عن لُغوية قيس سعيد – الحشو والتكرار
لِم قد لا يرتقي الوصفُ الى وصفِ منعوتٍ ما؟ لمد الكلام، وتمطيط الحروف، مثلما نفعل في هذه الجملة، حتى نعوض اللسان البدائي الذي يكتفي بأدبيات الجمل البسيطة الى اللسان البليغ الذي يستعرض الزاد ويبدل الأفعال الثلاثية تامة المعنى بأخرى على أوزان فخمة، متعدية، تستوجب أحوالا وتفاسيرا. اللغة كأداة تفكير، تشكل طريقة التحليل والتخطيط وتنعكس على تمثلاتنا للعالم، ربما نتمكن من فهم شخصية غامضة، عبر تفكيك لغتها.
سُراة العتاد اللغوي (لفظة منمقة لنقول، من يملكون لغة ثرية) يصرون على الاستعراض حتى في أقصر الجمل، يؤثثونها بطرق البديع، وهي طرق بلاغية لتحسين أوجه الكلام. بعد ما قيل وكتب في خطاب رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 23 أكتوبر أمام مجلس النواب المتخلي، فرزت الغلبة من المحللين محتوى الخطاب ولم يتطرق الا قلة الى لغوية الرئيس. من هو قيس سعيد لغويا ؟ عكس سعيد السياسي/البسيط، انه شخصية بلاغية مركبة.
الاستطراد، سوق الكلام
فرادة قيس سعيد أن لغته لا تهدأ. على كل اسم أن يتبع بنعت، وعلى كل جملة أن تتضمن حالا، يُطوع صوته الأجش الى تلاوة لما يقول، حتى وان كانت تحية أو سلاما. المثال الأول على هوية الرجل اللغوية هو مداخلاته في المناظرة الرئاسية التي جمعته بمنافسه في الدور الثاني نبيل القروي. رغم ان التونسيين على أُلفة مع خطاب سعيد الخبير الدستوري، الا أن المناظرة كانت المصافحة الجدية مع الرأي العام، خاصة أنها قامت على مقاربة المقارنة في تمثلات المشاهدين بين عربية سليمة وخليط من العربية واللهجة العامية والفرنسية التي تخللت اجابات نبيل القروي. موضع المقارنة بين لسان سعيد الفصيح ومهمهة القروي جعل الرئيس الحالي في أفضلية أمام العامة سهلة الانبهار بما لا تقدر عليه. مداخلات سعيد في المناظرة كانت الترجمان للاستطراد المَرضي الذي يشوب جمله، فيفسد تماسك الفكرة أو الحجة، كأن يتحدث عن التطبيع مع الكيان الصهيوني، يتوقف لسرد حكاية والده مع جيزيل حليمي، ثم يعود للحديث عن الموضوع الأصلي. الاستطراد هو قطع الجملة بجملة أخرى ذات صلة ثم العودة للجملة الأولى. يميل قيس سعيد الى الخروج من دائرة معنى إلى دائرة معنى اخر، اما بالتشبيه أو الإخبار، لاعطاء مثال تقريبي او سرد قصة عرضية. من الواضح أن الأكاديمي اكتسب هذه العادة الخطابية من تجربتين، أولا تجربة التدريس التي يعد الاستطراد فيها أداة تعليمية حتى يفسر للطالب البسيط مواطن اللُبس فيقطع فكرة بفكرة ثم يلتقطها ويعود لسياق الدرس. وثانيا من التفكرية عبر الكتابة، كون الرجل صاحب دراسات، فقد اكتسب عادة التفسير عبر الكتابة- اذ أن توليد الأفكار على الورق يفضي الى الاستطراد لايضاح الصورة للقارئ. غير ان التمادي في استطراد الأفكار يمكن ان يولد ارتباكا خاصة ان كانت مساحة الاجابة قصيرة مثل زمن الاجابة عن اسئلة المناظرة.
