alexametrics
فيروس كورونا

محمود درويش في سريري..

مدّة القراءة : 2 دقيقة
محمود درويش في سريري..

00:30

 

دعوني أخبركم سرا. مازال أبي يحتفظ بكلّ كتب شقيقه الأصغر الذي تُوفي منذ سنوات. بنظارته، وحقيبته الجلدية الفخمة، وحتّى معطفهِ الأسود الطويل عتيق الطراز. كان لعمّي أعداد كثيرة من مجلتي العربي، والكرمل. وبينما العربي مجلة تفوح منها رائحة الطّحين (الدقيق، الفارينة، تعرفون ما أعني) للأنظمة العربية، إلا أنّ الكرمل كانت فصيلا ثقافيا يساريا مُلتزما.

وتخيّلوا سعادتي بهذا الكنز.

هل تعلمون من كان رئيس تحرير هذه النشرية؟ محمود درويش! درويش الذي يسكنُ لغتي ومجازي، كان في غرفة جلوسنا طوال هذا الوقت، يلبسُ جوكينغ النادي الافريقي (بدلة رياضية) . في منزلنا بدلات الرياضة تلعب دور البيجاما، وأحيانا أيّ قميص قديم يتحول إلى بيجاما، أي سروال مريح هو بيجاما أيضا حتى سراويل نايك وأديداس المعدة للنشاط والحيوية والهرولة في الطبيعة مع الفراشات والسناجب.  

كان درويش يشربُ غليونـه مسندا رأسهُ إلى وسادة الصالون الصفراء، واضعا ساقيه على المنضدة الصغيرة مزيحًا مزهرية أمي إلى الجانب بفوضى، أمي تريد المزهرية في تمام منتصف الطاولة، لا سينتيمتر يمنةً أو شمالا، وستشتم الرجل إذا رأتهُ يكسر قواعد بيتها.

"ا هامل هبّط ساقيك" ستقول أمي لشاعر الوطن العربي.

 

ستعرض عليه البسكويت (العربي الصلب كالحجر، الذي يؤلم ضروسك يوم العيد  وتخبّئه الأمهات في سطل الشامية القديم) وكأس عصير فراولة، نصفه ماء وعطرشية. ستريه صورنا ونحن صغار عراةً في مغطس الحمام. ستسكبُ له القهوة في فناجينها المخصصة للضيوف، التي تزين بها رفوف خزانة الأواني التي تناهز عمري أو أكثر. ستسأله ماذا يريد على الغذاء، وتطبخ كسكسي على أية حال لأن الجميع يُحبون الكسكسي.

 

2  صباحًا.

 

العدد الذي بين يديّ من مجلة الكرمل يعود إلى خريف سنة 1981، التاريخ بين كفيّ، ورائحة الورق الأصفر القديم تملئني، ألذّ من أغلى أنواع العطور.

 الافتتاحية تتحدث عن اغتيال ماجد أبو شرارة (سياسي فلسطيني مناهض للصهيونية) في تفجير.

يقول درويش  "انهض واشرب قهوتك على عجل يا حبيبي ماجد. جثتك الساخنة تنتظرنا على الدرجة الأخيرة. انهض فهذا صباح الأحد الصاحي على رائحة الأرغفة..صباح الخير يا ماجد.. حبيبي .. صديقي .. أخي."

 

في هذا المقال يرثي درويش رفيقه المناضل الذي قُتل قبل أيام. أحس أن ورق المقال الافتتاحي نديّ، مبلل بدمع القهر. تساءلتُ، أي وجع ذاك الذي حمله درويش بكفه وهو يرثي صديق عمره الذي فتتّوا جسده وأحرقوه، فجروا غرفته ومسحوا كل أثر لدفاتره وكتاباته.  ثمّ تذكرت أنهم في وقت غير بعيد، قتلوا لطفي نقض سحلا.  ثم قتلوا شكري بلعيد أمام منزله.  ثم قتلوا محمد البراهمي أمام أبناءه..

 

 

 8.06 صباحًا

 

محمود درويش على سريري، مستلقيا يحدّق بالسقف. يستمع الى جداريته بصوته المسجل منذ التسعينات في ندوة شعرية ما. يمد يده، ويمسك يدي، نحدق سويا بالسقف، وكاميرا سماوية ما تُصورنا من الأعلى، مشهد نهاية فيلم ما.. فيلم عظيم.

 

درويش وجودي مدهش لا يفهمه إلا الوجودي المتسائل. نخباوي متعال لايفهمه إلا أحباب اللغة. حدث أن كان فلسطنيا فجعل من أرضه الطيبة مركزا للكون. ابن العالمِ كما أراد لنفسه أن يكون ككل الشعراء من رامبو الى الشابي. لا يُلخص ولا يصنف. درويش قلب عربي لكنه إمتداد ملون بأعراقٍ متخاصمة.. من روما الى اليونان الى نابلس. قلب صار إمتدادا دائرّيا، كجملة كونية واحدة تلتقي المعاني في طرفيها وتنصهر. "السماويّ الطريدْ الضائع فيـما خطّت يداهْ" كما يصف نفسه في  الجدارية، هذا السؤال الكبير. الجدارية (قصيدتي المفضلة) هي محمود درويش عاريا ساكبا نفسه في مخطوط واحد. ، درويش هو الجداريّة، هكذا أراه، هكذا تبدُو لي ذاته.

 

لا يفهم دفعةً واحدة. أراد لقصائده أن تكون مشفرة تدخلها حافيا بذهن فارغ وتخرج منها حاملاً الكون على كتفيك. تجربة إنسانيّة هو درويش، يواسينا بدوره  في تجاربنا، يتحدانا أن نجد ذلك الخيط الخفي بين قصته وقصتنا.

  

وأنتم، لو كنتم مصنوعين من شعر، أي قصيدة ستكونون ؟

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter