الحكومة في واد و الرئيس في واد

" نُريد أفعال تترجم الأقوال " هذا ما جاء على لسان الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، في نقد موجه الى رئيس الجمهورية قيس سعيد و حكومة نجلاء بودن في اشارة لتَخالُف  الأقوال و الأفعال بين رئاسة الجمهورية و رئاسة الحكومة و لعل  تناقض " أقوال" قيس سعيد، التي تترجم في بلاغات رئاسة الجمهورية ،  و " أفعال " الحكومة بقيادة رئيستها نجلاء بودن ، تتجسد في ثلاثة مستويات ( الزيادة في الأسعار ، المؤسسات العمومية ، الدعم ) .

 التناقض في أعلى هرم الدولة بدأ بالبروز منذ الاتفاق الأولي مع صندوق النقد الدولي و عصارة حزمة الإصلاحات التي توجهت بها حكومة بودن للحصول على عطف الصندوق و مدها بقرض  بقيمة بحوالي 1,9 مليار دولار أمريكي لدعم السياسات الاقتصادية في تونس و التي كان من بينها  زيادة العدالة الضريبية ، العمل على تنفيذ خطة شاملة لإصلاح المؤسسات العمومية ، بدءا بإصدار قانون جديد لتنظيم هذه المؤسسات، الإلغاء التدريجي للدعم المعمم على الأسعار الذي يساهم في إهدار الموارد .

 الإتفاق الأولي مع صندوق النقد الدولي كان مرفوقا بتصريح مديرة صندوق النقد الدولي كريستينا جورجيفا   في لقاء خاص مع قناة سكاي نيوز عربية  يوم 23 أكتوبر 2022 ، التي أبدت أنهم كانوا يتطلعون إلى ان تعمل تونس على خوصصة بعض المؤسسات لكن المبادرة جاءت من الجانب التونسي، حيث أبدى رغبته في خوصصة بعض المؤسسات العمومية ، معتبرة  " هذا إنجاز مستحق بامتياز للحكومة التونسية".

 من جهته الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي ، يوم 31 أكتوبر 2022، كشف أنّ الحكومة التونسية قد تعهدت لصندوق النقد الدولي بالتفويت في بنك الاسكان والوكالة الوطنية للتبغ والوقيد " القمرق" وعدد من الأرصفة بميناء رادس.

 رد  الحكومة على تصريح نور الدين الطبوبي كان سريعا ، ردٌ جعل الحكومة  تتناقض مع نفسها ، و على لسان وزيرة المالية سهام نمصية  في حوار بث على قناة التاسعة  بينت أنّه ليس هناك أيّ قرار يتعلّق بالتفويت في المؤسّسات العمومية على غرار بنك الإسكان وشركة التبغ والوقيد في  الوثيقة النهائية للاتّفاق المبرم بين الحكومة التونسية وصندوق النقد، مشيرة إلى وجود خطط وبرامج تتعلّق بإعادة هيكلة هذه المؤسّسات وإصلاحها.

المؤسسات العمومية و ان  كانت مرفوقة بعديد المصطلحات التي تستعملها الحكومة في تعاطيها مع الملف " كاصلاحها" و" اعادة هيكلتها " فان تصريح مديرة صندوق النقد الدولي بيّن أنه و إن اختلفت المصطلحات فإن الهدف واحد ألا و هو الخوصصة .

 في مُضادّة مع ما بدر من الوفد الحكومي في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي  ، رئيس الجمهورية قيس سعيد و عقب تصريح مديرة صندوق النقد الدولي ،  يشدد في لقائه ببودن أنه لا مجال للمس من المؤسسات العمومية و لا مجال للتفويت فيها " لن يكون هناك تفريط ، كما يدعي البعض، في المؤسسات و المنشات العمومية "

محور عدم المساس بالمؤسسات العمومية التجأ اليه الرئيس في عدة لقاءات مع بعض الوزراء كوزير الشؤون الإجتماعية مالك الزاهي و عاد للتنصيص عليه يوم أمس الخميس 1 ديسمبر 2022  في لقائه مع رئيسة الحكومة نجلاء بودن  مجددا  تمسّكه بالدور الاجتماعي للدولة و أنه لا مجال للتفريط في المؤسسات والمنشآت العمومية بل يجب تطهيرها والقضاء على الأسباب التي أدّت إلى الوضع الذي آلت إليه معظمها.

في هذا السياق شدد الخبير الإقتصادي الحبيب كراولي في تصريح اعلامي اننا بصدد الحديث عن 104 مؤسسة في مختلف القطاعات و يجب انتهاج توجه منطقي و عقلاني كدراسة وضعية المؤسسات العمومية حالة بحالة و تقنيا لا جود لأي مؤسسة قابلة لعملية  الخوصصة أو التفويت  بل يجب ان تكون مصحوبة بإعادة هيكلة التي ستكون على عاتق الدولة .

اللقاء الأخير بين الرئيس و رئيسة حكومته نجلاء بودن ، أبرز تباعُد الرؤى بينهما أيضا في علاقة بدراسة الأسعار حيث نص بلاغ رئاسة الجمهورية على " ضرورة العمل المستمر للتخفيض في الأسعار لأن من يسعى إلى الترفيع فيها أو إلى تغييب بعض المواد له مآرب تتعارض مع المطالب المشروعة للشعب التونسي في الشغل والحرية والكرامة الوطنية ".

 قول رئيس الجمهورية  بأن "من يسعى إلى الترفيع في الأسعار له مآرب تتعارض مع المطالب المشروعة للشعب التونسي " سبق أن تُرجم قبل دقائق من  اللقاء من  قبل  الحكومة حيث أقرت وزارة النقل بزيادة مشطة  في تعريفة النقل العمومي غير المنتظم ، الزيادات التي شملت تَعريفة التاكسي الفردي و السياحي ، النقل الريفي و أيضا نقل العملة الفلاحين .

الترفيع في أسعار تعريفة النقل العمومي غير المنتظم سبقهُ الترفيع في  سعر المحروقات تحديدا بتاريخ 23 نوفمبر 2022 ،  أين أقرت الحكومة  الزيادة الخامسة في سعر المحروقات في سنة واحدة .

تتالي الزيادات في المحروقات لم يكن من عَدَم بل يتَنزل في اطار استراتيجية الحكومة في رفع الدعم نهائيا عن المحروقات بحلول سنة 2026 .

منظومة الدعم التي كانت من بين المحاور التي تم التطرق اليها في برنامج الإصلاحات المقدّم الى صندوق النقد الدولي "التوجه في الإلغاء التدريجي للدعم المعمم على الأسعار و إجراء  تعديلات دورية في الأسعار المحلية لربطها بالأسعار الدولية" ، وفق ما نشر في الموقع الرسمي لصندوق النقد الدولي .

مرة أخرى الرئيس خلافا لما تقدمه الحكومة في علاقة بمنظومة الدعم خلال مفاوضتها مع صندوق النقد الدولي و ما تترجمه قراراتها  يبيّن حرفيا كما ورد في نص بلاغ رئاسة الجمهورية يوم أمس  أنه " في إطار ممارسة دورها في تحقيق العدالة الاجتماعية، لن تتخلى عن دعم المواد الأساسية كما يُشاع "

"الدولة لن تتخلى عن دعم المواد الأساسية و لكنها ستوجه الدعم لمستحقيه "، هذا التصريح المتأتي من الحكومة لم يبين من سيكون المنتفع من منظومة الدعم و ماهي المعايير التي حددتها الحكومة لتوجيه الدعم ، تساؤولات أشار إليها الأمين العام للإتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي ، مبينا أن الحكومة بصدد التحيل على الشعب التونسي بدون أن تجيب على الأسئلة الحارقة التي يطرحها المواطنين في ظل التضخم و ارتفاع الأسعار قائلا " الدعم تم رفعه و ذلك يتبين من خلال الزيادات في الطاقة التي ستنعكس على أسعار المواد الأساسية  "  .

 لعل الدور الذي يلعبه رئيس الجمهورية و  رئيسة حكومته في تضاد الأفعال مع الأقوال  يكشف أن  الدولة  تعمد من خلال  خلق المفارقة بين  "الرئيس المعبر عن ما يريده الشعب " و "الحكومة المعبرة عن  ما يريده الصندوق  " لخلق مُوزانة  السلم الاجتماعي  و ارضاء صندوق النقد الدولي  .

نهى المانسي