تجده يتحدث عن حكم الاعدام في القانون التونسي، فيقفز للحديث عن استمرارية الدولة ويتمادى في اجابته، ويعود الى موضوع الاعدام ولا يوفيه حقه من التعليل. تجده يتحدث عن مبادرة تشريعية لصالح الأمنيين، فيستطرد للحديث عن مرابطتهم في الجبال، ويضيع بين الاشادة والنعوت حتى يأكل الاستطراد نصف وقت الاجابة وتبقى المبادرة التشريعية ضبابية في أعين واسماع المشاهدين. ان المبالغة في هذه العادة تستحيل خروجا عن النص بلغة المسرح، ورغم أنها تفضي في ميادين الابداع عن ذكاء الا ان السياسة ليست مسرحا وسعيد ليس ممثلا. السياسة تبنى على الاتصال السليم الواضح، والتصريح (statement) ، ومن الخطأ مواصلة العادات ذاتها في مقام مخالف، على الرئيس اذ في قادم الأيام، أن ينزع عنه رداء الأكاديميا وصدى "رسالة الغفران" في حلقه، أن لا ينسى وهو يخاطب شعبه أنه ليس في مدرج يحاضر طلبة العلوم السياسية، عسى أن يحيط نفسه بمستشارين واتصاليين يدركون ذلك.
قيس سعيد رجل الانشاء
ليس الدستور/ القانون سردية انشائية، بل هو خبر في كُليته اللغوية. مع ان رئيس الجمهورية امتهن تدريس القانون الدستوري، فانه لم يكتسب منه الاسلوب الخبري المختصر. جمل قيس سعيد في كل حضور اعلامية انشاء رومنسي. فيما يوحي الاسلوب الخبري بالواقعية كأفق بلاغي، فان الانشاء في اللغة له أغراض مثل التعجب والتمني والدعاء وغيره. في خطاب 23 أكتوبر، كان الانشاء سيد الجُمل وتمادى الرئيس في الحديث "عن التونسيين الذين أذهلوا العالم بأسره والشعب الذي استنبط طرقا جديدة لثورة شرعية لم يسبقه اليها أحد وهو ارتفاع شاهق غير مسبوق في التاريخ".. ماذا تعكس هذه النزعة الانشائية لدى سعيد؟ في قراءة أولى، تفضيل الوصف على الفعل احالة كون الشخصية تميل الى النظري أكثر من التطبيقي. أما المغالاة في تضمين الخطاب نعوتا وأحوالا مبالغة عن الشعب، تحيل الى أن المتحدث يراهن على الشعب ويستميله لكنه لا يعرفه. قد لا يكون سعيد باحثا عن تجذير ذلك كشعبوية شمولية (تؤدي الى ديكتاتورية) بل ساعيا الى بناء ديمقراطية شعبية لكن أسلوبه المبالغ في الانشاء والمديح والثناء، جعل منه شخصية شعبوية لغوية –على الاقل. بيار بورديو، يعتقد أن الاختلاف الوحيد بين الشمولية الدينية والشعبوية هو تغيير لفظة ''الله'' بلفظة "الشعب" ولغويا، كرر سعيد كلمة الشعب مئات المرات في حضوره الاعلامي النادر. هذا التكرار العنيف يحيل الى أنه يحتكر هذا المفهوم الهلامي غير المتجانس لمجموعة من الاشخاص المختلفين ذوي المطالب المختلفة ويحاول اخفاءه في اللغة ومكيجته حتى يظهر كوحدة متكاملة هو صوتها في المشهد السياسي. تجليات الانشاء في العربية هو أنه أسلوب بلاغي للحديث عن الحلم والأمنيات والماورئيات (التمني، الدعاء..). يحيل ذلك الى أن سعيد، يعول على العاطفة والحس لدى الجماهير وربما هو نفسه عاطفي أيضا. "النّاس لا يمكنها أن تعيش بدون وهم، أو أمل. النّاس لا تفضّل معرفة الحقيقة." هذا ما يقوله لوبون في كتاب سيكولوجيا الجماهير منذ أكثر من قرن وهو ما ينطبق بصورة أو بأخرى على خطاب قيس سعيد، على مستوى المفردات والسياقات. يقدم وجبة انشائية نظرية معومة لجمهور عاطفي، عن حسن أو سوء نية، وينجح في كل مرة في استثمار صمت الأغلبية التي لا تجيد الانشاء، ليقول "أنا صوتكم". في الواقع، استخدام ثنائيات هم/نحن أو انتم/نحن لبناء جدار بين "الشباب" والبقية أو "الشعب" والبقية ليس الا تشريعا للعداء والتقسيم حتى وان لم يكن مقصودا. على قيس سعيد في قادم الايام أن يحرص على جر مفهوم الوحدة الى مفرداته، والتوقف عن احتكار الضمائر اللغوية، لأنه الان رئيس كل التونسيين على حد سواء.
