التعاطي الصِحفي مع الإنتخابات: الفرق بين الحـياد، الموضوعيّة والبروباغندا
ملامح وخصال المترشح الذي ستدعمه "بيزنس نيوز" في الرئاسية
قبل 23 سنة من الآن، أعلنت نقابةُ الصحفيين الأمركيين إلغاء لفظِ "حياد" من ميثاقِ أخلاقيات المهنة، سنة 1996 متى اتفقت أقلامُ "البوست" و"التايمز" أن مُمارسة الصحافة تعني الوعي بأهمية الرأي ومدى تأثيره- ومدى تعبيره عن كفاءة صاحبه. الصحفّي الجيد، هو الصحفي الذي يـُفكِّـر (بدرجة أولى) ويتفاعلُ مع العالم/السياسة/الدولة.
يُطرح أُفقـا "الحياد" و"الموضوعية" كمفاهيم مُلتبسة عند الرأي العام وبعض السياسيين مع انشغالِ الجميعِ بالإنتخابات، إذ أنّ المحطّة الانتخابية تقتضي وجوبـا تشاركيّة مع حرّاس البوابة (الصحفيون والإعلاميون) الذين سيأمِنون مساحةَ تواصليّة مُباشرة بين المترشح والجمهور الأوسع. جدلُ الفرق بين المفهومين، لم يُطرح سوى بعد الثورة متى فازت الصحافةُ بحريّتها/تعدديتها. قبل 14 جانفي، كان الجميعُ في دائرةِ الحياد التام (ماعدا بعض الصُحف المعارضة والممنوعة). الآن، صرنـا أحرارًا بما يكفي من ظلِ الإعلامِ الواحدْ، لنُـساءِل المفاهيم ونُناقشها، ولتبنّى ما يتماشى مع واقع بلدنا (وواقع العالم إن شئتم).
الخبر مقدّس والتعليق حـُرّ
للصحفي فضاءان يتحرك فيهما، صحافة الخبر وصحافة التعليق، الأولى تكتسي صبغة اليومي السريع والمتكرر الذي ينقل فيه الحدث من زواياه المتعددة، والثانية هي صحافة متأنية ومفكرة، تستوجب الهدوء من ضوضاء اليومي (رغم أن مواضيعها متعلقة به) حتى يكون التحليل مبنيا على قراءات لا انطباعات. في المساحة الأولى، مساحة الانية والسرعة لا تطرح قضية التفرقة بين الحياد والمضوعية غالبا، لكنها تطرح فيما يتعلق بصحافة الرأي. الرأي حر لكن القارىء/المشاهد/المستمع يميل الى ممارسة سلطته الاعتبارية التي يساءل ويحاسب فيها الصحفي. في دائرة الرأي وخصوصا في مرحلة الانتخابات لا يمكن بأي حال اتخاذ الحياد وسيلة للهروب من مسؤولية استقراء الواقع وتحليله. فعل الكتابة هو فعل ذاتي يبنى على التحصيل الفكري للصحفي، تكوينه.. مراجعه الفكرية.. اهتمامته السياسية.. الخط التحريري للمؤسسة لذلك من الطبيعي أن تنحاز الأقلام في محاولة استقراءها للمشهد الانتخابي- خاصة مع تعدد المترشحين وخلفياتهم، وتصريحاتهم المتنافضة وبرامجهم، النقد سيكون على هذا الأساس. من غير المعقول أن تطالب صحفيا بالصفر موقف/ السلبية أو ما يعرف بالحياد في مساحة الرأي التي تكون تعبيراتها عادة مقالات الرأي- العمود- الكرونيك في الاعلام السمعي البصري وغيره، هنا الصحفي مطالب بالموضوعية التي تقتضي احترام عقل المتلقي وعرض الأفكار والمواقف المختلفة بنفس الدرجة من الاحترام والمصداقية.
أسطورة الحياد
كذبة الاعلام الكبرى، التي شب عليها البعض وشاب – فلم يعرف غيرها. نصف قرن تحت نير وطأة الصحافة السلبية التي لا تشارك في الشأن العام بل تكتفي بنقله من منظار السلطة، كان كفيلا بترسخ هذه القيمة المزيفة في التفكير الجمعي التونسي كدلالة على جودة الصحافة. التحول من الاعلامي الحكومي الى الاعلام العمومي أعطى نتائج ايجايبة صار اثرها الاعلام العمومي مشاركا في الشأن العام (برنامج مناظرة مثلا) الا أنه أبقى على شرط الحياد وخدمة المصلحة العامة. الاعلام الخاص من جهة أخرى لا يمكنه ادعاء الحياد، أولا لأن لكل مؤسسة خط تحريري وتوجهات كبرى يحكمها الجانب التارخي للمؤسسة من جهة (توجهات المؤسسين) والجانب الاقتصادي (المستشهرون/المستثمرون/المساهمون) من جهة أخرى، وهو ماينفي عنها صفة الحياد. أي وسيلة اعلامية خاصة تقول أنها محايدة هي وسيلة اعلامية كاذبة. ثم لا يمكن لصفة الصحفي أن تنفي صفة المواطن، بل هي تتنزل في قلب ممارسة المواطنه الايجابية، فمثلا لا يمكن لصحفي أن يدعو لمقاطعة الانتخابات، لما فيها من تعارض مع صفة المواطن وحقوقه وواجباته. التعاطي مع الانتخابات على قاعدة الحياد سيكون تعاطيا فضفاضا وسلبيا لا صلاحيات حقيقية للاعلام فيه. ستكون الصحافة في هذه الحالة سلطة خاضعة لا مشاركة فعلية لها في هذا الاستحقاق عبر المحاسبة والمساءلة والمراقبة وتحليل الخطابات المختلفة. الموضوعية من جهة أخرى، هي الفعل الايجابي المبني على قاعدة التوازن بين جميع المترشحين في التوقيت والفرص والحضور، ونقل الواقع كما هو دون مكيجة أو تزييف، مما يعطيها مصداقية. ثم ان القارئ يفضل محتوى اعلامي معمق ومحترم فيه مواقف وتحليل ونقاش على محتوى معوم وبسيط وسطحي. وفي النهاية، لا أحد يمكنه الاستيلاء على ارادة الناخب، احترام عقله يستوجب أولا الاعتراف بقدرة المتلقي على الاختيار السليم. ما يعطي الاعلام مصداقية هو قدرته على استيعاب اراء وتوجهات مختفلة، لا حياده التام..
دور الإعلام في الرقابة الانتخابية
أمام 30 مترشحا لرئاسية 2019 السابقة لأوانها، تمارس الصحافة دورها الرقابي عبر مساءلة المترشحين عوضا عن المواطن، مصادر التمويل، البرامج.. ولذلك من الصعب أن تكون الأسئلة هي ذاتها تطبيقا لقاعدة "الحياد". تتعلق الأسئلة بسياقات مختلفة مثل تصريحات المترشح السابقة ومواقفه من المسائل الجدلية و توجهه الايدولوجي.. لذلك يولد التباس لدى المواطن الذي يتهم هذا الصحفي أو ذاك بالانحياز لصالح مترشح ما. كما يأخذ الصحفي على عاتقه كشف عدم التناسق أو التناقض في خطاب مرشح ما، أو العلل في خطابه من اقصاء أو عدم احترام للدستور أو عدم اعتراف بالدولة. كما يحاسب الاعلام المترشح الذي تولى منصبا سابقا في الدولة عبر عرض حصيلته وأداءه ومواطن الخلل فيها. ويراقب الاعلام تصريحات المرشحين التي تحمل مشروعا معاديا للجمهورية ويساءله بشأنها كي تتضح الصورة للمواطن، لأن الاعلام مساهم في حماية المسار الديمقراطي وحماية مبادئ الدولة. في لائجة الثلاثين مترشحا، يوجد من لايؤمن بالدولة ومؤسساتها وهيئاتها ويسعى لتغيير نظامها الجمهوري، هناك من يتبنى خطاب الاقصاء والعودة الى الحكم الأوحد/ هناك من يعارض أحكام الدستور.. هناك من يهاجم مترشحين اخرين، ويلوث المسار الانتخابي.. يجب على الاعلام أن يكشف ذلك جليا للمواطن، وتبعل لذلك ابقاء المسافة ذاتها من جميع المترشحين، هو أمر يكاد يكون مستحيلا.
الموضوعيّة ليست البروباغندا
لم يكن هدف الموضوعية يوما توجيه الرأي العام أو خداعه. الموضوعية بما هي حرص على التوازن والأمانة في نقل المعلومة والمصداقية في طرحها هو عكس التضليل الاعلامي والتلاعب بالراي العام. ان التخلي عن الحياد في الفترة الانتخابية لا يعني الانخراط في الدعاية السياسية الفجة لأحد المترشحين وتلويث الرسالة الاعلامية عبر توجيه الرأي العام وخاصة تحريضه ضد مؤسسات الدولة. الاعلام الحر لا يمكنه أن يتواجد خارج أطر الدولة ونظامها، ولا يمكن أن يسير خارج الدستور وهيئاته. ماتفعله نسمة والمستقلة وقناة الانسان هو دعاية سياسية يمنعها القانون والهيئات الدستورية المختصة. الهاشمي الحامدي صاحب قناة المستقلة والمرشح للرئاسية أعلن أنها تبث من بريطانيا وأنه لا يعترف بالهيئات الدستورية، وبالتالي سيواصل البروباغندا لصالحه طيلة الفترة الانتخابية مما يتعارض مع القانون الانتخابي. قناة الانسان تقدم منبرا حرا للمترشح للتشريعية الاسلامي رضا الجوادي وتواصل ذلك رغم تنبيه الهايكا. أما نسمة.. فقصة أخرى. يتم استغلال صحفيي نسمة في الحملة الانتخابية لنبيل القروي وحزب قلب تونس، وقد انخرطوا في بروباغندا سياسية هي الأضخم من نوعها في الساحة الاعلامية التونسية اذ تخصص القناة بثا حيا للحديث عن المترشح وبرنامجه ولحث المواطنين على انتخابه. قبل ايقافه كان يظهر بصفة يومية مخاطبا المواطنين من خلال منبر "خليل تونس" الخيري الذي يعرض أنشطة نبيل القروي في الجهات. بعد ايقاف نبيل القروي ما من محتوى اعلامي حقيقي على شاشة القناة سوى انخراط اعلامييها في الخطاب المتشنج الذي يتهم الدولة بالتامر ضد القروي. رغم تحذير الهيئة العليا المستقة للاتصال السمعي البصري وتحذير نقابة الصحفيين التونسيين فان نسمة تواصل البروباغندا على مدار الساعة.
لرفع الالتباس وايضاح دور الصحفي في الاستحقاق الانتخابي، وضعت الهايكا دليلا للتعاطي الصحفي مع الانتخابات تجدونه مرفقا في هذا الرابط، في هذا الدليل لم ترد لفظة حياد. التوصيف التي استخدمته المؤسسة الدستورية في بيان التغطية المثلى للاستحقاق الانتخابي هو التعريف الاتي : تغطية مستقلة ومتوازنة ومنصفة .. وهو التشخيص المثالي للموضوعية التي يجب أن تكون مقياس التعامل الصحفي مع جميع مستجدات الشأن العام- وان دل هذا على شيء، فهو تطور المنظومة الاعلامية وتطور الهيئات الدستورية وانفتاحها على صحافة جديدة، مفكرة، وحرة.
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires