تأثيرات المنظومة التربويّة على التّلميذ التّونسي
عندما تستوقفنا هذه الأرقام، انقطاع 280 تلميذا عن الدّراسة يوميا، غياب 101 ألف تلميذا عن مقاعد الدّراسة خلال سنة 2018، مغادرة أكثر من 526 ألف تلميذا المدرسة خلال الخمس سنوات الماضية، 41 بالمائة من المنقطعين عن الدّراسة مستوى سنة سابعة من التّعليم الإعدادي، نسبة 49 بالمائة من مغادري مقاعد الدّراسة مستوى سنة أولى ثانوي، هذا الإنقطاع يكبّد الدولة 1135 مليون دينار، أي ما يمثل نسبة 20 بالمائة من ميزانية وزارة التربية!!!
هذه حصيلة كارثيّة وأزمة خطيرة في قطاع التّعليم في تونس، وتأكّد لنا هذه الأرقام مدى عجز وزارة التّربية على مجابهة ظاهرة الانقطاع المدرسي، ناهيك عن ما قاله وزير التربية حاتم بن سالم أثناء جلسة الإستماع له بالبرلمان، إنّ التلاميذ المنقطعين عن الدّراسة يمثّلون خطرا على باقي التّلاميذ وعلى المجتمع التّونسي وذلك بسبب تفاقم ظاهرة التسكّع في محيط المدارس واستهلاك المخدرات وترويجها، إلى جانب عزوفهم عن الإلتحاق بمؤسسات التكوين المهني.
وكأنّ الوزير بتصريحه هذا يحمّل المسؤوليّة للتّلاميذ مُتناسيا أنّ الوزارة والنّقابات هما المتسبِّب الرئيسي في تفشي ظاهرة الانقطاع المبكّر عن الدراسة، نتيجة الإشتباكات والصراعات الّتي أثّرت على المسار التّعليمي للتّلميذ وجعلت منه ضحيّة هذه الأزمة الخانقة في نقاشات الأخذ والردّ بين مطالب نقابي التّعليم من منح وامتيازات ومماطلة الوزارة.
لا يخفى علينا جميعا إنّ الفقر والتّهميش بالعديد من المناطق الدّاخليّة وبُعد المدراس عن بعض العائلات، ساهم في تفاقم أزمة الإنقطاع المبكّر عن الدّراسة دون سنّ 16 عشر، أيضا ما شهدته هذه العائلات من صراعات متواصلة في قطاع التّعليم وإرتفاع نسبة البطالة لأصحاب الشهادات العليا وانتظارهم الوظيفة لمدّة سنوات طويلة، زاد من قناعاتهم في إنقطإع أبنائهم عن الدّراسة وتشغيلهم في القطاع الفلاحي لتحسين دخل العائلة.
وعندما نركّز في تصريحات حاتم بن سالم في دعوته إلى عودة إجباريّة مناظرة السيزيام وحتى مناظرة ختم التّعليم الإعدادي (النوفيام)، نجد تضاربا في ما يدعو إليه وكأنّ التّعليم في تونس اليوم يعتمِر أبهى حلّة وبين الواقع المرير الّذي تثبته الأرقام السّالف ذكرها، في نفس السّياق أثارت التغيّيرات التي أقر بها بن سالم في طرق إجتياز وإصلاح إمتحان السّيزيام ردود أفعال مختلفة ومتناقضة.
على خلاف سابقتها، ستُجرى امتحانات الثلاثي الثالث لهذه السنة الدراسية بخصوص السادسة ابتدائي بشكل موحّد، أيام 31 ماي و1 و3 جوان 2019، حوالي 170 ألف تلميذ من المسجلين في المدارس الابتدائية العمومية والخاصة سيجرون هذه الامتحانات. وفي سياق الاستعداد لنجاحها تولّت الإدارة العامة بوزارة التربية إعداد مواضيع الاختبارات المتمثلة في مواد العربية والفرنسية والانجليزية والرياضيات والإيقاظ العلمي.
في هذا الإطار، تحوّلت المدارس الابتدائية إلى مراكز امتحانات على أن يتم توزيع التلاميذ على قاعات الامتحانات بمعدّل 20 تلميذا في كلّ قسم، وعلى أن يتم إصلاح الاختبارات من المعلمين الذين لا يدرّسون بشكل مباشر المُمتحنين.
أثار هذا الإجراء من حيث توحيد الامتحانات على مستوى وطني عدّة مسائل وإشكاليات عديدة، إذ ليست المدارس جميعها توفّر على نفس المقاييس التّكوين للتلاميذ من حيث الطاقم التكويني والبنية التحتية بوصفها جميعها تؤثّر على المستوى التعليمي للتلاميذ، إضافة إلى الفروقات الشاسعة بين التعليم الخاص والتعليم العام.