الحشو لملأ الفراغات
رغم الانبهار بلسان قيس سعيد العربي وفصاحته، فان مواطن الخطأ جلية لمن يريد أن يراها. أما من يعتبر أن في خطاب الرئيس قدسية لا يجب أن تنتهك، فهو خائب. خطاب 23 أكتوبر كان مهرجان حشو لغوي لملأ الفراغات السياسية. كيف؟ بسيط. لنعد الاستماع الى خطابه الذي يعد 25 دقيقة من الزمن كان بالامكان اختصاره في عشر دقائق لولا الزخرفة والاستعراض. ولكن هذه المرة لنستمع اليه بهدوء دون أن تؤثر فينا اللحظة التاريخية والتصفيق "ارتفاع شاهق غير مسبوق، ثورة غير مسبوقة، أدوات غير مسبوقة، حالة غير مسبوقة (في جملة واحدة)، من اختار طريقا اخرى وانتخب من أراد اختياره ، الرفيق الأعلى في السماوات العلى، تحت أي ذريعة أو اي مسمى، فحوى الموضوع ومحتواه، أشد وأقوى.." هذه الألفاظ كانت في زمن قصير، في سياق واحد، يمكن ان يُختزل بافكار واضحة ونعت واحد لكل منعوت واسم واحد دون الحاجة الى تضمين مرادفات ولفظة واحدة دون الحاجة الى اعادة صياغتها بطريقة اخرى دون فائدة تذكر. واذا أتممنا كامل الخطاب سنجد عشرات المرادفات المتكررة والافكار المعادة بصياغة مختلفة دون تغيير في المضمون. ليس عيبا، استعراض الزاد اللغوي لاضفاء جمالية على الخطاب الجاف، لكن المغالاة هي ماتجعل تزويق الخطاب حشوا لغويا بشعا، يحتل مساحة واسعة كان من المفترض أن تحتلها الأفكار. الحشو هو تكرار غير ضروري لنفس المعني بطرق مختلفة، ركاكة لغوية تستعمل لتعويض الصمت في المحادثات الشفوية ولملأ الفراغات في الأفكار المكتوبة. وفق المعجم، الحشو هو "الفَضْلُ الذي لا خَيْرَ فيه" ولا خير في الحشو الذي تعمد قيس سعيد مكيجة خطابه الأول به لأنه لم يحمل اي اضافة. ماذا يمكن ان يقول الحشو اللغوي عن قيس سعيد؟ في قراءة أولى أنه في حاجة دائمة الى تبرير نفسه، اما أن يعتقد أن المشكل منه وأن كلامه غير مفهوم للعامة، واما أنه يعتقد أن المشكل في العامة التي لا تفهم كلامه رغم أنه واضح. كما أن يمكن أن يحيل ذلك الى فراغ على مستوى الرؤية السياسية، تجعله يقترض من اللغة لتعويض خواء المضمون. الثرثرة، تدل أيضا على ازدحام الأفكار وعدم القدرة على ترتيبها، أو التوتر أمام موقف غير مريح.
هذا مايمكن أن نقوله من الحضور الشحيح لقيس سعيد، وقد نصيب أو نخطأ، لكن الثابت هو أنه من المنعش أن يكون لتونس رئيس فصيح. الكشف عن خبايا الشخصية اللغوية الكاملة لسعيد سيكون ممكنا في الفترة المقبلة. من الأكيد أن الرئيس سيكون حاضرا في الاعلام و سيخاطب الشعب ويكتسب منظورا أفضل عن خصوصيات الخطاب السياسي – نظرا لأن قيس سعيد لم يكن له خبرة سياسية في الماضي. يبدو الرجل مزدحما بالمخيال الأدبي القديم، والاستعارات الي يستحضرها ويجرها الى سنة 2019 كالاخشيدي الذي كان منذ شهور مجهولا لدى السواد الأعظم من الشعب. كما يبدو مسكونا بالمعاجم العروبية والدينية والفلسفية مما يتجلى في مفرداته، التي يجب الان أن تشحذ اتصاليا لتتلائم مع المنصب الجديد، الرئيس السابع للجمهورية التونسية.
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires