إذا كان المشهد السياسي هو التيتانيك، فإن التقدميين يعزفون رغم غرق السفينة..
على الرغم من الدروس المستفادة من الانتخابات السابقة، يقترب المعسكر التقدمي من تشريعيات 2019 بصفوف منقسمة. تراهن مجموعة من الأحزاب التقدمية على أكثر من مليون صوت فاز بها النداء التاريخي لعام 2014 في محاولة لأن ترثها بينماتواصل محاولة عرقلة الطريق أمام القادمين الجدد مثل نبيل قروي رئيس حزب قلب تونس، عبير موسي عن الدستوري الحر و جمعية عيش تونسي، بيد أن فرص نجاحهم ضئيلة للغاية. إذا كان المشهد السياسي التونسي هو التيتانيك، فإن المعسكر التقدمي- الحداثي سيكون أوركستراه التي تعزف على وقع غرق السفينة برمتها.
يمنع القانون الانتخابي نشر وتعليق استطلاعات الرأي فيما يسمى بالفترة الانتخابية التي انطلقت في16 جويلية. لكنك لست بحاجة إلى أن تكون خبيرًا إحصائيًا لتعلم بالفعل أن ما يسمى بالمعسكر التقدمي يتجه نحو المواعيد الانتخابية مشتتا في عشرات الأطراف المتفرقة.. كل هذه الأطراف، متشابهة على مستوى الهيكل السياسي اذ يجتمع مناضلو هذه الأحزاب حول شخص، وهو في العادة "زعيم" أو شخصية توافقية ذات رمزية، محاولين اثبات جديتهم ومصداقيتهم. على مستوى الخطاب السياسي، كل الأحزاب المتفرقة في المعكسر التقدمي متشابهة للغاية حيث يتلخص الخطاب تقريبا في جملة واحدة "نحن لا نمارس السياسة مثل الآخرين، نحن أفضل لأننا أكثر كفاءة ووطنية ."
أن تكون جزءًا من المعسكر التقدمي والديمقراطي يستوجب تبني قيم مشتركة لا سيما في الدفاع عن الحقوق. ومع ذلك، فإن الممارسة السياسية التونسية لا تعكس ذلك منذ أن جعلت الثورة لفظ "تقدمية" مختزلا في عكس لفظة "الإسلاميين". مصطلحات تستخدم لتحديد الانتماءات دون قيمة سياسية حقيقية. وقد تجلى عندما اصطدم ما يسمى بالقيم التقدمية والديمقراطية بالممارسة العملي ولا شك أن المثال الأكثر الأهم هو لجنة الحريات الفردية، وهي لجنة أنشأها رئيس الجمهورية، باجي قائد السبسي، لاقتراح تحسينات في القوانين المتعلقة بالحريات الفردية. كان ينبغي أن تكون هذه المعركة بمثابة إثبات لقدرة هذه الأحزاب على احتلال السلطة التشريعية وتمرير القوانين المقترحة ومن خلال ذلك عزل النهضة والأطراف القريبة منها من روابط حماية الثورة سابقا وقدماء المؤتمر من أجل الجمهورية. ومع ذلك، فإن تردد وجبن الأحزاب "الديمقراطية" كان يعني أن كلا من بشرى بلحاج حميدة رئيسة اللجنة وزملاؤها وجدوا أنفسهم وحدهم في المعركة في مواجهة المعسكر الرجعي. ومع هجمات الكترونية كبيرة ضد بالحاج حميدة ولجنة الحريات لم يكن لمشاريع القوانين التي اقترحها تقرير اللجنة أي دعم سياسي حقيقي من الأحزاب الديمقراطية باستثناء بعض البيانات المنشورة على مضض. وبالتالي، أحيل المشروع التقدمي الذي يحمل في طياته مقترح قانون المساواة في الميراث الى رفوف المجلس.. بتواطؤ من الأحزاب التقدمية نفسها.
حين نتحدث عن الأحزاب "التقدمية" ، فإننا نقصد كل هذه التشكيلات الوسطية مثل نداء تونس ومشروع تونس، بني وطني، البديل، المسار، الجمهوري.. ولم يكن لدعوات الاتحاد تحت راية واحدة التي تكررت منذ الثورة صدى لدى هذه الاحزاب التي اختارت أن تخوض مغامرة الانتخابات القادمة في قائماتها الخاصة. لكن لنا أن نتساءل، فيم يتمثل جمهور الناخبين الذي تسعى هذه الأحزاب الى جذبه ؟
من ناحية، هناك ما تبقى من نداء تونس والأحزاب التي انبثقت عنه مثل مشروع وتحيا تونس، وبني وطني، وأمل تونس.. يراهن جميعهم على استجماع الجهاز الانتخابي لنداء تونس 2014. طموحهم هو استعادة الناخبين الذين صنعوا انتصار النداء قبل خمس سنوات من خلال تجسيد "النداء حقيقي" ، وليس النداء الذي استحوذ عليه حافظ قائد السبسي وشركاؤه. لكن الواقع أمر مخالف لما تتوهمه هذه الأحزاب. تغيب عن هذه المناسبة الانتخابية أهم الحجج التي صنعت مجد المعسكر التقدمي في 2014: الأولى هي أنه لم يعد هناك عدو مشترك- خطر وشيك يدعى النهضة ، بسبب التوافق الذي تم تأسيسه منذ عام 2014. والثاني مؤسس الحزب الباجي قائد السبسي ، الذي كان وسيظل الزعيم الوحدي القادر على جمع العناصر التي شكلت نداء تونس، بما في ذلك نبيل القروي الذي كان عضوا في النداء انذاك.
بالنسبة للبعض الهدف الأقصى هو الحصول على عدد من المقاعد النيابية وفي النهاية الحصول على ما يكفي لتشكيل كتلة برلمانية. الهدف هو الحصول على وزن نيابي كاف يسمح بالتفاوض بعد الانتخابات من أجل اقتسام الكعكة.
أخطاء الأحزاب الحداثية المتكررة ستعود بالنفع على النهضة التي ليس لديها ما تفعله سوى اللعب على تعويض الصورة اللاجدية التي يقدمها التقدميون عن أنفسهم وبالتالي تكون البديل المنطقي لدى الرأي العام خاصة وأن الحجة التقليدية التي تصور الحزب الإسلامي الشرير كخطر داهم يهدد النمط المجتمعي الحالي وينوي اجبار الحجاب وتطبيق الشريعة، لم تعد تنطلي على الناخبين. لا تزال الأحزاب الحداثية غير قادرة على تجديد خطابها السياسي منفصلة في ذلك عن الاهتمامات الحقيقية للتونسيين التي يستغلها بشكل لاأخلاقي كل من نبيل قروي وعيش تونسي وعبير موسي.. بل ان أحد اخفاقات العظيمة للأحزاب التقدمية هي عدم توقع قدوم هؤلاء الى الساحة السياسية. حين نبهت وسائل الإعلام واستطلاعات الرأي لأكثر من سنتين، إلى الهوة التي تفصل الطبقة السياسية عن الشعب وإلى وصول "المشاريع" السياسية القائمة على الجمعيات ذات التمويل الخفي الى مراكز متقدمة في نوايا التصويت، فإن الأحزاب التقدمية، من أعلى أبراجها العاجية ، اتهموا مرآة سير الاراء بعدم عكس الصورة التي يريدون رؤيتها..
ماانفكت الأسرة الديمقراطية والتقدمية تمر بخيبات أمل متكررة منذ الثورة إلى يومنا هذا. اليوم، وأمام صدمة ما حدث لنداء تونس أو الجبهة الشعبية، لا يوجد ما يبشر بأي مباردة اصلاح أو محاولة واعية لاستعادة السيطرة ، مما ينذر بصفعة انتخابية قادمة، في أكتوبر 2019.
مروان عاشوري (ترجمة عبير قاسمي)
تعليقك
Commentaires