وهذه الامتحانات ما هي إلا موعد اختباري جديد لسياسات وزارة التربية وحالة الهشاشة البيداغوجية التي تمرّ بها دون الاستقرار على رأي نهائي وقاطع من حيث الحسم في عودة مناظرة السيزيام بشكل واضح وقطعي من عدمها، باعتبارها الإختبار التقييمي الأوّل للتّلميذ إضافة إلى امتحان الباكالوريا.
أما بخصوص امتحانات البكالوريا فمن المقرر أن تجرى اختبارات الدورة الرئيسية يوم 12 جوان 2019 إلى غاية يوم الأربعاء 19 جوان 2019، على أن يقع إجراء امتحانات دورة المراقبة يوم الثلاثاء 2 جويلية إلى غاية 5 جويلية 2019.
في هذا السياق تبدو وزارة التربية غير مهتمة إلا بالسياسة الأمنية تجاه التلاميذ بعد أن حذّرت في بلاغ لها أنّ إجراء المناظرة يمنع من اصطحاب أيّ جهاز الكتروني مهما كان نوعه إلى مراكز الامتحان، أو استعمال الحبر الماحي (BLANCO) أو التحرير بقلم الرصاص، بالإضافة إلى منع التلاميذ من مغادرة القاعة نهائيا ما لم تمرّ ساعة على الأقلّ من بداية اختبارات المواد الإجبارية و30 دقيقة على بداية اختبارات المواد الاختيارية، مشدّدة في ذلك على عقوبات الغش وسياسة معاقبة مرتكبيها، بالإضافة إلى هذا الإجراء، اعتبر وزير التربية الامتحان التطبيقي للبكالوريا رياضة فاسد وإهدار للمال، وقال إنّ الأعداد المُميّزة التي يتحصّل عليها التّلاميذ في هذا الإمتحان هي فقط وسيلة لتساعدهم لتحسين معدّلاتهم في البكالوريا، ممّا أثار حفيظة أساتذة الرياضة والمشرفين على هذا الإختبار واعتبروا هذا تشكيك في مؤهّلاتهم وتعديّا صارخا على نزاهتهم.
هذا الأمر لا يعكس إلا ضربا من الاضطراب في صلب وزارة التربية في حدّ ذاتها وفي سياساتها التعليمية، إذ هي تدرك سلفا وتتوقع مسائل الغش ممّا يؤكّد فشلها في تكوين وتربية أجيال تعوّل على معارفها وقدرتها على فنّ طرح الأسئلة دون أدنى تحيّل أو أمر آخر.
وأقرّ وزير التربية حاتم بن سالم اليوم 30 ماي 2019، في تصريحه لأحدى الإذاعات، إنّ منظومة التّعليم لم تعُد ناجعة ويجب إعادة هيكلتها وتنظيمها، بدءا بإدخال تغييرات في البرامج التّعليميّة التي لم تتغيّر منذ التّسعينات في التّعليم الإبتدائي وصولا إلى التعليم الثانوي، وبيّن أن وزارة التربية تعمل على إدخال تكنولوجيات حديثة متطوّرة مثل رقمنة المواد التعليميّة والتخلّي عن الكتب الورقيّة، فأيّ رقمنة تتحدّث عنها في ظلّ حالة فقر التّلاميذ وانقطاعهم عن الدّراسة !!
وأعلن عن تأسيس مركز وطني للتّكوّين، يعمل على إعادة تأطير وتأهيل المعلّمين والأساتذة وعلى تحسين قدراتهم البيداغوجيّة في التّعامل مع التّلميذ لتشجيعه على الدّراسة والتميّز، دون الرّجوع والتّعويل على الدّروس الخصوصيّة التي تضرّ بالمنظومة التربويّة والتي تعتمد على المحسوبيّة والتمييز بين التلاميذ، ودعا إلى ضرورة إلغائها.
وأقرّ بن سالم بضعف وتردّي البنية التحتيّة للمؤسّسات التربويّة في مختلف ولايات الجمهوريّة، وأفصح عن وجود 2000 مليار تمويل لفائدة وزارة التربية من طرف شركاء أجانب، تنقسم هذه التمويلات إلى جانب هام من القروض التي اقترضتها تونس، وقسم كبير من الهيبات التي تحصّلت عليها الوزارة، ودعا كل المتدخلين في الشأن التربوي من أساتذة وتلاميذ إلى أهميّة المحافظة على المؤسّسات التربويّة.
لا يجب أن ننسى إنّ التعليم إجباري في تونس وليس من العدل أن يمرّ كلّ إطار تربوي، وغيره من المسؤولين في تونس، مرور الكرام على تفاقم أزمة الإنقطاع المبكّر عن الدّراسة، يجب على كل هذه الأطراف أن تُبادر بكل الوسائل لإصلاح المنظومة التربويّة، بعيدا عن الواقع السياسي المرير الّذي تمرّ به بلادنا.
إذا أردنا أن نخلق شعب واعي وفاعل ويمكنه أن يضطلع بدور هام في الإنتقال الإيجابي بوضعيّة البلاد على امتداد سنوات، هذا يتطلّب خلق وبناء جيل متعلّم ومتميّز.
يسرى رياحي
تعليقك
Commentaires