alexametrics
الأولى

تعليق علمي على قرار قاضي التحقيق بمنع بث تحقيقات محل وفاة أطفال الرابطة

مدّة القراءة : 6 دقيقة
تعليق علمي على قرار قاضي التحقيق بمنع بث تحقيقات محل وفاة أطفال الرابطة

 

تعليقا على قرار قاضي التحقيق بالمكتب العاشر بالمحكمة الابتدائية بتونس الصادر بتاريخ 14 مارس 2019 تحت عدد 1885 والقاضي بمنع بث برنامجين تلفزيين بقناتي الحوار التونسي وقرطاج + (الحقائق الأربع و50/50)

يمكننا تقديم ملاحظات أولية، بأنّ عملية التدخّل القضائي في وسائل الاعلام لها سوابق، اذ يمكننا بشكل عام التذكير بالحالات الآتية:

  • نوفمبر 2010 منع التناول الإعلامي لقضية الطفل منتصر الذي تمّ اختطافه.
  • نوفمبر 2012 منع بث حوار مع سليم شيبوب صهر الرئيس السابق بن علي على قناة التونسية.
  • فيفري 2013 منع بث حوار كان سيبث عبر إذاعة موزاييك لسيف الله بن حسين
  • جانفي 2015 منع بث حوار مع الأمني المعروف باسم ''شقيف'' والمتهم في قضايا تعذيب في برنامج ''لاباس'' على قناة الحوار
  • نوفمبر 2017 الوكالة الدولة العامة للقضاء العسكري تمنع تناول قضيّة رجل الأعمال الموقوف شفيق الجراية واستندت الى الفصل 49 و 102 و 109 من الدستور
  • ماي 2018 منع بث الكاميرا الخفية "شالوم"  على قناة تونسنا بموجب بحكم قضائي .
  • ثم مارس 2019 منع تناول ما يعرف بقضية الولدان الذي تمّ قتلهم

السؤال المطروح هنا، هل يحق للقضاء منع البث بشكل مسبق؟

للإجابة عن هذا السؤال، نحن ازاء موقفين، موقف يندّد بالمنع باعتبار وضوح الفصل 31 من الدستور الذي يؤكّد عدم جواز الرقابة المسبقة على الحريات. وموقف ثان يعتبر أنّ العمل المهني الاستقصائي لا يجب أن يتعارض مع القانون وأنّ من ''كانت له سوابق في تزييف المادة الإعلامية يمكن مراقبته''

أيهما الأسلم قانونيا ومهنيا وأخلاقيا؟

بالنسبة الى الجانب القانوني، فانه

1-     بالرجوع الى الدستور يمكننا أن نلاحظ:

أ‌.       ينص الفصل 102 على أنّ « القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات.»

اذن القاضي مؤتمن على سيادة القانون وحماية الحقوق والحريات

ب‌.    «القاضي مستقل لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون.»

بما معناه أنّه لا يمكن للقاضي خرق القانون

ت‌.    الفصل 31 «حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات

لا تتمتع أي جهة بما في ذلك القضاء بسلطة الرقابة المسبقة على المضامين الإعلامية.

 

ث‌.    الفصل 109 ينصّ على أنّ «يحجر كل تدخل في سير القضاء.»، أي أنّ القاضي مستقلّ ولا يمكن التدخّل في أعماله وذلك بغاية عدم التأثير على الاستقراءات القضائية، والتدخّل هنا يمكن أن يكون مباشرا أو غير مباشر، ويقصد منه تغيير مسار القرار القضائي في جانب منه.

 

استنتاج واشكال: الدستور يضمن الحرية ويمنع الرقابة المسبقة، وهذا لا جدال فيه ولكن هل يجب التوقف عند هذا الحدّ؟ وهل نحن أمام حرية مطلقة أم حرية لها حدود؟ هل يمكن أن نتحدّث عن جغرافيا لتلك الحرية؟

ج‌.     لقد وَضَع الدستور خمسة ضوابط لتلك الحرية، وهي مقتضيات حقوق الغير-  الأمن العام - الدفاع الوطني - الصحة العامة - الآداب العامة.

 

ونصّ على ذلك وفقا لشروط  في الفصل 49 «يحدّد القانون الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها. ولا توضع هذه الضوابط إلا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أوالصحة العامة، أو الآداب العامة، وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها. وتتكفل الهيئات القضائية بحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك. لا يجوز لأي تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور. »

نفس تلك المقتضيات نصّت عليها المعايير الدولية، من خلال المواثيق والمعاهدات... مثلا نجدها في المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية في النقطتين أ و ب، وفي الميثاق الأوروبي لحقوق الانسان والميثاق الأمريكي لحقوق الانسان وحتى الميثاق العربي...

وهي نفس المبادئ التي نجدها في الفصل الخامس من المرسوم عدد 116 لسنة 2011 المتعلّق بحرية الاتصال السمعي والبصري وبإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي والبصري.

 

اذن نحن أمام اشكال، هل يمكن فهم الفصل 31 من الدستور بمعزل عن الفصل 49؟

لقد أجاب الفصل 146 من نفس الدستور عن هذا السؤال عندما نصّ بوضوح على أنّه ''تُفسّر أحكام الدستور ويؤوّل بعضها البعض كوحدة منسجمة''

اذن لا يمكننا بهذا المعنى الاحتجاج فقط بما جاء في الفصل 31.

لكن هل يمكن أن نجد إجابة عن السؤال الأصلي، هل يحق للقضاء منع البث بشكل مسبق؟ في النصوص القانونية ذات الصلة، والمقصود المرسومين 115 و 116 لسنة 2011.

 

بالرجوع الى الفصل 61 من المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المتعلّق بحرية الصحافة والطباعة والنشر فانه ينص على أنّه: «يحجّر نشر وثائق التحقيق قبل تلاوتها في جلسة علنية»

اذن لا يمكن الاحتجاج في هذا المجال بمسألة سرية الأبحاث والتحقيقات، لأنّ المشرّع منع نشر وثائق التحقيق قبل تلاوتها في جلسة علنية.

لا يمكن للقاضي بأي حال  من الأحوال أن يحتجّ بمبدأ سرية الأبحاث والتحقيقات باعتبار عدم وجود أي نصّ قانوني ينصّ على ذلك، وبالتالي فانّ اللجوء على ذلك المبدأ فيه الكثير من التوسّع في تضييق الحرية.

في مقابل ذلك وعند الرجوع الى المرسوم عدد 116 لسنة 2011 المتعلّق بحرية الاتصال السمعي والبصري وبإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي والبصري.

فانّ الفصل 27 منه ينصّ على أنه «تتعهد الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري من تلقاء نفسها أو بطلب مسبق بمراقبة مدى احترام المبادئ العامة لممارسة أنشطة الاتصال السمعي والبصري طبقا للتشريع الجاري به العمل.»

كما ينصّ الفصل 28 من نفس المرسوم بوضوح على أنه في حال علم المراقبين بوقائع تمثل مخالفة للنصوص الجاري بها العمل...  يمكن رفع الأمر إلى السلطات الإدارية والقضائية والمهنية المختصة.

وهو نفس ما ذهب اليه الفصل 29 ـ في حالة خرق المقتضيات والالتزامات الواردة بالنصوص الجاري بها... يمكن إحالة الأمر إلى السلطة القضائية أو المهنية المختصة إذا استوجب الأمر ذلك.

ويمكن للهيئة إحالة الملف على القضاء العدلي اذا تبين لها وجود جريمة.

أما بالنسبة الى الجانب المتعلّق بأخلاقيات المهنة، فانّ كلّ المواثيق تعطي أولوية لقيمة الحقيقة ولكنها تربطها أيضا بالمصلحة العامة، وهو ما يعني أنّ بث أو عدم بث التحقيقات المتعلقة بما يعرف بقضية الولدان، هل سينير الحقيقة التي هي جوهر المصلحة العامة أم أنه سيساهم في اخفائها أو توجيهها وهو جوهر الاعتداء على المصلحة العامة. وهنا لا يمكن الحسم في الأمر الاّ من خلال فهم مدى استجابة ما تقدّهم تلك البرامج من مادة منسجمة مع أخلاقيات المهنة.

في هذه الحالة، فإنّنا نكون أمام مجال واحد له مرجعية تحديد مدى الانسجام مع أخلاقيات المهنة، أولا مجلس الصحافة، وهذا اشكال لم يتمّ حلّه الى حدّ الآن اذ هناك هيئة تأسيسية ولم يتمّ الى حدّ الآن احداث هذا الهيكل، الاّ بعد مصادقة مجلس نواب الشعب على القانون الأساسي الجديد المتعلّق بحرية الصحافة والطباعة والنشر.

وفي ظلّ غياب ذلك، فانّ المسألة من صميم اختصاص المنظومة التعديلية التي تمثلها الهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي والبصري (الهايكا)، اذ يخوّل لها الفصل 5 من المرسوم عدد 116 ابداء النظر في القضايا المتعلّقة بالقيم والضوابط لحرية الاتصال السمعي والبصري.

اذن يمكننا أن نستنتج، غياب مجلس للصحافة وعدم تدخّل للهايكا، الأمر الذي ترك فراغا هيكليا وقانونيا، باعتبار أنّ احترام  أخلاقيات المهنة شرط من شروط عدم مساءلة الصحفي حسبما نصّ عليه الفصل 13 من المرسوم عدد 115 لسنة 2011 « لا تجوز مساءلة أي صحفي على رأي أو أفكار أو معلومات ينشرها طبقا لأعراف وأخلاقيات المهنة كما لا تجوز مساءلته بسبب عمله إلا إذا ثبت إخلاله بالأحكام الواردة بهذا المرسوم.».

هذا الفراغ وغياب النص القانوني الواضح والحاسم فسح المجال أمام القضاء للتدخّل.

يمكن الاستئناس ببعض التجارب الدولية لفهم الاشكال

في الولايات المتحدة الأمريكية، صدر قرار قضائي وحيد بتاريخ 15 جوان 1971 ضدّ صحيفة نيويورك تايمز يتناول قضيّة التدخّل الأمريكي في الفياتنام بالاستناد الى وثيقة مكوّنة من 47 صفحة تمّ اعدادها بطلب من روبارك ماك نامارا Robert McNamara عندما كان كاتب الدولة للدفاع، وقد أصدر القاضي الفدرالي قرارا مؤقّتا بمنع نشر المقال.

سنة 2011 تمّ الكشف في بريطانيا عن تعمّد صحفيين في صحيفة The News of the world   التجسس على اتصالات وتسجيلات العديد من الشخصيات والأمنيين، فتمّ تكليف اللورد Lord Brian Levesson الي أعدّ تقريرا سنة 2012 اعتبر فيه ''أن الصحف "أضرت بحياة أبرياء" على مدار عدة عقود''

وقال القاضي ليفيسون لقد ثبت بالأدلة "وبشكل واضح أنه على مدار 30-35 عاما الماضية، وربما قبل ذلك، كان للأحزاب السياسية الحاكمة أو المعارضة علاقة قوية بصورة مبالغ فيها مع الصحف بصورة لم تصب في مصلحة المواطنين."

وأصبح بإمكان الدولة في بريطانيا التدخّل لفرض بعض المعايير والقواعد.

في فرنسا، تفرض CSA الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري قواعد تلتزم بها عموما وسائل الاعلام وفي بلجيكيا أيضا فإنّ الهيئة الاتصال السمعي والبصري CSA ومجلس الأخلاقيات الصحفية CDJ وجدا الصيغ الضرورية لمعادلة متوازنة بين التعديل باستعمال القانون والتعديل الذاتي بالرجوع الى المدوّنات الأخلاقية.

إيجاد الصيغ المهنية الملائمة لحل الإشكاليات ووضع حدّ من ناحية للتضييق على الحرية سواء من قبل القضاء أو غيره ووضع حدّ لتجاوز السلطة الذي يمكن أن ترتكبه وسائل الاعلام.

استنتاج

  • اذن يمكننا أن نستنتج أنّ الحكم على أنّ البرنامج التلفزي احترم أخلاقيات المهنة أم خرقها لا يمكن الحسم فيه الاّ بصورة لاحقة.
  • إنّه لا يمكننا تجريم أي عمل الاّ بعد وقوعه ووفقا لنصّ سابق الوضع وفي حدود زمانية مضبوطة.
  • لا يمكن بأي حال من الأحوال للقاضي الجزائي أو المدني (عدلي أو عسكري) أن يستند الى مبدأ سرية الأبحاث والتحقيقات لأنّه لا وجود لأي نص قانوني يحدّد ذلك.
  • لا يمكن للعمل الصحفي أن يتعمّد نشر وثائق تحقيقية قبل تلاوتها في جلسة علنية.
  • لا يمكن للعمل الصحفي أن يمسّ من الضوابط الخمسة المنصوص عليها بالفصل 49 من الدستور وبالمواثيق الدولية.
  • يبقى مجلس الصحافة (بصدد الاحداث) والهيئة العليا المستقلّة للاتصال السمعي والبصري واجب التدخّل للقيام بالدور البيداغوجي والتعديلي لمنع بلوغ الأعمال الصحفية الى القضاء.
  • الاعلام والقضاء يلتقيان في العديد من التقاطعات أهمها الحقيقة، بالنسبة الى القاضي فانّ معيار الحقيقة هو القانون أمّ بالنسبة الى الصحفي فانّ معيارها هو الواقع، وهنا يمكن إيجاد أرضية التقاء بين الطرفين في تحديد الضوابط والمقتضيات وهذا أمر تستوجبه حرية الصحافة.


منجي الخضراوي

 

تعليقك

(x) المدخلات المطلوبة

شروط الإستعمال

Les commentaires sont envoyés par les lecteurs de Business News et ne reflètent pas l'opinion de la rédaction. La publication des commentaires se fait 7j/7 entre 8h et 22h. Les commentaires postés après 22h sont publiés le lendemain.

Aucun commentaire jugé contraire aux lois tunisiennes ou contraire aux règles de modération de Business News ne sera publié.

Business News se réserve le droit de retirer tout commentaire après publication, sans aviser le rédacteur dudit commentaire

Commentaires

Commenter