علاقة التلفزة بالجمهور: هل هي مجرّد زرّ ؟
هل يمكن لصاحب القناة التلفزية أو الاذاعية أن يقدّم ما شاء وكيفما شاء، ومن لا يعجبه ذلك، فبين الطرفين زرّ كما يقال؟
الجملة التونسية التي يردّدها أصحاب القنوات ''بينانتا فلسة'' في إشارة الى زر جهاز التحكم في التلفزة.
هل أنّ القناة حرّة في ما تقدّمه، وهل لتلك الحرية ضوابط؟
في البداية يجب التمييز بين مجالين، مجال المضامين الصحفية، ومجال المضامين غيرالصحفية والتي من بينها الإنتاج الدرامي والفني وكلّ اشكال الابداع والخيال.
بالنسبة الى مجال المضامين الصحفية فهو خاضع لجملة من الضوابط والمعايير، أمّا بالنسبة الى مجال الابداع والخيال فهو غير خاضع لأي شكل من أشكال الرقابة غير الفنية.
اذن، وبهذا المعنى هل تقدّم القناة برامجها بكلّ حرية؟
هناك اتجاهان في هذا المجال، اتجاه اختار تبني نظرية الحرية المطلقة اذ لا يمكن اخضاع المجالات الثقافية والفكرية وأشكال التعبير والتبليغ والاعلام الى أي نوع من الرقابة سواء كانت المسبقة أو اللاحقة.
لكن يمكن توجيه النقد الى هذه النظرية لأنها تخلي أي مسؤولية اجتماعية لمنتجي المحتوى وتترك المجال مفتوحا دون حدود، وهو ما أدّى في فترة ما الى مشاركة وسائل اعلام في ارتكاب مجازر فظيعة في حق الإنسانية سواء في رواندا أو في صربيا، عندما كانت اذاعات وتلفزات محلية تحرّض على الخصوم السياسيين والمختلفين عرقيا وتدعو الى ابادتهم وحتى تنسيق بعض الهجمات على أحياء ومناطق سكنية وقرى...
نظرية الحرية المطلقة أثبتت فشلها إذا لم تكن مرفقة بضوابط لتلك الحرية، فما هي هذه الضوابط؟
لقد حدّدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) على أنها هي نفس الضوابط المنصوص عليها في المادة 29 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان اذ جاء في الفقرة الثانية «لا يُخضع أيُّ فرد، في ممارسة حقوقه وحرِّياته، إلاَّ للقيود التي يقرِّرها القانونُ مستهدفًا منها، حصرًا، ضمانَ الاعتراف الواجب بحقوق وحرِّيات الآخرين واحترامها، والوفاءَ بالعادل من مقتضيات الفضيلة والنظام العام ورفاه الجميع في مجتمع ديمقراطي.»
كما جاء في المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية «تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من هذه المادة واجبات ومسؤوليات خاصة. وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون وأن تكون ضرورية:
(أ) لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم،
(ب) لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.»
نفس المبتدئ نصت عليها الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان والميثاق العربي والميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب...
لقد أصبحت تلك الضوابط كونية، الأمر الذي جعل المشرّع التونسي يستلهم منها قيم ومبادئ الدستور في الفصل 49 والذي جاء فيه أنّ القانون يحدّد «الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها. ولا توضع هذه الضوابط إلا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة، وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها. وتتكفل الهيئات القضائية بحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك. لا يجوز لأي تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الإنسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور.»
وهي نفس الفيم والضوابط التي جاء بها المرسوم عدد 116 الذي تمّ سنّه سنة 2011 أي قبل الدستور اذ تضمّن الفصل الخامس في فقرته الثانية « وتخضع ممارسة هذه المبادئ لضوابط تتعلق باحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، ومنها بالخصوص : ـ احترام كرامة الإنسان والحياة الخاصة ـ احترام حرية المعتقد،
ـ حماية الطفولة ـ حماية الأمن الوطني والنظام العام ـ حماية الصحة العامة ـ تشجيع الثقافة والإنتاج الإعلامي والاتصالي الوطني.»
اذن يمكننا أن نلاحظ وجود خمسة مبادئ تتكرّر في كلّ المواثيق والمدوّنات والنصوص، وهناك اجماع عام في كلّ المعايير الدولية عليها، وهي: احترام حقوق الآخرين والأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.
إنّ الأصل في الأشياء هي الحرية والاستثناء هي تلك الضوابط، وبالتالي فإنّه يمكننا القول إنّ تلك القنوات الاذاعية والتلفزية تمارس نشاطها بكلّ حرية وبلكن بشرط احترام تلك الضوابط.
هذه الضوابط تشمل مجالات حرية التعبير بصفة عامة، ولكن السؤال هنا كيف ستحترم وسائل الاعلام هذه الضوابط في مستوى المضامين.
تخضع القنوات التلفزية والاذاعية الى نظام الاجازة، أي أنها يجب أن تحصل على إجازة مسبقة من الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري (الهايكا) حتى تتمكن من البث، وتخضع تلك الاجازة الى عدد من الشروط المنصوص عليها أساسا بكراسات الشروط وهي مطالبة باحترام حقوق العاملين فيها وبما تضمّنه المرسوم عدد 116 وخاصة في فصله الخامس الذي ينصّ على أنّ الحقوق والحريات تُمارس على أساس احترام المعاهدات والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان والحريات العامة، واحترام حرية التعبير والمساواة
والتعددية في التعبير عن الأفكار والآراء والموضوعية والشفافية»
وتخضع تلك القنوات الى نظام الاجازة المسبقة باعتبارها تستغلّ تردّدات وذبذبات تعتبر من المجال والملك العمومي، وهو ما يجعلها خاضعة الى وجوب الخضوع الى قواعد قانونية ومهنية.
وبما أنها تخضع الى تلك القواعد وبما أنها تستغلّ المشترك العمومي وتستعمل التردّدات وتحصل على امتيازات في علاقة بالتشجيع على التشغيل أو في الضمان الاجتماعي أو في الأداءات أو في خلاص الديوان الوطني للإرسال الاذاعي والتلفزي مثل جدولة الديون وأحيانا اعفاء البعض منها...
خلافا للقنوات الأجنبية التي لا تخضع لنظام الاجازة في تونس ولكنها عندما تريد البث انطلاقا من تونس فهي تخضع عندئذ الى القوانين التونسية، وهي خاضعة عند عملها في تونس الى المرسوم عدد 116 اذ يمكن حجز معداتها اذا رأت الهايكا ذلك.
بهذا المعنى فإنّ القنوات الاذاعية والتلفزية ليست حرّة في استغلال الفضاء العمومي بل هي مطالبة باحترام تلك الضوابط وباحترام التعددية والحرية.
ولكن هل يشمل هذا الفرض كلّ مجالات المحتوى.
تنتج القنوات التلفزية والاذاعية برامج ذات مضامين صحفية وبرامج أخرى ذات مضامين غير صحفية مثل المحتويات الفنية والدرامية والسينمائية والابداعية عموما.
بالنسبة الى المحتويات الصحفية فهي تخضع الى قاعدتين، قاعدة أخلاقيات المهنة وتعود بالنظر الى مجلس الصحافة، الذي لم ير النور بعد رغم تأسيس الجمعية التي ستشرف عليه، وقاعدة قانونية هي من مشمولات الهايكا في علاقة بالمؤسسة وليس بالصحفي وتكون أحيانا من مشمولات النظام العام إذا تعلّق الأمر بجرائم.
أمّا بالنسبة الى الأعمال الفنية والابداعية المستوحاة من الخيال la fiction فهي لا يمكن أن تخضع الى أي شكل من أشكال الرقابة الاّ الفنية منها.
ولكن يمكن للهايكا أن تتدخّل إذا لم تحترم القناة التلفزية شروط بث ذلك المضمون مثل توقيت بثه إذا كان مثلا محتوى يتضمن مشاهد عنف تكون قاسية على الأطفال وبالتالي يجب بثه بعد الساعة العاشرة ليلا وهو ما فعلته الهايكا مع قناة الحوار التونسي في علاقة بمسلسل ''أولاد مفيدة''، ويمكن للهايكا أيضا فرض وضع علامات المنع المرتبطة بالسن مثلا علامة ممنوع على من سنهم دون 12 سنة أو 16 أو 18 سنة، ولكن لا يمكنها بأي شكل من الأشكال التدخّل في المحتوى لأنّه يدخل في باب حرية الابداع وهي حرية غير خاضعة لأي رقابة الاّ الرقابة الفنية، أمّا اختيار المضمون واتجاهاته فذلك من اختيارات المبدعين.
اذن يمكننا أن نقول إنّ القول بوجود زرّ بين الجمهور والقناة هو قول غير دقيق باعتبار استغلال الفضاء العمومي والتردّدات الخاضعة للترخيص المسبق وبالتالي فإنّ القناة هي المطالبة باحترام الجمهور وتقديم اعلام ذي جودة لذلك أوجد المشرّع هيئة تعديلية غايتها تنظيم القطاع السمعي البصري.
ولكن في المقابل كما للجمهور حقوقا تجاه وسائل الاتصال السمعي البصري، فإنّ له واجب احترام الحرية وعدم تقييد الأعمال الإبداعية والنظر اليها من زوايا أخلاقوية أو دينية أو غيرها، اذ لا يمكن تقييم العمل الإبداعي والفنّي الاّ من منظار فني وابداعي.
منجي الخضراوي
تعليقك
Commentaires