المنوال التعليمي التونسي في مهب أزمة كورونا
فجوة رقمية، أم قطيعة إبستيمولوجية أم قطيعة جيلية ..؟! ؟
صرح وزير التعليم العالي الدكتور سليم شورى بارتفاع عدد الطلبة المسجلين بمنصات التواصل البيداغوجي الذي وضعته الوزارة على ذمة الطلبة والأساتذة إلى ما يزيد 100 ألف طالب من عموم الطلبة التونسية في إطار تفاعلي مع إدراج حوالي 350 ألف وثيقة بيداغوجية وفرها حوالي 10 ألف أستاذا جامعيا تفاعلوا مع مقتضيات المنشور عــ14ـدد للعام 2020 الساعي لضمان استمرار المرفق العمومي للتعليم العالي عبر منصات جامعة تونس الافتراضية وغيرها من المنصات والوسائط المتاحة والميسرة للتفاعل بين الأساتذة والطلبة. خطوة هامة لمعالجة وضع القطيعة الذي أفرزه الحجر الصحي في أعقاب انقطاع المتعلمين بمختلف مؤسسات التربية والتعليم والتعليم العالي في تونس في أزمة مشابهة لتلك التي رافقت أحداث الثورة التونسية والتي أدت إلى حلول ترقيعية لإنقاذ السنة الجامعية واالدراسية آنذاك.
وفي المقابل فإن التدابير الاستعجالية الأخيرة لذلك المرسوم على أهميتها التنفيذية الاستدراكية، تكشف على صعيد آخر جملة من النقائص والفجوات والقطائع التي يعانيها المنوال التعليمي والتربوي المتوارث في تونس بعد الثورة والذي لم تتداركه يد الإصلاح بعد مرور زهاء العقد من الزمن الثوري، والتي ذهبت بكل مظاهر الجودة والجدوى والنجاحات الكيفية التي ضمنتها منظومة التعليم في تونس خاصة في الحقبة البورقيبية إبان إرساء معالم الدولة الوطنية منذ المشروع الإصلاحي الموسوم بمشروع الوزير الأديب محمود المسعدي للعام 1958، و رغم عيوب الانتقائية التي ترمى بها تلك المنظومة. لذلك نطرح في هذه الورقة التقييمية والاسقرائية العلاجية وإمكانيات خروج التجربة التونسية للتعليم عن بعد من الإطار الاستعراضي والتجريبي لجعلها منهجية تعليمية شاملة وذات جودة عالية تجاوزا لترنح ترتيب تونس عالميا من حيث معايير الجودة التعليمية إلى ما بعد المرتبة 140 عالميا السابعة عربيا بعد أن كان لها قصب السبق والريادة طيلة عقود بعد الاستقلال.
مداخل للإصلاح
نطرح في هذا الصدد وبإيجاز الضرورة الإعلامية جملة من المداخل الإصلاحية على سبيل العرض والتي سبق أن عرضنا إحداها على وزارة التربية (مشروع التربية على الميديا) ولكننا لم نجد لها آذانا صاغية أو تفاعلا سوى البروتوكولية والفرز والانتقاء والذي بلغ حد السطو المعرفي من قبل جهات معلومة وأخرى متخفية.. مقترحات وبقطع النظر عن كونها مقاربات أكاديمية وبحثية وبيداغوجية تدريسية من وجهاتنا المعرفية واهتماماتنا البحثية ومهامنا التدريسية، والمستفيدة من رصيدنا الإعلامي والصحفي.. ولكنها تنخرط واقعيا ضمن الجهود المجتمعية المقترحة من القوى الأهلية والمدنية التونسية وبحس وطني تفكّري جماعي يسعى إلى تأسيس منوال تعليمي تونسي ينطلق من بيئته محايثا لمتغيرات الوضع البيداغوجي والتعليمي العالمي ومتطلباته التجديدية، بل من صميم خصوصيات المجتمع التونسي في بيئته الحضارية، ومتطلبات انعتاق متعلم جديد خُلق لزمان غير زمان الكبار، والمتفلّت من كل إرادات الوصاية المعرفية والقولبة الفكرية والنمذجة البيداغوجية والعلوم المعلبة والمقاربات الجاهزة.. وما هذا المشروع إلا ملامسة لبدايات لتعليم الحياة أو ما يعرف سوسيولوجيا "بالدخول إلى الحياة".
