الثورة يصنعها الحالمون، يموت فيها الشجعان و يستفيد منها الجبناء
مدّة القراءة : 5 دقيقة
في الذكرى الثامنة للثورة التونسية و سقوط نظام زين العابدين بن علي سيتجه كالعادة عدد من التونسيين إلى شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة للتعبير عن فرحهم بمكسب الحرية، بينما سيعبر آخرون عن سخطهم من تدهور الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية.
مرت 8 سنوات على ثورة حملت عند انطلاقتها أسماء وإن اختلفت معانيها فإنها تعكس تطلعات شعب بأكمله إلى مستقبل أفضل فهي ثورة "الياسمين" بالنسبة إلى البعض وهي ثورة "الحرية والكرامة" للبعض الآخر وهي "الربيع العربي" لدى شرائح ونخب اخرى . لكن الواقع كان أصعب من تلك الشعارات والإنتظارات والتطلعات، فإذا بتخوفات التونسيين إزاء الحاضر والمستقبل تتصاعد وتيرتها شيئا فشيئا وتنعكس هذه المخاوف في تحذير البعض من إمكانية التراجع عن المكاسب التي تحققت للبلاد إبان الثورة، كالديمقراطية وتنظيم إنتخابات تشريعية ورئاسية نزيهة وشفافة وغيرها من المكاسب.
انتهت الثورة بسقوط نظام بن علي و تسيير البلاد بحكومة انتقالية نظمت انتخابات المجلس الوطني التاسيسي يوم 23 اكتوبر 2018 و انتهت بتشكل الترويكا و هي ثلاث احزاب فازت بالانتخابات تقاسمت الرئاسات الثلاثة بالشكل الاتي :
حركة النهضة الفائزة في المرتبة الأولى (89 نائبا) تتولّى رئاسة الحكومة والمؤتمر من أجل الجمهوريّة بعدها (29 نائبا) له رئاسة الجمهوريّة والتكتّل من أجل العمل والحريّات ثالث الثلاثة (20 نائبا) نصيبه رئاسة المجلس التأسيسي لتنطلق الفترة الاكثر سوادا و دموية في تاريخ تونس.
استلم كلّ حزب نصيبه من الرئاسات، وتشكّلت حكومة مطعّمة ببعض الأعضاء المستقلّين في 24 ديسمبر 2011. والتزمت الأحزاب ثلاثتها بمدّة السّنة التي أقرّها الأمر الانتخابي، وبعد أن جرّبت الترويكا السلطة واصطدمت بصخرة الحكم بدأت آمالها واندفاعاتها تتحطّم. وسرعان ما انتهت مدّة السّنة والدستور لم يكتب والتنمية لم تتحقّق والبطالة استفحلت والديون تضاعفت وأنهك كاهل الدولة بالتعيينات على الهوى والهويّة والولاء وضاعت الكفاءات والحقوق والعدالة الانتقاليّة، وزاد على ذلك عاملان آخران منهِكان:
عامل أمني هو الإرهاب الطارئ الذي تساهلت معه حكومة الترويكا حتى لا نقول جاملته و قامت برعايته، وعامل اجتماعي هو العفو التشريعي العام الذي كانت من إجراءاته الباهظة التعويض المشطّ في غير أوانه والانتدابات الإخوانيّة في الوظيفة العموميّة.
وبلغ الحقد الشعبي على الترويكا ذروته بعد اغتيال الشهيد شكري بلعيد في 6 فيفري 2013. وزلزلت جنازته كيان الترويكا وأظهرت لها أنّ تونس لن تكون إلاّ كما تريد ولن تقبل الأجندات اللاوطنيّة المتآمرة ولن تسمح بأيّ نفس استبدادي مهما كانت خلفيّته. وكان اغتيال الشهيد محمد براهمي يوم 25 جويلية 2013 بمثابة الضربة القاسمة التي زعزعت عرش الترويكا لاسيما بعد ثبوت التقصير في حماية الشهيد براهمي. وتوجّهت أصابع الاتّهام مباشرة إلى حركة النهضة أحد رؤوس الترويكا بدعم الإرهاب.
انتهى حكم الترويكا اثر تشكيل الرباعي الراعي للحوار المتكون من الاتحاد العام التونسي للشغل و الاتحاد التونسي للصناعة و التجارة و الصناعات التقليدية و الهيئة الوطنية للمحامين و الرابطة التونسية لحقوق الانسان، الذين تدخلوا لإنقاذ عملية الانتقال الديمقراطي في البلاد من مصاعب كبيرة واجهتها آنذاك، و هي انقسام شعبي وأيديولوجي عميق ينذر بانزلاق البلاد إلى دوامة عنف قد تعصف بالتجربة الديمقراطية، و رعت سنة 2013 حوارا سياسيا وطنيا بين الحكومة الانتقالية و أحزاب المعارضة انتهى برحيل الترويكا و صياغة دستور يكرس الحقوق و الحريات سنة 2014 و هو ما يعد انقلابا على المسودة الاولى للدستور التي كانت تكتسي خطورة كبيرة على النمط المجتمعي التونسي بفضل نضالات قطاع الصحافة المتمسك بحرية التعبير بالاضافة الى المجتمع المدني و القوى التقدمية و الحداثية.
لم تنته الصعوبات بعد الانتخابات التشريعية و الرئاسية سنة 2014 و التي فاز فيها نداء تونس و تحالف اثرها مع حركة النهضة، بعد فشل الحكومات المتعاقبة في الاستجابة لمطالب الشعب في التشغيل والتنمية والعدالة، فمنذ اندلاع الثورة لم تحقق البلاد نموا اقتصاديا قويا، إذ لم يتجاوز في أحسن أحواله 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة ضعيفة بكل المقاييس، إذ لم تتمكّن من تحقيق التنمية ولا امتصاص جزء من البطالة العالية البالغة 15.5%. بينما لم يلعب القطاع الخاص دورا كبيرا في خلق فرص التشغيل والتنمية ولا سيما في الجهات المحرومة، كما تم غلق الباب أمام الانتداب في الوظيفة العمومية لارتفاع كتلة الأجور الجاثمة على جزء كبير من موازنة الدولة المرتكزة على الاقتراض.
وقد لجأت تونس للاستدانة من صندوق النقد الدولي، ولكن تلك القروض لم توظّف في الاستثمار أو دفع التنمية، وإنما في الاستهلاك ليشهد المناخ الاجتماعي توترا شديدا واحتقانا كبيرا بعد ارتفاع الأسعار خلال الأشهر الفائتة بسبب تراجع سعر صرف الدينار التونسي أمام العملات الأجنبية الذي نتج عنه تطور هام للتضخم المستورد وارتفاع كبير لأسعار المواد المستوردة. كما ساهمت سياسة الرفع التدريجي للدعم، خاصة في مجال الطاقة، في ارتفاع الأسعار في عديد القطاعات ومن ضمنها قطاع النقل الذي تأثر كثيرا بهذا الارتفاع.
كما لعبت مسالك التوزيع وتواجد عديد شبكات المضاربة والاحتكار دورا في تأجيج لهيب الأسعار وارتفاعها بشكل لافت. وقد كان ارتفاع الأسعار بدوره وراء عديد التحركات الاجتماعية الاحتجاجية مع استفحال الأزمة الاجتماعية الخانقة، وهي أزمة تمر بها تونس منذ سنوات ما بعد الثورة، ساهمت في خلق الكثير من الإحباط وتراجع الأمل في قدرة الحكومات على تغيير الواقع الاجتماعي والسياسي و سيطر الاقتصاد الموازي و ظاهرة التهريب على الاقتصاد بالاضافة الى فشل منوال التنمية الحالي الذي يعتمد أساسا على المناولة في القطاع الصناعي لفائدة الشركات الأجنبية التي أصبحت في حاجة إلى اللجوء للانتصاب في البلدان النامية لتعزيز قدراتها التنافسية عبر التمتع بالامتيازات الجبائية والأجور المتدنية التي توفرها هذه البلدان خاصة في القطاعات ذات القيمة المضافة المتدنية نظرا لأنها تقوم بآخر حلقة للإنتاج داخل هذه البلدان عبر استعمال يد عاملة وافرة العدد وغير مؤهلة علميا و الذي اعتبره عديد المختصين انتحارا اقتصاديا لأنه لا يمكن أن يؤدي إلى تنمية حقيقية بقدر ما يمثل مجرد حل مؤقت للتقليص من نسبة البطالة داخل هذه البلدان ويجعلها في نفس الوقت رهينة مواطن شغل غير مستديمة، مما ساهم في تفاقم الوضعية الهشة للجهات المحرومة التي نصص الدستور على تمييزها اجابيا و اصبح اغلب شبابها يعاني من فقدان الامل مما عزز ظاهرة الهجرة غير الشرعية و الانتحار حرقا.
و امام الصعوبات الاجتماعية تمسك الاتحاد العام التونسي للشغل بالدخول في إضراب عام يوم 17 جانفي الحالي للمطالبة بزيادة رواتب الموظفين بعد تنفيذه اضرابا عاما في قطاع الوظيفة العمومية يوم 22 نوفمبر 2018 لاول مرة في تاريخ تونس.
بالاضافة الى الصعوبات الاقتصادية و الاجتماعية خيم على المشهد السياسي حالة من التجاذبات و الصدامات بعد الخصام المعلن بين رأسي السلطة التنفيذية، رئيس الدولة الباجي قايد السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي وجد الدعم من حركة النهضة الإسلامية التي تمسكت بالاستقرار الحكومي و رفضت سحب الثقة من الشاهد في البرلمان استجابة لرغبة السبسي، الذي لم يجد الأخير حرجا في إعلان القطيعة معها وإنهاء التوافق الذي حكم اثره حزبه نداء تونس وحركة النهضة البلاد منذ انتخابات 2014.
وكادت البلاد أن تدخل في أزمة سياسية خانقة مع تضييق رئيس الدولة الخناق على يوسف الشاهد ودعوته صراحة للاستقالة و الذهاب الى البرلمان لنيل الثقة ، لكن تعديلا وزاريا موسعا أجراه الشاهد ونال به ثقة البرلمان أعاد نوعا من الاستقرار الملغوم و الهش إلى البلاد.
ورغم هذه المصاعب، ما زال كثيرون يعلقون الامال على نجاح التجربة التونسية، فعديد التونسيين يعتبرون أن ثورتهم لا تقدر بثمن، بعد أن غاب الخوف واندثر التوجس، وصار الجميع يعبّر عن رأيه كيفما شاء وفي أي مكان كان وتجاه أي شخص مهما علا شأنه أو منصبه، و اصبحت صحافتهم حرة وتعبر أغلبها عن أحلامهم، خاصة عند مقارنة تونس بما يحدث في البلدان العربية التي لا يملك فيها الإنسان لا حرية و لا كرامة وطنية.
وقد تم تكريس مبدأ التداول السلمي على السلطة، حيث تداولت تسعة حكومات على الحكم، منها اربعة حكومات بعد انتخابات 2014. كما أنجزت تونس أول انتخابات بلدية يعلق عليها التونسيون آمالهم لتحسين شؤونهم المحلية في ماي 2018.
لكن تبقى هناك تحديات سياسية مهمة، لعل أبرزها انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، وتجديد انتخاب أعضاء هيئة الانتخابات ورئيسها من أجل تمكينها من الاستعداد الجيد لإدارة الانتخابات في 2019، بالاضافة الى الهاجس الأمني و هو من أبرز التحديات التي تواجهها البلاد رغم انتقال الوحدات العسكرية و الامنية في حربها على الارهاب من حالة الدفاع و القيام بعديد النجاحات و العمليات الاستباقية، لكن الجماعات الارهابية مازالت تتربص بالبلاد واستمر تسجيل اعتداءات إرهابية وصلت الى قلب العاصمة و السطو على الفروع البنكية و استهداف الرعاة و المواطنين.
الثورة التونسية كانت ثورة الشعب ولم تكن ثورة حزب ولا زعيم، ولذلك فسيحفظها الناس وسيمنعون سرقتها من أي كان، لان ثورتهم صنعها الحالمون و مات فيها الشجعان و استفادة منها عديد الجبناء الذين كانوا يتمتعون بحياة البذخ و الرفاهية في البلدان الاجنبية.
أحمد زرقي
تعليقك
Commentaires