول القيادة، وتفوز جميعا. لم يستعرض عبد الرحمان بما فيه الكفاية الخصوصية (L'intimité) التي كنّا نبحث عنه في تسجيل مغامرته سوى بطريقة برقيّة خجولة، وكنـّا نرجو منه أن يكون دقيقا أكثر في كشف ما كان يجول بذهنه (الداخل) عوض الاكتفاء بالاجابة عن أسئلة ماذا ومتى وكيف (الخارج). يريدُ أبناء معهد الصحافة، من مختلف الأجيال، أن يجولوا داخل التجارب الذاتية لمن سبقهم ومن تلاهم في المعهد، انّه الفضول، المبني حول فرادة هذه التجربة المشتركة مع تغيّر السياقات. فأنا قد مررت بالمعهد أثناء فترة ازدهار للحريات، تشكلّ فيها وعيي السياسي على قاعدة حرية التعبير. كان من الممتع، التجول مع ماهر عبد الرحمان في أروقة ذاكرته بين منزل العائلة وفترة الشباب والإذاعة ثم التلفزة، والوقوف على الميزات التي لحظها في سنّ مبكرة والتي جعلتهُ فيما بعد يتخذ أفضل (أو أسوأ؟) قرار في حياته.
كان من الطريف أن أكتشف أنه كان لنا ذات الاندفاع اليساريّ الساذج، وذات الطموح الخجول، نحنُ أيضا نتعرض لذات المعاملة الفوقية مع كلّ محاولة تميّز : "الفروخ" غير الملوثين بعقلية التامر والمحسوبية والموالاة. استحقت هذه الجملة، سطرا ملونا جميلا أدناها، حملها الى هذا المقال كاقتباس. انّ البحث عن المشترك هو ما يدفعُ صحفيا لقراءة سيرة صحفيّ اخر، بينما البحث عن الأسرار المضمنة بالعنوان هو ما يدفعُ الجمهور الأوسع لقراءة سيرة صحفي، ونُهنّئك، لقد وجدنا كلاهما.
كانت سمة الانتظام وترتيب اللقطات بعين المخرج مهمّة كذلك في التخيل الذهني لمختلف الأحداث التي ذكرها الكاتب، من تشكلّ البروباغندا داخل أروقة الإذاعة والتلفزة الى مختلف الأحداث السياسية ثم معايشة الكاتب للانقلاب (الأول في تاريخ تونس والذي تلاه مؤخرا انقلاب تعيس ثان)، هُنا لم يقفز الى ذهننا سوى سرد شكري المبخوت عن تلك الفترة أيضا في رواية الطلياني ورغم اختلاف المحامل الا أنّ ذات الشاعرية والانغماس كانا حاضرين، لرجلين كلاهما كان شاهدا صغير السنّ على بدايات بناء الدولة الوطنية ثم داهمهُ تغير الأنظمة فجأة في سنّ الشباب : نهاية بورقيبة المنتظرة على يد بن علي وسقوط "المجاهد الأكبر" عن عرشه الذي شيدّه الاعلام.
كان الجزء المتعلقّ بممارسة الصحافة تحت نظام بن علي أقصر من بقية الأجزاء رغم أهميته وما حمله من تفاصيل وحوادث شخصية للكاتب في مصافحة سامة سريعة مع نظام البولسة التامة. وقد يكون ذلك لأن ماهر عبر الرحمان انتقل الى رحاب التجربة الدولية تاركا البلد يتخبّط تحت حذاء نتن اخر، لديكتاتور سمج اخر، حرص على أن تلويث الصحافة وتطويعها وتشويهها ووجد في مرأبه ذلك مساندة عدد من "رجالات الدولة" المُتلونين كحرباء جائعة. وكان من المهم المرور خاصة على تواطئ الاعلام العموميّ والوقوف على بداية تشكل الأزمة النسقية والهيكلية الحقيقية التي ظلّ يعاني منها الى اليوم.
في الجزء الأخير من المؤلف، نقتربُ من إنسانية الصحفيّ الغارق في الحدث الذي يُغطيه. انطلاقا من الصحفة 360 نستطيع أن نحسّ بنار تغطية صحفيّ لثورة في بلده : دافئة وحارقة في ذات الوقت. حين يغادر المرء النقل الميكانيكي لخبر لا يعنيه : انها ماهية الصحافة، الانغماس التام، ونزعُ قناع الحياد، والاصطفاف مع الجانب الأقل حظّا دون مبالغة أو شعبوية- ولكن أيضا التشبع بالعالم والرصانة والتقيد بأخلاقيات المهنة، ولاحقا يكشف لنا عبد الرحمان هاجسهُ في خلق تصوّرات جديدة للاعلام وإعادة تشكيل المشهد عبر تشخيص الاشكاليات ومحاولتي التعديل والإصلاح، والاصطدام بواقع نجاة الماكينة القديمة وتخطيها لعقبة الثورة وانتقالها لأحضان فاعلين سياسيين جدد.
ندعوكم للاطلاع على هذه الإضافة النوعية للمدونة التونسية في كتابة اليوميات والسير الذاتية، حيثُ يحاول حامل الميكروفون اجتراح إجابة عن سؤال "ما الصحافة" عبر نقل شهادة حيّة عن كواليس الاعلام التونسيّ ومسيرة أحد رجالاته.
(سيرة حامل ميكروفون،أكتوبر 2022، دار الكتاب تونس- الثمن 35 دينار)
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires