الساحة الاعلامية التونسية تجعل من الحمقى.. مشاهيرا !
من كل المنافذ يمرون الينا، من كلّ الحواس، يُخاطبون التونسيين وكأن لهم سلطة اعتبارية مـا تخول لهم اعتلاء المنابر. شرذمة، من المتطرفين، والاقصائيين، والذين يجترون كلام الأموات- والباعة وكأنهم يريدون لتونس أن تصبح مقبرة -أو سوقا.
تغيرت السرديات وأصبح رضا الجوادي الامام المعزول بسبب تمجيد الارهاب وحسين الجزيري صاحب نظرية اللذة الجنسية عند الولادة صناع قرار، و أصحبت مريم الدباغ وشبيهاتُها قائدات رأي، وأصبح المطبعون مع العنف "ممثلين" والميزوجينيون "فنانين" والفاسدون نخبة سياسية. يمكن للصحافة أن تجعلك ماتشاء، أن تمنح الحمقى رمزية وتكثف حضورهم حتى يُخيل للرأي العام أنهم أبطال. والأسوأ، يمكن لأي كان، أن يصبح صحافيا.
"كرونيكور".. هذا الكلامة الهلامية التي ترقص على الالسنة، لتعريف من لا يملكون تعريفا اخر، مُعظمهم، أبطال من ورق لا نجاحات تحسب لهم ولا نتاج فكري لكنهم "كرونيكورات" رغم أنف اللغة العربية، والنخب، والمثقفين، والمختصين، والعالم. ماذا يعني أن تكون مُعلقا (كرونيكور) ؟ في العالم النظريّ السائل حيث كل شيء بخير، "الكرونيكور" هي رُتبة الشرف بعد ممارسة عمر من التفكير أو من الكتابة، أو التخصص في مجال ما. هي التعليق، والتحليل عن خبرة ودراية، وتقديم قيمة مضافة الى الطاولة دون ضجيج، دون غوغاء. أما في الواقع، أضحت هذه الكلمة تعبيرة عن حالة من الشهرة بسبب أو دون سبب لظهور اعلامي عُرف فيه الشخص كـ كرونيكور. عبر السماح لأي كان بامتهان التعليق، فُسح المجال لظواهر صوتية تتحكم –للأسف- في الذائقة العامة عبر ظهورها المتكرر مُصورة كصاحبة فكر ورأي. الميديا جعلت من الحمقى مشاهير، وأزاحت القضايا الأهم الى الصف العاشر في طابور الأولويات، وجرّت التـفاهة من أذنيها الى الواجهة، وساهمت في التطبيع مع التطرف والعنف والكره والأحكام المسبقة مقابل تتفيه القضايا الحقيقة.
"صحفي، اعلامي" أيضا اصبحت تعريفا مقتضبا لكل من يشتغل في وسيلة اعلامية- اي وسيلة اعلامية. ماذا يعني أن تكون صحفيا ؟ تونس، 2019، بعد الثورة.. الصحافة فعل ممانعة سياسي. لكل وسيلة اعلام توجهها السياسي حتى لو كانت صحيفة مختصة في الرياضة. مثل الكتابة، والتفكير، والفلسفة، الصحافة تتنزل ضمن معجم العلوم الانسانية. تقتضي أرضية من الثقافة والاطلاع والتحليل الوازن، الهادئ ولا تعيشُ في معزل عن واقعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي. والصحافة الجـدية، اذن، هي فعل تأسيسي، يحمل فكرا ومبادئا –قد تختلف وتتشابه- لكنها هدفها واحد هو توفير المعلومة (اخبارا أو تحليلا) للرأي العام في اطار علوية الدولة.
مقارنة بواقع الاعلام التونسي يبدو هذا تصورا طوباويا نعم، لكنه يُمكن أن نجترح منه فكرة لاتزال صالحة، هي أن يكون الصحفي صاحب رؤية على الأقل ليتمكن من ممارسة صحافة الخبر والرأي التي تشكل المزاج العام لبلد برمته كالطين اليافع بين يديها. أحيانا ننسى أنها سُلطة، وأحيانا تكون عاقبة النسيان عكسية. وأحيانا تساهم السلطة الرابعة في خلق مزاج عام من الرداءة والابتذال، ولأن التونسي يخلط بين الشهرة والنجاح ويظن أن كل مشهور ناجح، فان التُـفه والسذج أصبحوا شخصيات ذات سلطة معنوية وتأثير كبير. أن تكون صحفيا يعني أن تحمل مسؤولية تلخيص اليوم والأحداث والأقوال والنوايا، بموضوعية تامة لكن أولا- أن تكون مُواطنا، أن تحترم الدستور، أن تتشبع بحقوق الانسان، أن تنبذ العنف والكراهية وأن تتشبع بالعالم، وتسكنك العدالة، وتريد لبلدك أن يعيش حرا تــحت الشمس.
لذلك لا يجب لصحفي يحترم نفسه ومهنته أن يجعل من الحمقى أبطالا في سردية تونس التي تلتمس التقدمية والديمقراطية والحقوق والمساواة. للصحافة مسؤولية اجتماعية كبرى، تبدأ بـ''فلترة" الوجوه والأصوات والكلمات التي تُمرر في الاعلام، ووضع حد للتطرف الديني والكراهية والعنصرية بكل انواعها، التي تتسلل من حناجر بعض المعلقين والاعلاميين وضيوفهم الى الفضاء العام.
من هو "كلاي بي بي جي" ومن صنعه غير الاعلام؟ طالما كان صاحب خطاب عنيف مقرف، لكن الصحافة أصرت على صنع نجم منه، الى أن سمح لنفسه بنشر 3 دقائق من الحث على ممارسة العنف المادي والجنسي ضد امرأة. من هي مريم الدباغ ومن صنعها غير الاعلام ؟ الى أن سمحت لنفسها باهانة فنان كوريغرافي وتشبيهه بالنساء -على أساس أنها اهانة - .. من الخطابات المعادية والمهينة للنساء في محتوى برنامج "امور جدية" الذي يعتبر العنف ضد المرأة والتحرش الجنسي مشهدا يوميا مضحكا في فقرات كريم الغربي وبسام الحمراوي.. الى تحول الفعل الصحفي الى فعل بوليسي في برنامج "بلا قناع" على قناة ام تونيزيا الذي يحاصر الشباب في الملاهي والحفلات ويقوم بتصوير وجوههم وبث محتوى تحذيري عن "السكر والعربدة" ويقيم محاكمات أخلاقية يقودها مقدم البرنامج.. الى تكرار حضور المتطرفين من قيادات ائتلاف الكرامة في "وحش الشاشة" لسمير الوافي كل أسبوع، الى تنميط وتتفيه العنف ضد الاطفال "والبراكاجات" في برنامج "اضحك معنا" على التاسعة .. الى الخُطبة الاخلاقوية في برنامج "مع علاء" حيث ينصب علاء الشابي نفسه مصلحا اجتماعيا يحكم على تصرفات ضيوفه واخطائهم ويبرر العنف الزوجي ويمارس الضغط على النساء المعنفات ويمجد النظام الابوي ظالما او مظلوما ومُجرّما كل ضيف يتجرأ على لوم او نقد والديه.. ويصل الى حد تتفيه الارهاب وتصوير العائدين من بؤر التوتر كأبطال.. الى الخطاب الديني المتطرف في قناة الزيتونة الخارجة عن القانون والأمثلة لا تحصى فعلا ! الصحافة المكتوبة أيضا لها نصيب من السقوط الاخلاقي الذي يبدأ من عشرات المواقع التي تنشر الاخبار الزائفة بصفة يومية الى التكفير العلني في موقع الصدى للصحفي حمزة البلومي، الى عناوين مخجلة مثل "عبير القصاص" الذي استعملها موقع باب بنات لوصف عبير موسي والأمثلة لا تحصى. وبينما تعمل الهايكا على مراقبة القطاع السمعي البصري واحترامه للمرسومين 116 و115 وللدستور، يبقى قطاع الصحافة المكتوبة دون مراقبة..
وكأّن ماكينات تعمل في الخفاء على جعل عديمي الذوق والمتطرفين والفارغين صُناع رأي، ولو كنا من محبي نظرية المؤامرة لحذفنا "كـــأن" وتركنها جملة اسمية واضحة. لكننا نعلم أن المشهد الاعلامي المعطوب هو نتاج نظرية العرض والطلب و"منطق السوق" بدرجة اولى، وهواجس رفع نسب المشاهدة، و في الغالب نتيجة لتراخي التعديل والتعديل الذاتي وتطبيع مجتمعي مع الابتذال لعدم وجود بديل جدي – في القطاع السمعي البصري على الاقل.
تُعيد قضية دخول متحيل الى استديو موزاييك ورواية شهادة زائفة وانتحال صفة في قضية وفاة الشاب ادم بوليفة، مسألة التقيد بأخلاقيات العمل الصحفي الى الواجهة. موزاييك، تُعد من الاذاعات القليلة التي تملك الية تعديل ذاتي حاسمة وصلت الى حد ايقاف فريق برنامج "نجوم" وفتح تحقيق داخلي. الهفوات تحصل، وقد يقع أي كان في خطأ مهني كنشر خبر عن وفاة رئيس أسبق أو التحقيق في موضوع دون احترام قرينة البراءة، لكن القواعد المهنية العُرفية، التي لا توجد في اي اتفاقية مكتوبة، هي تلك التي تنص على مسؤولية الصحفي ووسلية الاعلام تجاه الرأي العام في أن لا تصبح منابر لتمرير ثقافة الابتذال والاقصاء والذكورية السامة والكراهية والهوموفوبيا والجهوية ولو عبر "الفُكاهة".. يوجد قاعدة لم تتضمنها مواثيق أخلاق المهنة في أي بلد من العالم، لكنها الأهم على الاطلاق : لا تجعلوا من الحمقى مشاهير.
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires