عيد الإضحى من مناسبة سعيدة إلى مأساة مريرة
عاشت العديد من المناطق في تونس أزمة كارثية نتيجة نقص وانعدام التزوّد بالماء الصالح للشرب، ولم يشعر أيّ أحد في هذه المناطق بطعم عيد الإضحى، حادثة الإنقطاع الكلّي في الماء مع انقطاع التيّار الكهربائي ولّدت حالة إحتقان لدى المواطنين ساهمت في اندلاع العديد من الوقفات الإحتجاجية.
الإجراءات المتخذة قبل عيد الإضحى
قبل عيد الإضحى بأيام، أعلنت وزارة الفلاحة أنّها اتخذت جملة من الإجراءات لضمان تمتّع المواطنين بالماء الصالح للشرب خلال هذه المناسبة، وأكّدت لجنة اليقظة والمتابعة بوزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، أن كلّ الإمكانيات المادية (قطع غيار للمنشآت المائية) والبشرية (فرق تدخل) متوفرة، لضمان استمرارية التزوّد بالماء الصالح للشرب، وأعلنت عن تحضير الصّهاريج المجرورة لتزويد المواجل والفساقي الجماعية عند الاقتضاء، وأوضحت اللّجنة أن فرقا للمتابعة المستمرة سيتم تجنيدها بمختلف الولايات للتدخل العاجل في أقاليم الشركة الوطنية للإستغلال وتوزيع المياه، وعددها 38 إقليما، وبالمندوبيات الجهوية للتنمية الفلاحية، خلال فترة العيد الذي يتزامن مع ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة، كما دعت اللّجنة التي أشرف على اجتماعها كاتب الدولة المكلف بالموارد المائية والصيد البحري عبد الله الرابحي، المواطنين إلى تأجيل بعض الاستعمالات الثانوية للمياه إلى ما بعد يوم العيد لتفادي الانقطاعات، وقد ارتفع الطلب على المياه بنسبة 32 بالمائة، حسب ذات اللّجنة، يوم 26 جوان 2019 وبنسبة 20 بالمائة يوم 06 أوت الجاري.
هذا من ناحية اتخاذ الإحتياطات اللازمة في عيد الإضحى، من ناحية أخرى، أعلن كاتب الدولة المكلف بالموارد المائية والصيد البحري عبد الله الرابحي، يوم 10 جويلية 2019، أنّ مخزون السدود في تونس بلغ هذه السنة مليار و700 ألف متر مكعب أي بزيادة حوالي 800 ألف متر مكعب مقارنة بالسنة الفارطة، نتيجة الكميات الهائلة من الأمطار التي تهاطلت على امتداد سنة 2018-2019.
هذه الإجراءات والأرقام المطمئنة للمواطن التونسي، الذي تخيّل أنّه سينعم بعيد إضحى في كنف أجواء من الراحة والهدوء مع العائلة والأقارب، قلبت كلّ الموازين وأثبت أوّل أيام العيد فشل الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه ''الصوناد''، في تنظيم الخارطة المائية في تونس، ولم يتمتّع المواطن التونسي سوى بمرارة المناسبة وقهر حين إنقطع الماء الصالح للشرب في ظلّ ارتفاع درجات الحرارة.
انقطاع الماء الصالح للشرب خلال عيد الإضحى
تحوّلت فرحة العيد في اليوم الثاني 12 أوت 2019، إلى حالة من الإحتقان والفوضى، حيث شهدت منطقة النحلي من ولاية أريانة إنقطاع كلّي للماء الصالح للشرب، فقام متساكني الجهة نساءا ورجالا وأطفالا، بإغلاق الطريق الوطنية رقم 8 الرابطة بين تونس وبنزرت، مما أدّى إلى تعطيل حركة المرور، وتدخّلت وحدات الحرس الوطني على عين المكان وحاولت التفاوض مع المحتجين لفتح الطريق، أيضا أطلق متساكني ولاية صفاقس صيحة فزع واستغاثة نتيجة لغياب الماء وانقطاع التيّار الكهربائي الذّي ساهم في إتلاف كميات هامّة من لحوم أضاحي العيد، وقام أهالي صفاقس ونشطاء بالمجتمع المدنى بوقفة احتجاجية يوم الثلاثاء 13 أوت 2019، أمام مقر ولاية صفاقس تنديدا بالانقطاع المتواصل لمياه الشرب تزامنا مع عيد الإضحى وارتفاع درجات الحرارة.
كما عمد في نفس اليوم، عدد من أهالي منطقة " بريكات العرقوب" التابعة لمعتمدية القيروان الجنوبية إلى غلق الطريق الرابطة بين القيروان وسيدي بوزيد وقاموا بإشعال العجلات المطاطية ومنع حركة المرور، احتجاجا منهم بتواصل انقطاع الماء الصالح للشرب الذّي حوّل مناسبة عيد الإضحى إلى كابوس، مما استوجب تدخّل الوحدات الأمنية التي قامت بالتحاور مع المحتجين وإقناعهم بضرورة إعادة فتح الطريق وعودة نشاط حركة المرور على أمل إيجاد حلول عاجلة، بالإضافة إلى ولاية نابل التي أغلق عدد من متساكنيها منطقة الشرف الطريق الرابطة بين معتمديتي قليبية والهوارية، في أوّل أيام العيد الأحد 11 أوت 2019، بإغلاق الطريق وإشعال العجلات المطاطية تنديدا بانقطاع الماء الصالح للشرب بصفة متكرّرة ومتواصلة تزامنا مع عيد الإضحى، هذه عيّنة من المناطق والولايات التي لم تنعم بعيد الإضحى كسائر المواطنين، وهذا دليل على فشل الحوكمة في بلادنا وسوء التصرّف وانعدام المسؤوليّة.
توضيح المسؤولين على الموارد المائيّة في تونس
برّر الرئيس المدير العام للشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه مصباح الهلالي، إنقطاع الماء الصالح للشرب ناتج عن الإرتفاع الكبير في درجات الحرارة الذّي تولّد عنه ارتفاع الطلب على المياه، واعتبر أنّ صبيحة أوّل أيام العيد 11 أوت 2019، تضاعفت فيه نسبة استعمال المياه في وقت متزامن بكامل مناطق الجمهوريّة، مما ساهم في الضغط على المنشآت والمعدّات المائيّة، وكانت هذه الفترة ''ذروة إستثنائيّة''، وأكّد في هذا الإطار أن "الصوناد" قد استعدّت لمثل هذا الظرف عبر ملء جميع الخزانات الموزعة على كامل تراب الجمهورية والبالغ عددها 1195، إلا أنّ 80% من مخزونها نفذ في ظرف وجيز لم يتجاوز الساعتين على إثر صلاة العيد، وأوضح الهلالي، أنّ الضغط الكبير على الرقم الأخضر المجاني الذي وضعته الشركة للتفاعل مع المواطنين وتلقي تشكياتهم، تسبب في عدم الردّ مباشرة على عديد المكالمات، وأفاد أنّ إنقطاع الماء الصالح للشرب خارج عن نطاق الشركة مفيدا أن الصوناد قائمة بواجبها، وكأنّه هنا يحمّل المسؤوليّة للمواطن، واستعرض في تصريحاته الإعلاميّة مشاريع كبرى من المبرمج إحداثها لفائدة العديد من الولايات لتفادي نقص المياه، ولكنّ كلّ هذا يبقى حبر على ورق أمام تفاقم آفة العطش التي أضرّت بالمواطنين وحتى بالحيوانات، واكتفى الهلالي بتقديم أسفه إلى كافّة المواطنين الذين يعانون من هذه الأزمة، وقال أنّ تونس بلاد تعاني من ''الفقر المائي''.
في نفس السياق، أوضح المدير الجهوي للشركة الوطنية لإستغلال وتوزيع المياه المكلّف بالجنوب، أحمد صولة، أنّ عدم تزويد عدد من المناطق والأحياء في صفاقس بالماء الصالح للشرب، ناتج عن محدودية الموارد المائية بالخزانات التي تزوِّد تلك المناطق، والسبب يعود إلى الانقطاع المتكرّر للكهرباء بمحطّات التزويد في المدة الأخيرة وارتفاع منسوب استهلاك الماء في أوقات الذروة، أمّا عبد الله الرابحي كاتب الدولة للموارد المائية والصيد البحري، أوضح أنّ نسبة 1195 خزّان للماء، قامت مصالح الصوناد بتعبئتهم قبل العيد بالماء الصالح للشرب، ولكنّ انقطاع التيّار الكهربائي ولّد مشاكل على مستوى تدفّق المياه وهو ما يستوجب فتح الخزانات وإفراغها من الهواء، معتبرا أنّ هذه العمليّة ليست بالأمر السهل، وبيّن أنّ 80 بالمائة من الخزّانات تمّ إفراغها في أوّل ساعة من عيد الإضحى بعد صلاة العيد، ولكن مقارنة بالهلالي فقد اعترف الرابحي بتقصير الجهات المعنية في الصوناد إعلاميا، إذ أنّه لم يقع تنبيه المواطنين بإمكانية قطع الماء الصالح للشرب ولم يتم توضيح الأسباب لهم ليتّخذوا الإجراءات اللازمة قبل العيد.
الدعوة إلى فتح تحقيق قضائي في أزمة انقطاع الماء خلال عيد الإضحى
دعا المكتب التنفيذي للإتّحاد العام التونسي للشغل يوم الثلاثاء 13 أوت 2019، إلى ضرورة فتح تحقيق قضائي على خلفيّة قطع الماء والكهرباء على العديد من المناطق خلال أيّام العيد، لمعرفة المتسببين في ذلك ومتابعتهم قانونيا، معتبرا أنّ قطع الماء الصالح للشراب خلال أيام عيد الإضحى هو بمثابة الجريمة في حقّ الإنسانيّة، كما حمّل المسؤوليّة للحكومة ووزارة الإشراف والإدارات العامة الذّين بعدم اتّخاذهم لقرارات عاجلة والتدخّل لإيجاد حلول للمواطنين، تسببوا في إتلاف الأضاحي وفي خسائر مادية و معنوية و في توتير الوضع الاحتفالي للتونسيين في العديد من الجهات في ظروف حرارة مرتفعة، وندّد المكتب التنفيذي للإتّحاد العام التونسي للشغل بإهمال سلطة الإشراف التي كان عليها أخذ الاحتياطات اللاّزمة بمناسبة عيد الإضحى، خاصّة أنّ مخزون المياه قد بلغ هذه السنة أعلى نسبه بإقرار من الدوائر الحكومية، كما أدان المكتب تصريحات العديد من المسؤولين الذين برّروا أسباب إنقطاع الماء الصالح للشراب، واعتبرها تصريحات مغالطة لتغطية فشلهم.
أيضا أعلنت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان فرع صفاقس الجنوبية، يوم 13 أوت 2019، عن توجهها إلى تكوين فريق عمل قانوني بالتنسيق مع شركاء الرابطة في المجتمع المدني للنظر في الإمكانيات المتاحة لمقاضاة الجهات المسؤولة عن الانقطاعات المتكررة للماء، الذّي اعتبرته اعتداء صارخا وانتهاكا لأحد الحقوق الأساسية للإنسان، وندّدت بتحوّل عيد الإضحى من مناسبة فرح إلى كابوس حقيقي ومعاناة أليمة لأغلب سكان ولاية صفاقس، وأكّد فرع الرابطة بصفاقس الجنوبية أن الحق في الماء هو حق دستوري ومن واجب الدولة بمختلف مؤسساتها توفير الضمانات اللازمة ليتمتع المواطن التونسي بالماء.
هذه الكارثة أتاحت الفرصة أيضا للسياسيين في التعبير عن مواقفهم في قالب حملتهم الإنتخابية للإنتخابات الرئاسيّة، محسن مرزوق رئيس حزب مشروع تونس، نشر تدوينة على حسابه الشخصي بالفيسبوك يوم 12 أوت 2019، بين فيها أن انقطاع الماء ليس من باب الصدفة ولكن بفعل فاعل، خاصة في مناسبة عيد الأضحى، ودعا إلى ضرورة معاقبة المسؤولين عن هذه الحادثة قائلا '' انقطاع الماء على عدد كبير من المناطق في تونس أيام العيد هو دليل على فشل في التخطيط والإعداد والاستباق ويجب تحديد المسؤولين عنه واتخاذ إجراءات ضدهم''، وأكد على ضرورة وضع خطة وطنية استراتيجية للماء وهي جزء أساسي من الأمن الوطني، مفيدا أنه من ضمن برنامجه الانتخابي أولوية الماء والطاقة قائلا ''لذلك وضعنا ضمن برنامجنا للانتخابات الرئاسية والتشريعية وعلى رأس الأولويات موضوعي الماء والطاقة البديلة''، على نفس منوال مرزوق، لم يفت رئيس حزب بني وطني سعيد العايدي المرشح للرئاسية عن حزبه، أن يعبّر عن موقفه في انقطاع الماء وإغلاق الطريق الوطنية بين تونس وبنزرت من قبل متساكني منطقة النحلي، ففي تدوينة له أيضا على صفحته بالفيسبوك قال العايدي ''الصورة تحزنني و تغضبني كثيرا ! الحوكمة هي أساس الحكم ! فأين نحن من الحوكمة هنا ؟؟؟؟''. وأكد أنه لا وجود لمبرر أو أيّ سبب مقنع يساهم في قطع الماء على المواطنين يوم العيد واعتبره غياب للحكومة في القرن 21.
وعبّر حزب آفاق تونس في بيان له يوم 13 أوت 2019، عن استنكاره مما تم تسجيله من انقطاع غير مسبوق للماء الصالح للشراب بعدة مناطق من الجمهورية في أيام عيد الإضحى، ودعا إلى التدخل العاجل والفوري وتسخير كل الإمكانيات لإعادة ضخ المياه الصالحة للشرب للمواطنين، وطالب بتقديم توضيح شامل حول حقيقة وأسباب هذا الإنقطاع وتحديد المسؤوليات صلب الشركة الوطنية لإستغلال وتوزيع المياه ووزارة الفلاحة، وشدّد على محاسبة كل من يثبت تقصيره في المسّ من الحق الدستوري للمواطنين في الماء وحمّل الحكومة في هذا الخصوص المسؤولية بسبب ضعف سياساتها وإنشغالها بالحملات الإنتخابية بدل التركيز على خدمة الشأن العام.
كما دعا القيادي في حركة النهضة عبد اللطيف المكي، إلى ضرورة الإسراع في فتح تحقيق للوقوف على حقائق إنقطاع الماء الصالح للشرب، معتبرا أنّ كلّ المبرّرات أصبحت مستهلكة وغير مقنعة في سنة سجّلت فيها كميات أمطار كبيرة وغير مسبوقة، وأكّد انّه سيقف على فتح التحقيق القضائي بنفسه.
الفصل 44 من الدستور التونسي ينصّ على أنّ الحق في الماء مضمون، والمحافظة على الماء وترشيد استغلاله واجب على الدولة والمجتمع، أيّ أنّه لا يحقّ لأيّ جهة مهما كانت في أن تتسبّب بسوء تصرّفها أو قلّة قيامها بواجبها في حرمان المواطن التونسي من الماء، ما حصل خلال أيام عيد الإضحى هو جريمة في حقّ التونسيين، ويجب أن لا نقتصر على هذه الحادثة فقط، فمشكلة التزوّد بالماء الصالح للشرب هي مسألة مطروحة منذ سنوات والعديد من المناطق في الجمهوريّة تعاني فقرا فادحا في الغياب الكلّي للماء الصالح للشرب.
تعاقبت حكومات على مرّ سنوات وقضيّة الماء لم يقع علاجها بعد، فعلى كلّ السياسيين الذّين يراهنون على برامجهم الإنتخابيّة أن يهتموا بهذه الأولويّة الضروريّة في الحياة وهي حقّ قانوني ووطني لكلّ تونسي وتونسيّة.
يسرى رياحي
تعليقك
Commentaires