أزمة الصحافة المكتوبة متواصلة ...
لا يمكن للاعلان عن تأسيس مجلس الصحافة المُنتظر طويلا الا أن يعيد الى الأذهان أنّه في مارس 2020 توقفت لأول مرّة في تاريخ الصحافة التونسية المطابعُ عن العمل، أغلقت أكشاكُ الصّحف، وتوقفت أهم العناوين عن الصدور ورقيّا وعاشت المواقع الالكترونيّة أزمة خانقة وكادت الصحافة المكتوبة أن تسقط من حسابات القرّاء وكاد هذا القطاع المُشغّل أن يتخلى عن صحفييه قبل أن تستجمع صاحبة الجلالة قواها- بدعم "بسيط" من الدولة واصرار على النجاة.
ولا يمكن لهذا التزامن الا أن يحيلنا الى خطورة المأزق الهيكليّ الذي تتخبّط فيه الصحافة المكتوبة بقطاعيها الالكتروني والورقي وأنّ هذه الأزمة كانت ضمن أهداف تأسيس هذا المجلس الساعي لارساء صحافة جودة ومأسسة التعديل الذاتي كسبيل للارتقاء بالمضامين الصحفية. ولكن، هل تعيشُ الصحافة التونسية أزمة مضامين فقط حتى نتجاهل أبعاد الاشكال الأخرى ؟ الاجابة لا.
" إن مجلس الصحافة الية ضرورية لتطوير القطاع عبر إصلاحات هيكلية. لا حاجة لنا بمجلس يكون محكمة شرف، إن الإصلاح هيكلية أو لا يكون." يقول الصادق الهمامي، أحد أعضا المجلس والباحث في الحصافة وعلوم الاتصال.
النموذج الاقتصادي للصحافة المكتوبة قائم على الإشهار. سنة 2005 وصلت مداخيل الإعلانات بالصحافة المكتوبة التونسية إلى 30 مليون دينار تونسي وخلال عشر سنوات انخفضت هذه المداخيل حيث وصلت إلى نسبة 33 بالمائة في 2015 ومع غياب أيّ تقارير عن الوضع الحالي سنة 2020، يمكننا أن نتوقع أن الوضع الان أسوأ من خمس سنوات مضت. مقابل تزايد المستشهرين في الإعلام السمعي البصري تراجع نصيب الصحافة المكتوبة و ازداد عزوف المعلنين عن إختيار المكتوب كمحمل لإعلاناتهم لتقلص جمهوره كل يوم.
الصادق الهمامي يؤكد أن الصحف لازلت تعول على نماذج إقتصادية معدةّ لسوق التسعينات متى كان مجال الإعلانات في الصحافة المكتوبة يشهد أوجه وكان جمهور القراء أوسع. ومع وجود محاولات فرديّة للتفكير في "موديل" إقتصادي جديد يناسب عصرًا متغيرا، يبدو أن مشكلات التمويل العمومي والرقمنة تحصد إهتماما أكبر. في خضم هذه البيئة الجديدة لا يمكن لنموذج واحد أن يعمم على الجميع بل يجب اعتبار خصوصيات المؤسسات. في هذا السياق يعتبر الصادق الهمامي أن النماذج الاقتصادية للصحف التونسية غير مبتكرة ومواردها غير متنوعة، كما أن شبكات توزيعها محدودة.
يُعد دعم الدولة من أهّم ركائز إصلاح قطاع الصحافة المكتوبة، في ظلّ غياب نموذج إقتصادي يضمن استقرارها المالي وصعوبة اجبار الجمهور الذي تعود على محتوى "مجاني" أن يدفع مقابل الولوج للموقع الاخباري او النسخة الالكترونية للصحيفة. في فرنسا يوجد شكل صناديق دعم حكومية للصحافة المكتوبة وبرامج لدعم الانتقال الرقمي والصحافة المحلية وصحافة القرب بالاضافة الى مساعدات مباشرة مالية يتحصل عليها مديرو الصحف.
في سياق عالمي ليست تونس بمعزل عن العالم و"صحافاته المتعددة" التي تُهددها الميديا الجديدة والتخلي عن فعل القراءة مُقابل التصفح السريع والصورة والفيديو. في تونس، الصحافة المكتوبة هي الميديا الأقلّ "إستهلاكا" في تونس، فحوالي 12 بالمائة فقط من التونسيين يعتمدون على الجرائد في إستقاء المعلومات. شهدت الصحافة الورقيّة التونسية تراجعا مُفزعا، من 260 عدد سنة 2011 إلى 50 عدد حاليا في الأسواق لا يتجاوز عدد النسخ التّي تُباع منها 100 الف نسخة حسب تقرير جمعية مديري الصحف. المصدر الأساسي لتمويلات القطاع هو عائدات الاشهار وبيع الجرائد، لكن الاشكال يكمن في انخفاض عدد القراء والعائدات الاشهارية والغاء العمل بالانخراطات سنة 2012، مما جعل ديون قطاع الصحافة الورقية لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تصل إلى 8 ملايين دينار حاليا. إن غياب التعديل فيما يتعلق بتوزيع الاشهار العمومي يبقى مصدر قلق بالنسبة الى العديد من مديري الصحف. صحف أغلقت تماما جريدة مثل "الصريح" و"التونسية" و"الإعلان" وأخرى غيرت صيغتها من أسبوعية إلى شهرية كحال "اخبار الجمهورية" وأخرى في طريقها إلى الإفلاس.
غلقت وكالة الإتصال الخارجي التي كانت تتولى توزيع الاشهار والاشتراكات العموميّة. ومع إغلاقها أصبحت الصحافة الورقية تواجه ثغرة هيكلية متمثلة في غياب هيكل ينظم قطاع الإشهار العمومي.
افتقار الصحافة المكتوبة حاليا للجودة التي تمكنها من شدّ القراء اليها هلى غرار الصحافة العربيّة التي تتجه نحو الصحافة الإنسانيّة والتحليلات وصحافة الرأي هو سبب رئيسيّ لتراجع نسب السحب والمقروئية. فقارئ القرن 21 لم يعد يبحث عن المعلومة البسيطة بين طيات الجريدة، ذلك أن المعلومات موجودة حيثما ولىّ وجهه. إن القارئ لم تعد تستهويه الأشكال البدائية لصياغة المعلومة، ولا الأشكال التقليدية لتناول الخبر. صحافة اليوم مطالبة بتبني المقاربات العالمية الجديدة في الصحافة، عبر تكوين صحافييها في الأشكال الجديدة كالإستقصاء وصحافة البيانات وغيرها وهي تقنيات وأنماط من شأنها أن توسع قاعدة قرّائها وهو ما سيتيح لها الحصول على نصيب من الدعم العمومي.
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires