التونسيات وأجساد الشاطئ .. انتبه.. أشغال!
في الطريقِ السريعةِ الى تونيزيا مال- Tunisia mall، البُحيرة، سوقُ الرخامِ والزجاجِ والآش- ومائة ألف، أعلمتْ إحدى الاذاعات أنّ درجاتِ الحرارة المرتقبة لنهايةِ الأسبوع 22/23 جوان ستكون ملائمة للسباحة. ارتيادُ الشاطئ، الرياضة الصيفية المفضلة لدى التونسيين لمجابهةِ حرارة المنطقة المتوسطيّة، رياضةٌ تعلن بداية الميركاتُو الموسمي لعرض وشراء مستلزماتِ السباحة، لجمهور النساء. (هل رأيتم يوما اشهارا لمنتج ازالة شعر أو وقاية من الشمس أو رداء بحر موجّه للرجال؟ طبعا لا.)
مركّب تجاري حديث العهد، افتتح أبوابه في 2016 يؤم محلات وماركاتٍ عالميّة، استبدلتْ بسرعةٍ أقمصة الصوفِ والمعاطف الدّافئة بالأثواب القصيرة والأقمشةٍ الزاهية وأُلبستْ العارضاتِ البلاستيكياتْ النحيفات اللاتي لا تُصَنّـعن الّا بمقياس 36-s (مقاس صغير) بدلاتِ السباحة، ووُضعن على الواجهة. المشهدُ ينقسمُ بين العارضات الملتزمات مرتدياتٍ "البوركيني" وهو لباس سباحة للنساء المتحجبات، عموما يأتي في ألوان غامقة لا تثير الإنتباه، يتألفُ من ثلاث قطع؛ سروال وقميص طويل وغطاء للرأس. تستقيمُ العارضة البلاسيكيّة على يمين الواجهة، بينما على يسارها تقبعُ العارضة التقدميّة. يتراوح ثمن البوركيني من 65 الى 150 دينارا تونسيا، أما "البيكيني"، فيترواح ثمن الماركات العالمية من 180الى 250 دينارا رغم أن اللباس الأول يحمل قماشا أكثر وبالتالي يجب أن تكون قيمته التصنيعية أعلى، أما الماركات الصغيرة أوالمحلات الكبرى التونسية، فتتراوح أسعار القطع فيها بين 60 و80 دينارا. الرؤوس البلاستيكيّة السافرة التي تلبس " المايُوه" او "البيكيني" أكثر عددا، وتنوعا على مستوى الألوانِ والأشكال والماركات والأقمشة.
بدايةُ الماراثون: إختيار ملابس السباحة
يوم على الشاطئء، بالنسبة للنساء وجرّاء عقود من اندماج الثقافة الإستهلاكيّة والثقافة الذكوريّة التي تطلب منا ان نكون مثاليات- هو يوم يعددن لهُ طويلاً.. تحديدُ اللباس المناسب يتجاوزُ السعر المرتفع لقطعتي قماشٍ تبرزان أكثر مما تستران. أيّ لباس يلائمُ شكل أجسادهّن؟ سعي الماركات العالمية لتنميط صورة جسد المرأة جعل المُصنعّين يصممون الألبسة وفق جسدٍ قياسي نحيف وطويل، دون مراعاةٍ لإنحناءاتِ الأجساد الإفريقية- والمتوسطيّة. الخطوة الأولى هي رحلة البحث عن تصميم مناسب لا يظهر عيوب الجسد (لا سمح الله)، لا يظهر الوزن الزائد أو ندبة وِلادة، أو جرحا قديمًا. آلةُ الرقابة المجتمعيّة لا تسمح للجسد الأنثوي أن يحتفي بعيوبه التي تدل أنه حيّ، لأن العيوب الجسدية في الثقافة التونسية (والعربية عموما) هي دلالة على القُبح. قد تدومُ رحلة البحث أياما، في المحلات أو عبر الانترنت، قد تلجأ بعضهن الى "الفريب" ، والأغرب، أن الهوس بالمثالية قد يدفع البعض الى خياطة لباس سباحةٍ على المقاس. بعد أن تحصلن على ضالتّهن، ينتقل الأمرُ الى تنسيق رداء فوقيّ (cache maillot) يناسب لون "البيكيني". لأن إملاءات الموضة تقول هكذا، من غير اللاّئق للسيدات أن تجلسن على الشاطئ دون رداء فوقّي، مما يدر أموالا اضافية على المصنّع الذي سيختلق أسبابا جديدة في كل مرة لإضافة " قطعة" ضروريّة. الأنستغرام، ذاك العالم الملّون الكاذب، أضاف إملاءات جديدة بثورة تقودها المؤثرات، من الضروري أن تكون لكِ "سيدتي" حقيبة شاطئ متناسقة مع لباسك، خفان متناسقين مع لباسك، نظارة ومِظلة متناسقان مع لباسك.. هذا بالنسبة للنساء والفتيات اللّات يسمح لهن محيطهن الاجتماعي بإرتداء البيكيني. أمّا المتحجبات، وبعد صدور قرار من النزل في 2018 يمنعهن من السباحة بالبوركيني، فلا بديل لهن سوى الشاطئ. من تلبسُ "الجبة" سيقال عنها أنها متخلفة، ومن تلبس البوركيني كذلك، هؤلاء فئة تواجهن قمعًا مجتمعيا افتك منهن حرية أجسادهن، وما إن تخرجن الى الشارع يتم وصمهن "بالرجعية" حتى من قبل أشد الناس تقدمية وقبولا للأخر. قرون من محاولات السيطرة على أجساد النساء، اما لتغطية العورات والفتن، أو لسلعنتهن من أجل إرضاء الذكورية السامة، أنتجت هذا الميركاتو الذي يفرض اكراهات على الجسد الأنثوي من أجل أن يتوافق مع النمط السائد. الصيف.. أو محاولات للسيطرة على أجساء النساء.
انتبه.. أشغال!
لا يمكن للجسد الطبيعي للنسوة أن يظهر طبيعيّا حسب إملاءات المجتمع. لابد له أن يمر بأشغال شاقة حتّى يلائم "البكيني" الزّاهي. مئات المنتجات لإزالة الشعر تقتحمُ الأسواق كل سنة، بأسعار مرتفعة، حتى شفرة الحلاقة العادّية ان كانت ذات لون وردي سيتضاعفُ ثمنها ثلاثة مرّات. تلجأُ بعضهّن الى الأساليب التقليديّة "حلاوة السكّر"، طريقة مؤلمة لكن فعّالة ومتداولة لدى التونسيات. تعد الجلسة الواحدة لإزالة الشعر بـ 50 دينارا في أحد المحلات بجهةِ حيّ النصر، أما في المحلات الفخمة فتتحاوز الـ100 دينار، بالطرق التقليدية. أما موضة هذا الصيف، فهي إزالة الشعر بالليزر لدى طبيب مختص، ثمن الجلسة 70 دينارًا، وتتراوح مدة المعالجة بين 3 الى 5 حصص. أما ان اخترن ازالة الشعر في المنزل، فميزانية العملية ومستلزماتها تعد في متوسّط 20 دينارا. ولعلّ إزالة الشعر أسهل خطوة، لأن الجسد المترهل والوزن الزائد غير مرحب بهما على شواطئنا. " من أجل جسد صيفيّ" هكذا تطلق قاعات الرياضة على تمارينها المكثفة التي تسبقُ فترة الصيف، وبالفعل يرتفعُ عدد مرتدات هذه القاعات من أجل اصلاح متم افساده طيلة الشتاء وفي شهر رمضان. قد تضطر بعضهن الى اتباع حمية غذائية صارمة، دون مراجعة طبيب، في سبيل "الجمال" الذي تحدد معاييره حسب أجساد العارضات في المجلات والإشهار. كم تجعلن الأمر يبدو سهلا! كم تبدون سعيدات!
شحنات إضافيّة
ماذا عن الوجه؟ هل يعقل أن يكون الوجهُ في معزل عن الميركاتو! على رفوف الصيدليات، ومحلات مواد التجميل، تقبع مئات المنتجات التي تحمي الوجه من شمس الشاطئ، يتراوح ثمن الواقِي العادي من 30 الى 45 دينارا، والمجموعة (pack) يصل ثمنها الى 150 دينارا. فيما يبدو الأمر عاديا وصحيّا، الا أن المفاجأة هي أن الأمر لا يقف عند حدود الوقاية. تضع عدة ماركات على ذمة حريفاتها مكياجا مضادا للماء! والغريب أن الأمر يلقى رواجا لدى التونسيات. يكفي أن تقوم الماركة بتسويقالمنتج على انستغرام ليلق نجاحا فوريا. يتراوح ثمن الماسكارا (waterproof) بين 15 و80 دينارا. علاوة على منتجات الوجه، نجد أيضا كريمات اليد، والجسد، وزيوت تضمن السمرة البرازيليّة، وأخرى تمنعهـا وتحافظ على البياض المقدّس، لأن السمرة في موروثنا الفكري مرتبطة بالقُبح كذلك، والأسود لون مكروه، يدل على الشؤم وسوء الطالع. بالإضافة الى املاءات المجتمع، نجد إملاءات العرف والتقاليد التي تشدد على ضرورة أن تكون البنتُ الجميلة "بيضاء"، لذلك تصر النسوة على الاختباء من شمس والذوبان في الظلال والالتصاق بالجدران، حتّى تتفاخرن لاحقا ببياضهن في زواجِ أحد الجارات. منظومة كاملة من المعايير المعطوبة، جعلت رحلة الذهاب الى الشاطئ عملية استراتجية معقدة تتطلب تجهيزا بدنيا ونفسيا..
ايتيكات الشاطئ، كوني جميلة واهدئي..
هل هي حُرّة بعد مامرت به من جهدٍ؟ طبعا لا. ترتفع معدلات التحرش على الشواطئ سنويا متجاوزة- كاسرة سقفها العادي. مبررات التحرش الجنسي في الأيام العادية هي الاستفزاز الانثوي الصارخ، اللوم دائما على لباس النياء ومشيتهن.. ووجودهن. مع نسماتٍ من التحرر وألبسة خفيفة، تتضاعف الأعين المنحرفة ليتنوع المحفلُ المقرف بين لفظاتٍ جنسية نابية ومحاولات تقرّب واعتراض سبيل، وقد يصل الأمر الى محاولات الاعتداء خاصة على مجموعات الفتيات "الفريسات" اللات تقررن زيارة الشاطئ دون وصاية ذكر يحميهّن من المنحرفين. لذلك من ايتيكات الشاطئ ألا تذهب فتيات بمفردهن حتى ولو كنّ راشدات. "عيب" و"خطر". السلوك التالي هو أن تجلس بهدوء. ماذا تعني القهقهاتُ واللعب والخفة؟ أنها سائبة وغير رصينة. إن كانت متزوجة عليها أن تعتني بأبناءها وزوجها، الطعام، لعب الأطفال وغيره. وان كانت عازبة فيتضاعف الضغط، لأن أي سلوك غير مقبول يعني أنها لا تصلح لتكون "زوجة صالحة". قد يذهب الظن أن الجزء المتحرر من المجتمع التونسي لا يتبنى هذه المعايير البالية، لكن العائلات المتحررة تتبنى كذلك نفس الأسلوب المُحافظ مع استبدال " زوجة صالحة" بـ"بنت عائلة" أو "حرّة".. الحرية أن تجلس بهدوء. أن لا تعيش تحت الشمس وفي ضوء النهار.
كلفة باهضة تدفعها النساء من أجل يوم إسترخاء على الشاطئء، ماديّا ومعنويا، قد تكون لفظة "اضطهاد" مبالغا فيها أو خارجة على السياق، لكن الإملاءات وسلب الخيارات الشخصيّة وفرض معايير جمال هو فعلًا ضربٌ من الاضطهاد، مسكوت عنه لأنه لا يقارن بمشاهد الاضطهاد الحقيقة التي تعيشها نسوة عهد مجلة الأحوال الشخصية، ومنهن - هناك بعيدا- من لم تزر البحر يوما..
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires