الزهايمر في عمر العشرين ..
الساعة 7 صباحا.
الأسبوع الثاني من العمل صباحا. الأسبوع الرابع (أو الخامس أو السادس من يهتم) من الحجر الصحي. بدأت أفقد مداركي العقلية والحمد الله. لم أنم جيدا، صوت الياس الفخفاخ المُزعج ظل يردد التواريخ والأرقام في غفوتي القصيرة بعد سهر طويل أمام سلسلة DARK.
خارجا، تُمطر السماء والريح تكادُ تقتلع أشجار الدفلة ذات الرائحة الكريهة، التي تغرسها بلدية أريانة على الأرصفة لتزيّن وجه الحي مُقنتعة أن أريانة مدينة الورد، ربما يجب أن ندعوها مدينة الدفلة يا سي الفاضل موسي.
مضى وقت منذ أمطرت، نسيت كم. صرتُ أنسى الكثير من الأشياء. ربمّا ستتحول هذه الريح الى اعصار، مثل اعصار 'غلوريا.. أندريا، كارين.. تانيا' أتسائل لم تُمنح الأعاصير والعواصف أسماء نساء. أريد أن أكون عاصفة حين تُعيد الطبيعة الأم بعثي الى الأرض بعد مماتي. بي غضب يكفي تدمير مدن واقتلاع غابات.
أحيانا أنسى أين وضعتُ نظّارتي. كُلنا ننسى أين نضعُ نظّاراتنا، لكنني أنسى مكانها وأنا أرتديها، وأبحثُ عنها بينما أعدّلها على وجهي. أنسى القهوة على النّار، ثم أنسى أن أشربها. أنسى أن أخبر رئيسة التحرير بالمقال الذي وضعته. أنسى أن اضغط على زر النشر بعد أن أمضي ساعة الا ربع في كتابة مقال. أنسى أن أجيب على رسالة، أكتب نصها لكنني أنسى أن أرسلها. أنسى أيّ مسلسل أشاهد وأنا أشاهده. أنسى الباقي عند 'الحمّاص'، أنسى ماذا أريد أن أشتري حين أصل للحمّاص. أنسى أن أنام. أنسى أن أستيقظ لأنني أعمل. أنسى أنني أعمل فأفتحُ مسلسلا جديدا بينما عليّ أن أتابع ميدي شو. أنسى أنّ لي حبيبا وأغازل شابا على فايسبوك، أنسى أنني غازلته سابقا فأعتبر رسالته الجديدة تحرشا.
لكن هذا اليوم الماطر يذكرني بجدتي. بوشــم الصبايا المُتمنعات متوسّطا جبهتها صامدا يعوج إستقام الزمن المستعجل ; "تانيت".
أصيبت بالزهايمر في بدايات سن الثمانين. أحاول أن أقنع نفسي أنّ نسيان الأحداث التي تفلت من ذهني كأنه مصفاة بألف ثقب لتسقط في فوهة العدم، ليس فقدان ذاكرة مؤقت، بل يعود للتوتّر والأنسومنيا. لكنني أحمل دمائها، ومعركتها، وعيناها- فكيف لا أحمل السّقم الذي عبر خطوط يديها أيضا، هل يُورث النسيان ؟
بدأ الأمر بنسيان مكانِ كؤوس الشاي وعدد ركعاتٍ صلاة العصر ودون أن ندرك نحنُ قوم الإستخفافِ بصحّة العقلِ و النّفسِ، صارت تنسى الوقت .. و الأسماء .. و تبعثُ الموتى من قبورهم في حديثها عن سوق الخميس.
ماذا يعني وجعي الصبيانيّ هذا، انّه وخزةُ إبرة مقابل السيوف التي تغرس بقلب أبي حين يُجيب على نفس السؤال مِرارا بنبرات مضطربة مـغتّمة بمعدّل أربع مرّات في أقل من نصف ساعة :
"إنتـا شكون ؟" "عبد الكريم .. وِلدك."
أي ألم عرضّيٍ زهيد هو ألمي، أمام وجع يعتصر ابنا نستهُ أمــه، ثمّ رحلت. من الغبيّ الذي قال أن النسيان نعمة؟ الزهايمر لا يؤلم من ينسى، بل يؤلم من يتذكّر. والموت لا يؤلم الموتى.. بل يؤلم الأحياء.
ماذا لو وجدتُ كهفا يسافر بي عبر الزمن مثلما وجدهُ ذاك الفتى في سلسة DARK. ماذا لو سافرت للخمسينات ورأيتُ جدتي صبية بعمر العشرين تمرر الكحل العربي على جفنها وتزغرد لاستقلال تونس. ماذا لو صرنا أصدقاء، ماذا لو ظفرت خصلات شعرها المخضب بالحناء وأخبرتها أنها ستكون جميلة حتى بعمر التسعين، وأن وشمها لن يُمحى، سيزين جبهتها وهي تلد، وهي تُرضع صغيرها، وهي تزف ابنها عريسا، وهي تستقبل أول حفيد، وهي تُغني في أعراس حفيداتها، وهي تذبل على فراش المستشفى العسكري، وهي تأن في طريق العودة الى المنزل، وهي تُغسل وتُكفن وتُدفن وتأكل العصافير من الحب المنثور على قبرها..
ربما هذه العاصفة خارجا، هي جدتي.
الى الغد
تعليقك
Commentaires