مدخل التربية على الميديا
إن ظاهرة الأمية الإعلامية واسعة الانتشار عربيا، باتت أخطر اليوم تطرح تحديات معرفية وثقافية وقيمية أشد تهديدا للمجتمعات السائرة في طريق النمو ولاسيما العربية منها من الأمية القرائية أو الهجائية. فالأمية الإعلامية والرقمية تكمن عمليا في انعدام الوعي الجماهيري بها خاصة لأنها تطال النخب والأكاديميين من الجمهور الذين لا يحسنون أو يرفضون أو يقاطعون استخدام وسائل الإعلام ووسائط الاتصال الرقمية، ناهيك عن أخطارها عن الناشئة التي قد تكون أكثر عرضة للميديا والوسائط دونما مقدمات تنشوية تربوية وثقافية حاسمة قبل المقدمات الدراسية، ناهيك عن تجاهل تعرض النشء لأدفاق ملايينية من المشاهد والصور والمعلومات المشحونة بالرسائل والمحتويات الرقمية في ظل الغفلة التربوية وتجاهل تأثيرها على السلوك والوعي واللاوعي ما يتطلب حتمية وجود ثقافة إعلامية مجتمعية ومؤسساتية تتنبه وتجيد المهارات التكنواتصالية وتحسن التعامل المعلوماتي الماهر والواعي مع أدفاق التكنولوجيا المبثوثة التي دشنتها الثورة الرقمية، والتي باتت من صميم حياتنا الاعتيادية ما يتطلب التدقيق للوقوف على محتويات هذه الوسائل وتحليلها رسائلها ومضامينها، ولا يتحقق ذلك إلا بالتربية الإعلامية والرقمية والتربية على الميديا في المجتمع من خلال تطوير العمل المؤسسي ولاسيما المؤسسات التقليدية بدءا من الفضاءات التنشوية كالأسرة والمدرسة وفضاءات الترفيه. ولكنه تدخل هذه المعركة الخاسرة في ظل جهالة معلوماتية واتصالية وإعلامية من قياداتها التقليدية ونقصد بهم الآباء والمعلمين والمربين.. سبق لنا في هذا السياق أن قدمنا مشروعا من تصورنا للتربية على الميديا وذلك بشكل رسمي إلى السيد وزير التربية التونسي الدكتور حاتم بن سالم خلال جلسة انعقد بمكتبه يوم الثلاثاء 13 فيفري 2018 تسلم خلاله نسخة أصلية من أطروحتنا وتوصياتنا من أجل إحداث مادة تدريسية للتربية على الميديا، كما انبثق عن الجلسة تنظيمنا أول يوم دراسي من نوعها بالبلاد التونسية بمعية المرصدين التونسيين للإعلام والتربية جرت فعالياته يوم 18 أفريل 2018 بمشاركة خبراء تربويين من وزارة الإشراف واتصاليين وإعلاميين وبتغطية إعلامية نوعية، ومع ما لمسناه من تصد غير مفهوم لإدراج هذه الصنف من التعليم الجديد الذي أوصت الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو باعتماده منذ 1980 من القرن الماضي، ولكن دون أن ننسى تصرف الوزارة أو جهات منها والتي تعمدت الوزارة تجاهل هذا المجهود في سياق حسابات غير مفهومة ولا ترتقي إلى المقومات المؤسسية لدولة القانون، ببحثها عن شركاء بعيدا عن أصحاب المشروع والمبادرة الحقيقيين.
