صديقي رضا لينين- سيرة "الأنا" في كتاب عن الآخر
صورة لفلاديمير لينين يُخاطب الجماهير، أظنّ أنها من المقر المركزّي لحزب العمال، أمامها صورة لرضا لينين وقد اشتعل رأسهُ شيبا- علّه جاوز الستّين ككل من اعتلوا "حجرة سقراط" في السبعينات. خلف رضا، جدار أزاحت رطوبة أنهج العاصمة طلائهُ الرخيص، علّه جدار من مقر حملة قيس سعيد بنهج ابن خلدون أو أحد جدران "نهج الحُديبية" حذو مقر جريدة لابراس القديم، وهو نهجُ مجالس اليسار به مقهى "الطاهر" ومقهى "الأناقة" أين الاكسبراس بدينار; هذا وحيُ الغلاف الذي أبدعهُ محمد النهبان.
"صديقي رضا لينين، ورقات من سيرة جيل معطوب" مُؤلف للشاعر والأكاديمي فتحي النصري، حَامِل لـ188 صفحة، خُطَّ خلال الفترة الممتدة بين 16 سبتمبر 2019 و25 جانفي 2020. وأنت تلتهم الفهرس -خاليَ الذّهن- بحثًا عن دلائل عن مُحتوى الكتاب، تبدو عناوين الفصول كعناوين لقصائد تُوحي بأن الكاتب لن يتخلّى عن شِعريته وهو يدخل ساحة السرد المُتأني، حيثُ لا تُلحق كلّ الألفاظ ضرورةً- بنعت. مُسلحا فقط بالعُنوان وتصورات يوتوبيّـة عن سبعينات اليسار وثمانيناته، تتصفح أوراق المُؤلف فتقفز إلى بصرك أسماء تعلمها؛ سمير بالطيب، سفيان بن فرحات، سيد أحمد ابراهيم، الطاهر الهمامي .. غير عالمٍ بجنس الكتاب الأدبي، تُقلب صفحاته فترى؛ هياكل رسائل، أبيات شعر، فقرات مسترسلة، ضمير المتكلّم، ضمائر غائبة.. تلجُ الكتاب مُحملا بالحيرة وتُغادره مُطمئنا إلى أنّ السؤال هو البدءُ والتأسيس- سواء للفكر أو للعلاقات الإنسانية البناءة.
لم جهّزنا فتحي النّصري منذ العنوان لمُوّلَفٍ عن رضا لينين، ومنحنا -في الختام، سيرة ذاتية مُتكاملة الأركان، كان فيها رضا شهاب المكّي الحاضر الغائب؟ هذا سُؤالنا الكبير وقد أتممنا قراءة الكتاب الصادر عن دار نشر مسكلينيات، صفحات اجترح الكاتبُ عبرها من ذاكرته محطّات قليلة جمعتهُ برضا لينين بعدما اكتشف أنّ الرجل كان مُدير حملة قيس سعيد خلال الانتخابات الرئاسية.
بعيدا عن تعريف دائرة انتماء الكتاب أدبيا، طوع النصري الشعر لصالح السرد ولم يتخلى عن أناه الأولى وهو يعيد اكتشاف ذاته في نصه الممتد، بين عوالمه الأسرية والرفاقية والجسر بين الحلم بثورة لا تجئ والنضج الذي وجدهُ في ثورة أُهدرت. استحضارُ الشعر لطّف توالي الأحداث وحمل للسرد لحظة شعرية لم تُكتب في زمن النص. مزج الكاتب زمن القصيد وزمن السرد فلم يكن بذلك الشعر لغة منفصلة جُرّت للنص جرا بل كان لها أبعاد وظيفية. نرى أنّ الشعر أنقذ الكتاب من المباشرتيّة الجافة، ومن أن يكون سردا عاريا من الأحاسيس. لم يبد النصري مشاعره في مواضع عديدة من النصّ، فكانت القصائد التي نُضدت داخل الفقرات تعبيرات عما اختلجه من مشاعر ماضويّة كالحنين والخيبات والرفاقية أعدنا عيشها معهُ ناصعة حية. مشاعر علّه لن يُوفق في اضاءتها في زمن كتابة النص; لنذكر مثلا مرثية الفاضل ساسي وفتحي فلاح والقصيدة السوداء التي لفت الكاتب عبرها نظرنا الى اقصاء فلاح من الذاكرة الجماعية لليسار الا في موقع من نشيد الاتحاد، وكان ختامُ القصيدة "فلنمض الى الجنوب" بيتا كونيّا قد يُسقط على واقع أيّ جنوب- وكأنما مصير تلك الجغرافيا النسيان.
"ما العمل؟" يقول فتحي النصري وقد بُني كامل مؤلفه على السؤال. كيف أكون يساريا في هذا الزمن القمىء؟ ونُجيبه، العطبُ ضارب في القِدم، لكنّه يشُّل حركة الأجيال الجديدة من اليسار كذلك. أبناء اليوم من يسار بعد الثورة ورثوا عنكم ثقل الخصومة. لا يعرفون ما العمل. لا ينوون مغادرة الدائرة العبثيّة التي طُفتم ضمنها مُتخبطين بين نُبل القضية واكراهات الممارسة وانتهازيّة المُتسلقين. كنا ننتظر من سيرتكم بطولات، فوجدناك تجلدُ ذاتك وتحمل ذنبا ليس ذبك وحدك. ربما اليساريون محكومون بأن يكونوا علامات استفهام دائمة، ربما على المثقف العضوي الذي تحدّث عنه غرامشي (الذي وجدت له اقتباسا في تصدير الكتاب) أن يشيب في علييّ بُرجه بعيدا عن بني جلدته. ربما هي حتميّة، أن نلج النظام من داخله كما يُنّظررضا لينين، وتكون تلك بداية افاق جديدة، ربما المانيفستو ليس الحلّ.
ترددنا في تصنيف الكتاب، لكن اذ بحثت عن ملامح السرد الذاتي في سيرة الجيل المعطوب تجد أنّ هذه السيرة لا تأتي على النمط التقليدي للسيرة الذاتية التي تعلن نفسها منذ البداية رواية للأنا، بل تنطلق بشكل دائريّ بعودة طيف من الماضي الى ذهن الكاتب في سنة 2019.
يتذّكر النصري صديق شبابه من الخط الوطني الديمقراطي رضا شهاب المكي الذي لمع نجمه كمدير حملة المترشح للرئاسية قيس سعيد. وبشكل دائري كذلك، في ختام الكتاب يخصص فتحي النصري فصلا لمُخاطبة رضا المكي انطلاقا من النقطة ذاتها – أن تعسّر عليه أن يتصل به أو يحدّثه على الانترنت. مُتابعا صفحته على الفايسبوك في 2019، يرتّدُ بنا "الشاعر" الى الماضي مسترجعا حادثة في كلية الحقوق في السبعينات اعتلى خلالها رضا صخرة الخطباء، واصفا هذا الشاب الثوري الحالم متين الحجّة والخطاب، الذي شجّعه بدوره على اعتلاء "حجرة سقراط".
يختفي بعدها رضا لينين من السرد، ليقّص فتحي النصري أحداثا من صباه، ثم شبابه وصولا للجامعة والعمل بترتيب كرونولوجيّ متماسك تنطلق فيه الأحداث من أسئلة الطفل الماورائية وحيرته الوجودية الى اكتمال دورته مرورا بثلاثة أنظمة من بورقيبة الى بن علي الى بعد الثورة وما رافق هذا المسار من تغييرات سياسية واجتماعية. يظهر رضا لينين عرضيّا لكنه لا يؤثر في السير الخطي للأحداث ولا يعدو كونه طيفا في سيرة الشاعر اليساري- الأمر الذي سيتغيّر مع اخر فصل. دوّن النصري مراحل العمر ومسيرته التعليمية ناقلا مشاعره وارائه مُراوغا بين تفاصيل كونه الذاتي وعائلته واصراره على استغلال المصعد الاجتماعي لأجلهم وما يحدث خارجا عن عالمه الصغير في البلاد والسياسة. لم يتردد الكاتب اليساري في الحديث عن محصلة تجربة قصيرة اقترب فيها من الاسلاميين باحثا عن ذاته، كما استدعى من الذاكرة علاقاته برفاقه الذين جذبوه الى عالمهم. تحدث النصري عن تفرع التيارات اليسارية المختلفة في الجامعة من أصل واحد هو الخط الوطني الديمقراطي منصفا انتماءه الأول، غير غافل عن ذكر دور البرسبكتيف. الانتقالُ الى الواقع المهني والعمل النقابي ثم الانضمام الى صفوف الحزب الشيوعي كانت فصولا استبطن فيها الكاتب خيبة أمله من اليسار وعُقمه، وكانت تلك الفكرة العماد التي ترفعُ هذا النصّ وتحرصُ على تماسكه، مامن حدث أو شخص أو رأي، الا وكان مرتبطا بها.
لئن لا تعلن عناصر خارج النص (العنوان، الغلاف، التصدير) أن هذا المُؤلف سيرة ذاتية الا أن تقديرنا أن عناصر داخل النصّ (التطابق بين المؤلف والسارد والبطل، نسبُ الافعال والاحداث للضمير والصوت ذاته) هي ما تحدد أن هذا المُؤلف هو سيرة لتجربة فتحي النصري المركز الذي تدور في فلكه جميع العناصر الأخرى بما في ذلك شخصية رضا لينين الذي يُمثل عزاء الكاتب في جيله الخاسر- وربما تعويضا عن الاحساس بالغُبن من اليسار الكلاسيكي الذي لم يبارح مكانه. منذ البدء أعطى النصري اشارة عن رأي في رضا، هي أنه يراهُ في الثورة أكثر مما يراه في الدولة (وربما يوجد شيء من السخرية في كون النصري كاد أن يجزم في محطة لاحقة، أن رضا المكي لا يعتبر ما حدث في تونس ثورة) لكنّ رغم ذلك فان "لينين" الان في دائرة السلطة، لينين أوصل قيس سعيد الى قرطاج.
في حديث جانبيّ في دار الكتاب، أخبر رضا لينين الشاب فتحي النصري الشاب أنه يُفكر في الدخول الى حزب التجمع حتى يفتكّه من الداخل لأنه يؤمن أن تمرّسه في النضال وتشبعه بأدوات الماركسية مقابل ضعف التكوين السياسي لمُهرجّي بن علي يمكن أن يجعلاه يوّجه سياسيات الحزب من الداخل عوض أن يُفني عمره في محاربته من الخارج. كان واقع هذه الفكرة علينا ثقيلا، وكانت هذه من المرات القليلة التي سمح فيها فتحي النصري لشخصية رضا لينين أن تعبر عن رأيها بدل أن يكتفي بالحديث عنها، تذكرنا حوارا أجراه الاعلامي برهان بسيّس مع رضا لينين الستيني في زمن الحاضر، الرجل مازال ذات اليساري الشابّ الذي يفكك الواقع بأدوات التحليل الجدلية، لكنه طوّرها، متشبعا بما يحدث في هذا القرن وفي هذه المنطقة. فهل مازلت تلك الفكرة تسكنه؟ وهل مازال يفكر في تغيير النظام من الداخل عوض أن يحاربه من الخارج، هل قيس سعيد هو حصان طروادة الذي يخفي رضا المكي العشرينيّ المتحمس لفكرة قلب الممارسة السياسية من داخل دائرة السلطة تصديقا لمقولة فلاديمير لينين '' بامكان دستة من الأذكاء التغلب على مائة من الحمقى"؟ هذا ما تويحه تلك الواقعة، خاصة بعدما أردفها النصري بقوله "اتساءل اليوم اذا كان الأمر متعلقا بمجرد فكرة عابرة ..". لكنّ الأكيد أن السارد صاحب ذاك التعليق في زمن اليوم يعلم أكثر مما كان يعلمه أمس متى لم يولي تلك الواقعة أية اهتمام. يضعُ فتحي النصري مسافة بين الاثنين ; بين تحليل الشاب العشريني و تحليل الكهل اليوم، حتى أنّه ضمن النص قصيدتين واحدة من مجموعة "سيرة الهباء" التي تروي خيبة المؤلف واكتئابه وتشظيه وبين قصيدة "الزمن الجديد" التي كتبها وهو شاب حالم بمعجم متفائل هارعا نحو "اسقاط العروش والركض نحو الفرح المضيء" مثلما جاء في القصيدة.
إذا، من هو رضا لينين ؟
هو فتحي النصري نفسهُ، حين كان شابا. رضا، فتحي، سمير بالطيب، حمة الهمامي، سفيان بن فرحات كُلّهم "أنا" واحدة في الماضي، واليوم كلّ واحد منهم صار "الاخر" الغريب. وما عنوانُ "صديقي رضا لينين" الا استعارة تُخفي عنوانا اخر هو "صديقي فتحي النصري، بين الأمس واليوم".
في قرائتنا التي تحتمل الخطأ، نرى أن رضا لينين ستينيّ اليوم هو امتداد لفتحي النصري الشاب الثوري الحالم، بينما فتحي النصري اليوم الذي تخلى عن تعاريف الثورة الرومانسية هو "أنا" ثانية نحتتها الظروف الموضوعيّة ونزعت عنه ثوب السذاجة، لتهبهُ حكمة متأخرة وجهها في رسالة الى صديقه رضا ومنه- الى جيل يبحث عن التوبة التي يرى أنها يجب أن تكون نكران الذات. خلاصُ تونس، وفق المؤلف، في السلم الاجتماعية والوفاق الذي يسبق خطوات البناء وتغييرالأنظمة. "الوحدة" هذه الشعارُ الذي أفرغ من ماء معناه، شديد البساطة، شديدُ التعقيد والذي تطلب عمرا كاملا لادراكه !
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires