خطابات المعارضة مات الزعيم .. عاش الزعيم
"بِـكم كيلو النضال؟"، قد نظنّ للوهلة الأولى أنّ مثل هذا التعليق الإستنكاريَّ الساخر موجّهٌ للمتمتعين بالعفو التشريعي العام من الإسلامييّن الذين ما ٱنفكوا لسنوات يُطالبون بتعويضات ماديّة مقابل " نِضالهمْ"، لكنـّهُ هذه المرّة موجّه لزعيم اليسار التونسي، والناطق الرسمي بإسم الجبهة الشعبيّـة، حمـّة الهمامي، الذي أكّـد في أكثر من مُناسبة رفضهُ المطلق لأي تعويض مادي مُقابل سنوات سجنه.
تعرّض الهمامي لموجةِ واسعة من الإنتقادات بعد أن نشرت هيئة الحقيقة والكرامة بتاريخِ 23 فيفري 2019 قائمة تحمِل أسماء المستفيدين من قرارات جبر الضرر لـضحايا الإنتهاكات، تدعو فيها المستفيدين من التعويضات للحضور واستلام قرارِ جبر الضرر، وكان إسمُ حمة الهمامي مُدرجًا بالقائمة. جدلٌ آخر ينضافُ إلى تاريخٍ طويل من إثارة الجدلِ الذي يبدُو أنـّه السبب الوحيد الذي جعل الرّجل يحظى بحضورٍ إعلاميّ ممتاز، على عكسِ بقيةِ "رفاقه"، فالرجل ينتقلُ بسلاسةٍ من منبر إعلاميّ إلى آخر، إمّا موضّحا، أو مُتَهِّـما، أو مُهاجمًا دون محتوى حقيقي يقدمه كزعيم كيان سياسي ينتمي لدائرة المعارضة القوية البناءة.
سُرعان ما بدأ رُوّاد مواقع التواصل الإجتماعي في التفاعلِ مع هذا الخبر، حيث وصَّـف البعض الزعيم اليساري بإزدواجيّة الخطاب، وإستهجن البعضُ متاجرتهِ بمبادئه، وعمد ناشطون إلى إعادة نشر تصريحه الشهير في 2012 الذي صرّح فيه أنه لن يقبل بتعويضٍ مادي، الأمر الذي دفع مرشح الجبهة المُحتمل لرئاسيات 2019 للتوضيح، كـكُلّ مرة. ورغم أن الهيئة وضحت أنها تنظر للملفات المقدمة من ضحايا الاستبداد بغض النظر عن الأشخاص وانتماءاتهم الحزبية والسياسية أدان حمة الهمامي ما اعتبره ''حملة ممنهجة يقودها أنصار النهضة والمرزوقي ونداء تونس''، وأكد أنّ مثل هذه التعاليق لاتهدفُ إلا لتشويهه وشيطنتهِ. وأوضّح الهمامي في تدوينة على صفحته الرّسمية، أن إدراج إسمه أمر طبيعي نظرا لتعرضه للمحاكمة في عهد بن علي، مؤكدا أنه لم يطالب بتعويضاتٍ، فضلا عن أنـه ليس بحاجة للتعويض ولن يقبله بأي حال.
على الرغم من تاريخه النضالّي المشرف والشاقّ، يبدُو أن كرسيّ المعارضة المُريح، جعل الهمّامي يُـكرر نفسه ويكرر تصريحاته ليصبح حضوره نمطيّا، إذ يقوم إتصالهُ سياسيا على الهجوم، ليصنّف في الوعي الجماعيّ شخصيّة مُثيرة للجدل، لا تملك برنامجا حقيقيّا غير شعاراتٍ باهتة وتصلّب إيديولجيّ قاتل. ردّة الفعل -المُتوقعة جدّا- التي قام بها الهمامي إثر موجة التعليقات التي طالته، هي السبب الذي جعل اليسار هامشيّا- مهمشًّا في مرحلة مهمة من المسار الديمقراطي: التهرّب والتهجّم، الثنائية التي يعتمدها اليسار كإجابة لكلّ الأسئلة.
إن المُتمعن في جملة التصريحات الهُلاميّة للهمامي في السنوات الخمس الماضية، يجـِدُ أنّ الكلمات المفاتيح لكلّ حضور يقوم به الزعيم هي "... حملة ممنهجة لتشويهي ...حكومة فاشلة ...أطراف رجعية"، خطاب ظل سجين الايديولجيا ومُراكمة الأعداء ورمي الإتهامات. من مفارقاتِ الهمامي أيضًا، أنـه وطيلة أعوام طِوال كان يُناضل من أجل إنهاء الحكم مدى الحياة، بينما ظل أمينا عاما لحزب العمال لأكثر من ثلاثة عقود، بعد " تجديد إنتخابه" أمينا عاما في ديسمبر 2018.
حمّة، ولد الشّعب، مازال غارقًا في الطوباويّة مُـغرمًا بالزعامة، متشبثّا بصورة اليساريّ الأخير، ذلك المترفع عن الدولةِ ومؤسساتها وهيئاتها. والحقيقة أنه من الخطأ التشبث بموقف ثابت في واقع متغير. لئن كان عدم قبول تعويض مادي عن الإنتهاكات التي تعرض لها حركة نبيلة في ظاهرها، إلا أنّ إعتبار كل ناقد أو مخالف عدوا "يشن حملة ممنهجة ورائها أطراف رجعية" هو ما جرّها لساحة الجدل المغلف بالسخرية وجعل من الزعيمِ سياسيّا لزمن آخر، لا لزمن حرية التعبير. تعاليق المنتمين للجبهة أيضا تدل أن مقاربة اليسار أضحت "عدو الزعيم عدونا جميعا، عاش الزعيم".
الهمامي، ليس إلا عينة من اليسار التونسي: تاريخ طويل من النضال، وحاضر سِماته التشتتّ، العجز عن تجاوز العائق الإتصالي، وحرب الزعامات. الزعامتية، هذه النزعة المرضية التي حولت أحزاب اليسار إلى ماركات مسجلة بأسماء قادتها، فإنعكس ذلك على خطاباتها وحضورها الإعلامي الذي أصبح يقدّمها للشعبِ مختزلة في أسماءِ "زعماء" تقليدية ذات خطابات تقليدية فيما ينتظر هذا الشعبُ التواق للتنوير والتقدميّة، بديلاً عن الخطابات السياسيّة الجوفاء التي تقومُ إمّا على السفسطةِ أو التهجم، ينتظر - أو لنقل يبحث هذا الشعب عن زعيم حقيقيّ من طينة الشهيد شكري بالعيد.
عبير سعيدي قاسمي
تعليقك
Commentaires