مدخل التعليم والتعلم الافتراضي عن بعد
إن ظاهرة الأمية الرقمية في ظل الفجوة الرقمية القائمة عالميا ومحليا تذهب بجدية وجدوى عناوين الدعاية السياسية المعتمدة كمسكنات سياسية داخلية، فبعد مرور 17 سنة من إحداث الجامعة الافتراضية التونسية كمؤسسة جامعية عمومية للتعليم الإلكتروني وعن بعد أي منذ جانفي 2002، مازال عدد المسجلين بها لم يتجاوز01 % من عموم الطلبة التونسيين المسجلين بالجامعات التونسية. وضع يعكس أزمة هيكلية شاملة، لم تستوعب أصلا مفاهيم التعليم الإلكتروني والتعليم الافتراضي والتعليم عن بعد الذي لا يعني ضرورة أنه تعليما إلكترونيا لمجرد التسجيل عن بعد ما لم يكن تفاعليا بين أطراف العملية التعليمية التعلمية عبر منصاتها المخولة. الطلبة معزولون في الأرياف قد لا تصلهم تغطية الانترانت أو أن التغطية ضعيفة لن تمكنهم من متابعة سلسة للدروس و المحاضرات. ناهيك عن أن هذه العملية محكومة أصلا بجملة من القطائع الابستيميولوجية، والعزلة المجتمعية الناجمة عن الحيف الاجتماعي والطبقي الموروث عن السياسات السابقة والحالية حتى. إنها ما يصح نطلق عليه " قطيعة بين البرامج والبرمجيات" أي قطيعة بين المقررات المعرفية الرسمية، وبين إحكام تزويد المتعلمين وتزودهم ذاتيا بموارد رقمية عبر المنصات الرسمية فضلا عن إجادة التعامل مع المصادر المفتوحة. فماذا أعدت السلطة والمجتمع للطلبة المعزولين في عمق الأرياف والمناطق الداخلية وعمومهم من المهضومين طبقيا يفتقدون أدنى التجهيزات الأساسية للتعليم الإلكتروني عن بعد كالحواسيب واللوحات الإلكترونية والهواتف الذكية وغيرها من النواقل الإلكترونية المتاحة لغيرهم بالمناطق الحضرية المطوقة بأحياء شعبية غير متمدنة هي بدورها، ناهيك عن تدفق الإنترنات إن توفرت روابطه ولم تعدم كلفته. وما عساها تدبر سلطة الإشراف المتعاقبة على هذه الجامعة والمسؤولة عن الشأن التعليمي في تونس عن القطيعة بين المعلم والتكنوللوجيا، في ظل العولة الاختيارية التي ضربها لفيف هام من الأساتذة والمعلمين والمدرسين والمدربين وغيرهم وبخاصة مدرسي الإنسانيات والاجتماعيات والآداب والفنون بل وحتى العلوم كالرياضيات الذين يقفون عاجزين أو مضربين عن أي تعامل مع التكنولوجيا الرقمية حتى لمجرد إيداع أعدادهم المسندة في الامتحانات لطلبتهم وهي المسؤولية التقيمية والأخلاقية، ولم نتحدث عن استيعاب التقنيات الضرورية ليتمكنوا من إنجاز أو مجرد توفير محتويات تعليمية رقمية على المنصات الرسمية المتاحة، متشبثين بطرائقهم التقليدية دروسا ومناهج في غياب أي شكل من التفاعلية المطلوبة، ما يعزز قطيعة جيلية جديدة وبأبعاد إلكترونية أثبتتها الوقائع والمتغيرات على صعيد الأسر والعلاقات بين الآباء والأبناء وعجز الأولياء عن مسايرة التفوق الإلكتروني لأبنائهم!
من البيداغوجيا إلى ديدكتيك المواد
قطيعة بيداغوجية هل هي حقيقة ما تعيشه اليوم المدرسة التونسية وغيرها من المشاريع التعليمية التربوية العربية القائمة بالمنوال التعليمي والتربوي التونسي، مع المتغيرات العالمية في هذا الصدد أفرزت حالة من التشتت المدرسي لطرائق التدريس ومناهج النقل المعرفي في غياب الأفق واضح للعملية التعليمية في تدريس المواد كل حسب خصوصيتها، بل في إدارة دروس بعينها وتنشيطها حسب خصوصية الدّرس وإطاره العام ومستلزماته وأدواته وأساليبه التقديمية وتوقعاته التقبلية قد عرفت المناهج التعليمية ومسار نقل المعرفة تاريخيا حالات انتقالية من الفلسفة إلى البسيكولوجيا، ومن البسيكولوجيا إلى البيداغوجيا، ومن البيداغوجيا إلى الديداكتيك، ذلك أن ''البيداغوجيا التجريبية'' حسب بياجيه .Piaget كانت تقف وراء ظهور التّعلّمية أو التدريسية أي الديداكتيك، الذي يفترض منهاجا Curriculum وهو مجموع الإجراءات السابقة لتهيئة عملية بيداغوجية مستقبلية ما، ويراعي هذا المنهاج الأسس الفلسفية والمرجعية التي تنطلق منها العملية التعليمية في كل مراعاة لبيئتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتاريخية والثقافية والقيمية والدينية والحضارية، فضلا عن مراعاة الأسس البسيكولوجية للمتعلم بوصفه طرفا مشاركا بالمثلث الديداكتيكي، ومحورا إيجابيا فاعلا ومتفاعلا في لعملية التعليمية من حيث المرحلة العمرية التي ينتمي إليها والحاجيات والاشباعات المطلوبة لكل مرحلة معرفيا ومهاريا ووجدانيا وعلائقيا ومنهجيا، بما يغذي دافعية المتعلم وتوقه للمعرفة عبر أساليب تدريسية مخصوصة، ومنهجيات تدريسية محددة Méthodologies d’enseignements ، حسب المواقف التعلمية لدروس رسمية من البرنامج الرسمي المعتمد Programme، واستثمار عوائقها. يمكن القول إن التعليم في تونس والحالة على ماهي عليه تقتل كل توق للتعلم والتعلم الذاتي لدى المتعلم التونسي في ظل كثافة المواد التعليمية واستنفارها للمتعلم مما جعل منها عملية بنكية أقرب للعمليات التجارية بوصفها لا تعطي للمتعلم مجالا للإبداع وصياغة المعرفة وبناء المشروع المعرفي الخاص بالمتعلم حسب قدراته وكفاءاته، وإذا كان بعض مدرسي التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي العمومي قد يأخذون بمبادئ أولية بيداغوجية، فإنهم يستوون مع أساتذة مدرسي التعليم العالي، في قطيعتهم مع الديداكتيك ومتطلبات إلا لمن هم في صميم الاختصاص التدريسي والبيداغوجي على غرار أساتذة الاختصاصات البسيكولوجية والتربوية وأساتذة المدارس التطبيقية في الإنسانيات التي لم يمر على إنشائها بالمشهد الجامعي التونسي سوى أربعة سنوات.
أميات جديدية وقطائع جيلية
هذه القطائع المعرفية تحيلنا حتما إلى ''قطائع جيلية معرفية'' أفرزت ''أمّيات جديدة'' يعاني منها المنوال التعليمي التونسي الحالي وشخوصه لا في نظر العارفين بالبيداغوجيات والطرائق التدريسية ومناهجها وعلوم التربية فقط، بل في نظر المتعلمين أنفسهم الذين باتوا يحكمون التعامل مع الواقع الافتراضي ويمسكون بنواصي أدواته ويسيطرون على وسائله وبرمجياته ويصنعون محتوياته بكل انعتاق وحرية وانفلات من كل أشكال الرقابات عبر شتى المنصات و مختلف الوسائط، وهنا يكمن الخطر الداهم فهم إن كانوا من صنع الثورة في 2011 والتعبئة إليها عبر منصات الميديا الاجتماعية، وهم من صنع نتائج الانتخابات الرئاسية للعام 2019 التي فاجأت كل التوقعات والمراقبين عدى أولئك العارفين بخصائص الميديا الجديدة والاجتماعية وما دار في أفلاكها الخفية، فإن هذه القوة المعرفية الافتراضية وفاعليتها التواصلية الاجتماعية والمجتمعية تبقى في غياب المرجعيات والسند المعرفي للأكاديمي وفقدانها الثقة في المصداقية المعرفية لمعلميها مما يجعلها عرضة الاستمالات والاستدراجات مجهولة الهوى والهويات في الواقع الافتراضي وبخاصة الواب العميقة وأو الواب المظلمة التي يندلفون إليها في غفلة الجميع وهي مكمن مخاطر الإيقاع الإرهابي والإجرامي والغموض بأنواعه بهم.
فماذا عساها قدمت المدرسة التونسية أوتقدم لهؤلاء وقد خُلقوا لزمان غير زماننا.. ونحن الذين نعيب زماننا..؟!؟
صابر فريحه
كاتب صحفي باحث في علم اجتماع الاتصال والميديا
تعليقك
Commentaires