الرقصة الجديدة لسهام بن سدرين
يصفها البعض بالمرأة الأكثر غموضا في البلاد التونسيّة بعد الثورة، وبالمرأة القويّة التي لا يمكن إدانتها بأيّ طريقة، كما أصبحت محلّ ترحيب من أغلب النّاس ومحطّ أنظار أكثر من وجهة سياسية، سهام بن سدرين الصحفية والناشطة الحقوقية التي تمّ انتخابها من قبل المجلس الوطني التّأسيسي الّتونسي، لتترأس هيئة الحقيقة والكرامة التي تمّ تأسيسها في 15 ديسمبر 2013، وتعتبر الهيئة رسمية ذات أولويّة في الدولة للوصول لأي وثيقة وأرشيف لجمع ملفّات الإنتهاكات والتجاوزات في حقّ المواطنين التونسيين وتحويلهم للقضاء، ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا وردّ الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية.
مسار العدالة الإنتقالية في تونس تمثله هيئة الحقيقة والكرامة وهي هيئة دستورية، وتهدف إلى البحث عن الحقيقة في ما يتعلق بعقود من الإنتهاكات الجسيمة للأنظمة الحاكمة قبل وبعد الإستقلال إلى ما بعد الثورة، وتوجّه مسار هذه الهيئة في الدّفاع عن الأشخاص الذين تعرضوا للظلم في تاريخ تونس وجبر الضرر لهم، من الأشخاص الّذين يمارسون السلطة في البرلمان و الإدارة و حتى رئاسة الجمهورية ذاته.
هذه الهيئة أثارت جدلا واسعا داخل وخارج البلاد، حيث كشفت في أكثر من مرّة ملفات فساد لجهات معيّنة أضرّت بمصلحة البلاد واتهمت جهات معيّنة بنهب ثروات تونس، حيث استمعت الهيئة خلال السنوات الأخيرة إلى عشرات آلاف الشهود في جلسات، بعضها علني والبعض الآخر سرّي، ضمّنت تقريرها الذّي نشرته يوم 26 مارس 2019، على موقعها الإلكتروني الّرسمي، التجاوزات والانتهاكات التي ارتكبتها الأنظمة السياسية منذ عام 1955 وحتى ما بعد الثورة التّونسية، وتحديداً لغاية نهاية عام 2013.
كما نظّمت الهيئة جلسات استماع علنية منذ سنة 2016، أعطت فيها الكلمة لضحايا نظام الحبيب بورقيبة لتقديم شهاداتهم للرأي العام، وكشف التقرير القضايا التي تلاحق الرئيس المخلوع الأسبق زين العابدين بن علي، المقيم في السعودية منذ سنة 2011، في قضايا تعذيب حتى الموت ضدّ معارضين سياسيين وحقوقيّين، وذلك استناداً لأدلّة وإثباتات جمعتها الهيئة.
كما لم يسلم الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي من تقرير سهام بن سدرين التي أقرّت بتحمّله المسؤولية في تجاوزات لحقوق الإنسان حين كان مديراً للأمن الوطني،عام 1965، ثم وزيراً للداخلية، عام 1967، خلال حكم بورقيبة، حين أكّد التقرير أنّ وزراء داخلية بورقيبة، بمن فيهم الباجي قائد السبسي، كانوا على علم بأنّ رؤسائهم قاموا بتجاوزات خطيرة، وبحسب الهيئة فإنّ ذلك يجعل مسؤوليتهم الجزائية قائمة في نظر القانون الجنائي الدولي على أساس ارتكابهم فعلاً سلبياً أدّى إلى حصول تلك الانتهاكات.
في هذا السياق لم تتأخر بن سدرين في مطالبة رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي في تقريرها، بضرورة التوجّه بعبارات الإعتذار من الشعب التونسي، بسبب مشاركته في التستّر على عمليّات التعذيب في عهد بن علي، وقالت له حرفيا حين إستقبلها بقصر قرطاج يوم 31 ديسمبر 2018، "أنت كرمز للدولة مطالب بالقانون بتقديم اعتذاراتك لضحايا الاستبداد على الانتهاكات التي وقعت على أيدي أجهزة الدولة".
واجهت هيئة الحقيقة والكرامة في شخصها بن سدرين الكثير من الإنتقادات بسبب إثارتها لملفات تخصّ أحزاب سياسية كبرى في البلاد وأحالتها إلى القضاء الذّي حكم في صالح هؤلاء، على غرار قياديين بحركة النهضة، وفي تصريحها للغارديان البريطانية، أفادت بن سدرين بتعرّضها لحملات تشويه إعلامية في شخصها وهي حملات ممنهجة واعتبرتها ردّة فعل طبيعية ضدّ شخصية حقوقية تسعى إلى كشف الحقيقة و تحدي منظومة "الحرس القديم"، حسب قولها.
لم يتوقّف عمل هيئة الحقيقة والكرامة فقط على كشف المظالم المتسبّبة فيها أطراف تونسيّة، بل إمتدّت دائرة تحقيقاتها إلى خارج حدود الوطن، تحديدا إلى الدولة الفرنسية، أين طالبت بن سدرين السلطات الفرنسية بتقديم الإعتذار إلى الدولة التونسية بسبب الجرائم والإغتيالات التي قامت بها في جويلية سنة 1956، حين قصفت الجنوب التونسي وقتلت المئات من المواطنين، بالإضافة إلى المجزرة التي إرتكبتها فرنسا في ولاية بنزرت، حيث أستشهد ما يقارب 5000 شخص، حسب تصريحات رئيسة الهيئة سهام بن سدرين لإذاعة فرنسيّة.
ودعت بن سدرين السلطات الفرنسيّة لتقديم تعويضات لتونس وفق مقاييس العدالة الإنتقالية، إذ قدّرت ثمن ضحية القتل بـ 200 ألف دينار و بعملية ضرب في 5000 شخص فإن التعويض سيكون في حدود 30 مليون أورو في قضية بنزرت، وأكّدت بن سدرين على أنّها سترسل مذكّرة للسلطات الفرنسية في هذا الشّأن، وسترسل ملفّا كاملا يتضمّن عدد الوفيات و جميع المعطيات والتفاصيل المتعلّقة بهم، كما عبّرت عن توقعاتها لإستجابة فرنسا لذلك، واعتبرت هذه المحاسبة خطوة ضرورية "لبناء مستقبل سلمي " بين تونس وفرنسا.
صرّحت سهام بن سدرين في جلّ حواراتها الإعلامية إنّ هيئة الحقيقة والكرامة قامت بواجبها وأتمّت المهام المنوطة بعهدتها حين انتهت أعمال الهيئة في 31 ديسمبر 2018، وسلّمت تقريرها الختامي إلى الرئاسات الثلاث (رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية والبرلمان)، وقدّمت بن سدرين بمقتضى الفصل 67 من قانون العدالة الإنتقالية، نسخة من التقرير يوم 28 فيفري 2019، إلى رئيس مجلس نواب الشعب، وأقرّت بن سدرين بتخاذل الدولة ومسؤوليها في السلطة في التعاون مع الهيئة بالقدر الكافي وهناك من سعى لعرقلة عمل الهيئة بوضع العقبات في طريقها، في حين واجهت بن سدرين انتقادات حادّة من الحكومة وأعضاء البرلمان وقوى سياسية ومدنية، الّذين وجّهوا لها الإتّهام بتحويل مسار العدالة الانتقالية للتشفي والافتراء والتشكيك في التاريخ الوطني للبلاد وقياداتها منذ الخمسينات، ولم يسمحوا بالتصويت على التمديد في عمل الهيئة لمدّة سنة بمقتضى الفصل 18 من القانون الأساسي المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها.
لم يكتمل مسار العدالة الإنتقاليّة لا بإرساء المحكمة الدستوريّة ولا حتى بالنظر في ملفّات ضحايا الإضطهاد السياسي، وتشهد تونس اليوم فراغ وحالة من التوتّر داخل صفوف التونسيين عن مستقبل البلاد في ظلّ تدهور الحالة الصحيّة لرئيس الجمهوريّة وعدم إرساء المحكمة الدستوريّة وإمكانية تأجيل الإنتخابات القادمة.
يسرى رياحى
تعليقك
Commentaires