الجبهة الشعبية في نسختها الرابعة
لم نعد نعرف أنفرح بربيع ثورة الحريّة والكرامة وخاصّة الديمقراطيّة أم ننعي نتائج هذه الشعلة التي إنطفأت على إمتداد هذه السنوات التي لا يمكن أن نصفها مهما كانت الإنجازات فيها، إلاّ بالسنوات العجاف، فعلا أصابنا اليوم قحط قاحل على كل المستويات، لا ناقة للشعب فيه ولا جمل وجريمته الوحيدة هي الصمت أمام هذا المشهد الضبابي الذّي يخيّم على الساحة السياسية الجائرة والجائعة لكرسي الرئاسة الشكلي.
"إنّ السياسة لها أخلاق ومبادئ لبناء مجتمع منظّم يفقه في الأخلاق السياسية"، قال حمّة الهمّامي، متناسيا ما عصف بالجبهة الشعبيّة من أزمة في الآونة الأخيرة إذ إنقسمت إلى شقّين وأصبح حالها كحال حزب نداء تونس.
مثّلت حركة الجبهة الشعبيّة بعد الثورة، صوت الشعب والطبقة البسيطة، وجمعت أبناء اليسار المدافعين عن المواطن التّونسي بعيدا عن كلّ التيارات السياسية الأخرى، ولكنّ اليسار بعد سبعة سنوات من النضال إختلف في مبادئ النضال وافترق في المسار. في 28 ماي 2019، قدّم تسعة أعضاء عن حزب الوطنيين الديمقراطيين "الوطد"، إستقالتهم من كتلة الجبهة إلى مكتب مجلس نوّاب الشعب، باستثناء نواب حزب العمال والتيار الشعبي، وهم كالآتي ذكرهم، أحمد الصديق وزياد الأخضر والمنجي الرحوي وأمين العلوي وهيكل بن بلقاسم ونزار عمامي وفتحي الشامخي وعبد المومن بالعانس وشفيق العيادي.
أدرجوا أسباب هذه الإستقالة، بتعلّة تفرّد الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبيّة، حمّة الهمامي، بالقرارات وأيضا رفض أغلبيّة أعضاء الجبهة ترشيح منجي الرحوي للإنتخابات الرئاسيّة وتفضيل الهمامي عليه في ذلك. وقام حزب الوطد بإصدار العديد من البيانات وجّهوا فيها إتّهامات للهمامي تخصّ إستحواذه على الملكيّة القانونيّة للجبهة في نوفمبر 2013، وشكّلوا إئتلاف جديد وقاموا في 3 جوان 2019، بإعلام الهيئة العليا المستقلّة للإنتخابات بهذا الإئتلاف، الّذي قرّروا تسميته بنفس إسم الجبهة الشعبية الحالي. وأعلن زياد الأخضر،أمين عام حزب الوطنيين الديمقراطيين، يوم 15 جوان 2019، إنّ الوطد وحزب العمال سيخوضان الإنتخابات القادمة، تحت إسم نفس الإئتلاف، الجبهة الشعبية، ونعت الأخضر رفيقه الهمّامي بالإنعزالي وإنّ مجلس الأمناء كان عازما على إقصاء الوطد من الجبهة بتعلّة الإختلاف، وقال إنّ النسخة الرابعة للجبهة التي يعدّها الهمّامي لن تصل إلى أي إنجاز ولن تستمرّ، وأكّد إنّ عودة الجبهة لما كانت عليه، أمر غير وارد نتيجة تعنّت حمّة الهمامي.
زاد هذا الإئتلاف الجديد من درجة التوتّر داخل مكوّنات الجبهة واعتبروا ما قام به حزب الوطد هو إنقلاب ومحاولة سطو على الجبهة الشعبيّة، وندّدوا بالعمل السرّي الذي قام به الوطد ومنسّق رابطة اليسار العمالي، بإيداع ملف سرّي لدى هيئة الإنتخابات، واصفين هذا التصرّف بالغير أخلاقي، كما أثار إلتزام الناطق الرّسمي باسم الجبهة الشعبيّة، حمّة الهمامي، بالصمت، حفيظة كل أنصار اليسار واستغربوا منه ذلك أمام ما عصف بالجبهة من إنشقاقات ومتاهات ليصبح مسارها غير واضح ومستقرّ.
في 19 جوان 2019، خلال ندوة صحفية لكتلة الجبهة، خرج الهمّامي عن صمته، وأجاب عن كلّ الإنتقادات التي وجّهت له، وفسّر ما حصل داخل الجبهة بطريقة مفصّلة، إذ قال إنّ في ما يخصّ الأزمة التي عصفت بالجبهة، وما تعيشه من صعوبات كبيرة اليوم، إنّ الجبهة الحاليّة هي النسخة الثالثة ، إذ تأسّست النسخة الأولى للجبهة في 14 جانفي 2011، وبعدها حدث إنقسام بين الهيئة العليا التي ترأسها عياض بن عاشور، والبقية ظلوا في الجبهة، وفي جوان 2011، كوّنوا جبهة أخرى في نسخة ثانية، كان الناطق الرسمي بها جلّول بن عزّونة، وبعد ذلك جاءت الجبهة الشعبيّة في صيغتها الحالية في 7 أكتوبر 2012، والتي إستمرّت على مدى سبعة سنوات وأفاد إنّها مكسب كبير للتّونسيين ولكلّ العرب، فهي إئتلاف عربي صمد وناضل وفرض مكانته في السّاحة السياسيّة، وخلقت طموحات وآمال كبيرة مع كلّ المناضلين.
ولم تثني شتائم وإنتقادات حزب الوطد الهمّامي الذّي أجمع على إنّ الجبهة هي وليدة كلّ النضال الموحّد بين أطراف الجبهة وكلّ رفاقه المنسلخين عن الكتلة الحالية للجبهة، وعبّر عن سوء التفاهم بينهم بالخلاف السياسي، ووضّح إنّ أسباب هذا الخلاف تعود أسبابها لزمن الدورة الرئاسيّة الثانية سنة 2014، حين ساند الوطد الباجي قائد السبسي في الإنتخابات، وقال إنّ مشكلة الجبهة لم تتفجّر مع الإنتخابات الرئاسيّة الحاليّة بل قبل ذلك بستّة أشهر، إذ تصدّعت النقاشات الداخليّة وسطها بسبب الخلاف في من ستساند الجبهة من متقلّدي السلطة.
وأكّد حمّة الهمّامي إنّ عدم ظهوره في الإعلام وإبدائه لموقفه من التصدّعات التي عصفت بالجبهة، سببه التريّث للوقوف على كلّ الملاحظات ليخرج للّرأي العام بحقيقة ما جرى داخل الجبهة، وقال إنّه منذ 22 أفريل 2019، عقدت الجبهة ستّة عشر لقاء مع الوطد الموحّد الذّي وصفهم إلى حدّ الآن بالرّفاق، وآخر لقاء كان يوم 13 جوان 2019، وكان الهدف من هذه اللّقاءات، إقناعهم بما إنّ ما يقومون بترويجه في وسائل الإعلام خاطئ وليس بالصحيح، وهناك محاضر جلسات في هذا الغرض، وأفاد إنّ سبب غيابه عن الحضور والمشاركة في المجالس المركزيّة ومجلس الأمناء، جاء بدعوة من الأمناء العامّين للجبهة الّذين قالوا له إنّهم سيباشرون النقاش داخل المجالس في مواضيع تخصّ إمكانية ترشّحه للرئاسيّة ولا يجب له الحضور في هذه النقاشات، وقال إنّه أثناء تقديم 9 أعضاء من الوطد إستقالتهم، وصلتهم رسالة من الأمناء العامين ممضاة من قبله وكتبوا فيها لهم إنّ الناطق الرسمي للجبهة على ذمّتكم، وأردف إنّ الخلاف قائم بين الأغلبيّة المكوّنة للجبهة وبين أعضاء الوطد وهو لا دخل له في ذلك، وخيّر وجوبيّة تفعيل النقاش في الخلاف السياسي والعمل بحكم الأغلبيّة وعلى الأقليّة الخيار من البقاء داخل الجبهة أو الإنسحاب مثلما حصل سنة 2013، إذ إنسحب خمسة أعضاء من جملة ثلاثة عشر عضو من الجبهة.
وصفت الجبهة الشعبيّة بالإنغلاق، في هذا أفاد حمّة الهمّامي إنّ الجبهة نشرت وثيقة باسم حزب العمّال وقام هو بتحريرها، عنوانها "كيف نتقدّم بالجبهة الشعبيّة"، للرّأي العام، ولا يمكن للجبهة أن تنفتح لرئيس الجمهوريّة الباجي أو على رئيس الحكومة الشاهد ولا حتى على اليمين اللّيبيرالي، وهذه الأخيرة سبب النقاشات والخلافات السياسية داخل الجبهة الشعبيّة، وتوجّه برسالة لرفاقه في الوطد الموحّد، تحديدا المنسّق العام لرابطة اليسار، قائلا "عاركني وخلّي باش إتقابلني"، أي إنّ الخلاف السياسي الّذي بينهما يجب نقاشه ولا يجب أن تنحلّ الكتلة، وندّد بتكوين التسعة أعضاء لجبهة شعبيّة أخرى بنفس الإسم وتقديمها للهيئة العليا المستقلّة للإنتخابات.
أعلن الوطد إنّ حمّة الهمامي قام بتسجيل الجبهة الشعبيّة باسمه، في هذا السّياق وضّح الهمامي إنّه منذ سنة 2013، قرّر ثلاثة أعضاء الإنسحاب من الجبهة، من بينهم طرفين أصبحوا ينطقون باسم الجبهة الشعبيّة، لذلك دعا القيادي بالجبهة الشعبيّة، رياض بن فضل إلى ضرورة تسجيل حركة الجبهة الشعبيّة لتصبح قانونية، ولحماية إسمها، وأعلن علي بن جدّو عضو المكتب السياسي في رابطة اليسار مع الوطد، في 13 نوفمبر 2013، على تأكيد رياض بن فضل موضوع تسجيل شعار الجبهة الشعبيّة واسمها الكامل بالمعهد الوطني للمواصفات الملكيّة الصناعية من باب الحذر من إستعمال إسم الجبهة وشعارها، وتمّ تسجيلها باسم حمّة الهمامي، وأفاد الهمامي إنّه في حالة تخليه عن رتبة ناطق رسمي للجبهة سيمرّر أمانة ملكيّة الجبهة لمن يخلفه.
لم يثني هذا الخلاف السياسي حمّة الهمامي عن قوله لأعضاء الوطد ولنزار عمامي إنّهم رفاقه، وذكّرهم بالنضالات السابقة الموحّدة بينهم ودعا لضرورة نبذ القطيعة، وأكّد إنّ الجبهة في نسختها الرابعة ستكون موحّدة وأكثر تنظيم وفاعليّة وإنفتاح.
تشقّقت معظم الأحزاب السياسيّة في تونس، البعض منها إنقسم إلى نصفين وآخر منها إختار التوحّد والعمل في كنف إئتلاف واحد، وجاء تنقيح القانون الإنتخابي كالقطرة التي أفاضت الكأس، لتتزايد وتيرة التشنّج والصراع داخل الحقل السياسي بين إقصاء البعض وتشريك البعض الآخر في الإنتخابات الرئاسيّة، الكلّ ينازع من أجل الحكم والسلطة والكلّ ذاتهه غير واعي بخطورة بالمرحلة التاريخيّة الصعبة القادمة ومآل نتائجها على بلد يريد أن يتنفّس حريّة وديمقراطيّة وعلى شعب أنهكته الملاحم السياسيّة.
يسرى رياحي
تعليقك
Commentaires