تونس دولة الغاب - حين يغيب الأمن ويحضر الإجرام
لن أتحدّث اليوم في مقالي عن السياسيين وصراعهم في الإنتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة، بل هناك ما هو أهمّ منهم ومن مصالحهم وبرامجهم الإنتخابيّة، اليوم نستفيق على جريمة هزّت الرّأي العام، جريمة مسّت كلّ التونسيين والتّونسيات، جريمة قتل راح ضحّيتها شاب في مقتبل العمر، 18 سنة، شاب مقبل على الحياة بكلّ حبّ ونشاط وهو فاعل في المجتمع المدني، قيس الصفراوي رحمه الله وصبّر أهله.
من هو قيس الصفراوي؟
الضحية هو شاب يبلغ من العمر 18 سنة، أصيل منطقة بني معقل بجربة ويقطن بمدينة سكرة، وهو تلميذ متفوق كان سيدرس هذه السنة في الباكالوريا وهو مؤسس نادي ''ليو كلوب صلامبو''، كما أنه ينتمي للمنتخب الوطني للفروسية، وناشط في المجتمع المدني.
تفاصيل الجريمة
للضحيّة صديقة اتّصلت به وأعلمته أنّها ما زالت تتعرّض لمضايقات من طرف صديقها السّابق، فقرّر الراحل قيس الصفراوي الإتّصال بهذا الأخير وتنبيهه بالإبتعاد عن الفتاة، واتّفق صديق الفتاة والضحيّة بأن يلتقيا في منطقة العوينة، يوم الثلاثاء 27 أوت 2019، ومع حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل أخذ الضحيّة أخاه مهدي الصفراوي وصديق الفتاة أخذ معه أربعة من رفاقه وأثناء لقائهم في أحد المقاهي بجهة العوينة، اشتدّ النقاش بينهم وخرجوا من المقهى واحتدم الصراع بينهم وراء فضاء تجاري كبير بالجهة، في هذه الأثناء قام أحد رفاق صديق الفتاة بطعن الضحيّة قيس الصفراوي وأرداه قتيلا على عين المكان وطعن أخاه مهدي الصفراوي، 22 سنة، وهو في الإنعاش بمستشفى المنجي سليم بالمرسى، ولاذوا بالفرار وتمكّنت وحدات الحرس الوطني من إلقاء القبض عليهم.
توضيحات مسؤولين في وزارة الداخليّة
نفى الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية خالد الحيوني ما تداوله نشطاء موقع التواصل الإجتماعي ''الفايسبوك''، أنّ الحادثة هي براكاج وأفاد أنّها قضية قتل عمد مع سابقيّة القصد، حسب تكييف قاضي التحقيق بالمكتب 17 لدى المحكمة الإبتدائيّة بتونس، التي راح ضحيّتها الشاب قيس الصفراوي في عمر 18 سنة ، وتضرّر منها شقيقه والذي عمره 22 سنة، كما أكّد أن الوحدات الأمنية التي تعهّدت بهذا الموضوع من طرف النيابة العموميّة، قامت بالتعمّق في البحث والتحريات وتم القبض على الجاني وحجز أداة الجريمة، واعترف هذا الأخير بما نُسب إليه، وجاء على لسانه أنّ خلافا جدّ بين أحد أصدقائه وبين الضحيّة في الليلة الفاصلة بين 27 و28 أوت 2019، وبتدخّله من أجل الدفاع عن صديقه قام بالإعتداء على الضحيّة وقتله وفي نفس الوقت أصاب شقيق الضحيّة، وأوضح أنّه تمّ الإحتفاظ بشخصين متهميْن في القضية وإنّ الإجراءات القانونية ستطبّق عليهما.
كما دعا الكاتب العام للنقابة العامة لموظفي الأمن العمومي، عماد بن علي، المواطنين التونسيين إلى ضرورة الحذر مفيدا أنّ المخاطر القادمة كثيرة، وتعليقا منه على جريمة القتل العمد التي أصبحت قضيّة كلّ التونسيين ومحور كلام كلّ الناس عبّر قائلا ''الله غالب''، وأوضح اليوم في حوار لجوهرة أف أم، أنّ الوحدات الأمنيّة بجهة قرطاج تمكّنت من القبض على المتهم الرّئيسي، في حين تمّ إلقاء القبض على الشبّان الآخرين في اليوم الموالي لليلة الجريمة بجهة حلق الواد، وتتراوح أعمارهم بين 19 و20 سنة واعترفوا بجرمهم، هنا ندّد عماد بن علي بالوضع الخطير الذّي أصبحت تعيشه تونس بعد سنة 2011، حيث أنّ الوحدات الأمنيّة أصبحت أيضا مهدّدة أثناء أداء واجبها مذكّرا بزميله الذّي توفي أثناء قيامه بواجبه بطعنة أحد المجرمين، وأوضح أنّ الإقبال المفرط للشباب على إستعمال المواد المخدّرة له دور كبير في تنامي الجريمة والبراكاجات، وهذه الظاهرة أصبحت خطرا على المواطن العادي وعلى الأمنيين أيضا.
موقف الجمعية الدولية للدفاع عن حقوق الانسان والاعلام
اعتبرت الجمعية الدولية للدفاع عن حقوق الانسان و الاعلام، أنّ ما حصل للضحيّة الشاب قيس الصفراوي هي واقعة أليمة خلّفت حالة من الحسرة والقهر لدى الشعب التونسي و خاصة أهل وجيران وأصدقاء الضحيّة، وعبّرت عن استنكارها لهذا العمل الإجرامي الذّي وصفته بـ ''الجبان''، وندّدت بهذه السلوكيات العنيفة و الخطرة والتي تندرج تحت قائمة العنف و الكراهية والتطرف وفرض قانون الغاب، ووجّهت الجمعيّة نداء عاجل إلى وزير الداخلية ووزير العدل للتدخّل العاجل و السريع وتسخير كافّة الإمكانيات لحفظ النظام العام و إعطاء الإذن بتكثيف الدوريات الأمنية بكامل تراب الجمهورية وخاصة بالأماكن التي تشهد نسب مرتفعة في جريمة البراكاجات، والأماكن التي يكثر فيها الاعتداء على المواطنين والسرقة والسطو تحت التهديد ورفع السلاح الأبيض، كما اعتبرت الجمعيّة أنّ سلب المارة وتكوين عصابات منظّمة في الغرض و بيع المخدرات و الزطلة والخمر خلسة وكل أنواع المسكرات من أدوية و عقاقير و غيرها من المواد، تعتبر سببا رئيسيا في الجريمة و التشجيع في الإقدام عليها، وشدّدت الجمعيّة على ضرورة إيقاف هذا النزيف الحاد و الذي يضرّ بالنسيج المجتمعي و يؤثر على السلامة العامة للأشخاص والأرواح والممتلكات ويعتبر من عوامل تدهور وتأخر المجتمع وفعلا سلبيا يضرب في عمق منوال التنمية والأمن وعنصرا سلبيا في الدفع نحو ضرب السّلم الأهلي ومزيد من تردي الأوضاع عامة، وطالبت الجمعيّة كلّ من وزارة الداخلية ووزارة العدل بتوفير السبل الكفيلة واللازمة للقضاء على الجريمة ومكافحتها بشتى الوسائل والطرق، كما يجب على مجلس الأمن أن يأخذ بعين الاعتبار هذه المسألة و إعطائها الأولوية القصوى لضمان سلامة المواطنين والقضاء على كل سياسات الترهيب المنتهجة من قبل المنحرفين أينما كانوا.
ردود أفعال بعض السياسيين
عبّر النائب في البرلمان عماد الدايمي عن أسفه لوفاة الشاب قيس الصفراوي وكتب ''خليط من مشاعر الأسى والحسرة والصدمة والغضب اليوم في الجنازة المهيبة التي تمت في مقبرة سيدي فرج بسكرة للشاب قيس بن منير الصفراوي أصيل منطقة بني معقل بجربة الذي توفي إثر عملية براكاج وحشية بمنطقة العوينة يوم أمس''، وأفاد الدايمي في تدوينته على حسابه الشخصي بالفايسبوك أنّ الوقت قد حان ليتمّ التعامل مع ظاهرة البراكاجات والعنف بأقصى درجات الردع، ضمن سياسة وطنية متعددة الجوانب، الجنائية والثقافية والإعلامية والتربوية والدينية، واعتبر أنّ المجتمع التونسي يدفع اليوم ثمن سنوات التجهيل والتسطيح الفكري والمعرفي والإبعاد القسري عن الهوية وضرب التدين، قائلا ''مجتمعنا يدفع ثمن مسلسلات العار التي تمجد الباندية والعنف والعهر وسوء الأخلاق، مجتمعنا يدفع ثمن سياسات تخطط لها بدهاء دوائر الإفساد والاستعمار الحضاري الخارجية وتنفّذها بغباء أيادي محلية من أجل أهداف سياسوية مصلحية قصيرة المدى''.
في نفس السياق، كتبت الباحثة في فلسفة الأخلاق و السياسة نرجس التركي عن حادثة القتل الغادرة التي تعرض لها الشاب قيس الصفراوي،حملة طبق القانون، واعتبرت أنّ هذا الشاب في عمر الزهور فارق الحياة على إثر طعنة غادرة، وندّدت بظاهرة البراكاج التي باتت منتشرة في مجتمعنا، الجريمة، السرقة والقتل في الطريق العام، وقالت ''ألا يستفزك هذا الأمر حين تعلم بأن المخدرات صارت تتعاطى كالشاي والقهوة؟ بماذا نفسر هذا الانحطاط الأخلاقي، بماذا نفسر موت الضمير فينا؟ هل لانعدام الأمن ؟ ام انعدام الأخلاق ؟ الأمن لا يعني فقط بوليس، لأننا سئمنا "دولة البوليس" التي جثمت على قلوبنا عقودا، فحين تجلس ترى العيون عليك تعد أنفاسك في كل مكان أو لعله يخيل لك من فرط الدعاية الكاذبة بأنّك مراقب حتى في غرف النوم، و كأنك مجرم في طور التكوين و كأنك قراءة استباقية للإجرام... نحن مواطنون بل نحن إنسان... الأمن هو أمن الأخلاق التي لا تحفظ مع الجوع، مع الإهانة مع الفراغ... الجريمة تأخذ قيس و قبله عمر و بعده من يدري ؟ إلى أين نحن ذاهبون؟''.
ردود أفعال نشطاء مواقع التواصل الإجتماعي ''الفايسبوك''
معظم روّاد موقع التواصل الإجتماعي ''الفايسبوك''، ردّدوا هذه العبارة في تدويناتهم ''عايشين في غابة''، وفعلا أضمّ صوتي لصوتهم، نعيش في غابة وبهمجيّة مطلقة لتجد القوّي بسلاحه يقتل الضعيف ويلوذ بالفرار وحتى أنّ إيقافه لم يعد يجدي نفعا بعد فقدان روح بشريّة وترك لوعة وحسرة في قلوب عائلة تلك الضحيّة، كما اعتقد البعض أيضا أنّ عمليّة القتل ناتجة عن تعاطي المجرمين لحبوب مخدّرة.
وجاء في تدوينة أحد النشطاء على الفايسبوك ''منطقة العوينة بها مكان واضح يجتمع فيه المدمنين والمروّجين للمخدّرات أمام أعين الجميع، وتقام عمليات البيع و الشراء بشارع الطيب المهيري بزاوية نهج نابل وأمام الجامع بين ''نصب الخضارة'' خاصة في المساء، والبيع جهار أمام الجميع''، كما كتب البعض الآخر ''دعوة إلى الجميع، إلى حضور جنازة الشاب المغدور قيس الصفراوي الذي إغتالته أيادي الغدر و المارقين عن القانون بالأمس في منطقة العوينة .. فلتكن رسالة للدولة و المجتمع ككل للوقوف في وجه المنحرفين... و لتطبيق القانون و إحلال الأمن .. وإعادة الأخلاق والقيم إلى مجتمعنا..لكلّ من يقدم نفسه للرئاسيّة.. الأمن ومحاربة المارقين عن القانون أولويتنا القصوى''، ''مخدرات بجميع أنواعها بين الشباب و توزّع شماتة في الشعب المنكوب إضافة الى انعدام الأمن المتعمد .. إلى متى سيتواصل هذا الاستهتار بالقانون؟ إلى متى ستتواصل عربدة هؤلاء المنحرفين دون حسيب ولا رقيب؟ ضحاياهم أصبحت يومية، إذا لم يقع سن قوانين زجرية توقف هذا النزيف فإن القادم سيكون أصعب''.
وهذه تدوينة لأحدهم مشيرا إلى سيستام الغاب أيضا، ''عايشين في غابة ولا شنوا ! قيس الصفراوي يموت بطعنات بسكين من مجرمة في براكاج ، هاذم عباد ولا حيوانات عايشين معانا .. كل يوم يلزم فما مصيبة و كل يوم تفيق على جريمة و كل يوم يلزم يموت حد sinon موش باش يرتاحو.. هاذي تونس 2019''، أيضا توجّه البعض باللوم على السياسيين قائلا ''الاجرام يحكم شوارع العاصمة و السياسيين لاهين في الإنتخابات ... بربي ذكروني باسم وزير الداخلية عندو مدة ما بانش''.
ارتفاع منسوب الجريمة في تونس بعد الثورة بالأرقام
في أواخر شهر نوفمبر 2018، على هامش ندوة تحت عنوان ''حول الجريمة في تونس''، قال مدير المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية، ناجي جلّول، ''الجريمة في تونس إرهاب يومي''، وأفاد أنّ سنة 2018، سجّلت زيادة بـ 21 بالمائة في نسبة الإعتداء على الجسم البشري، وحوالي 39 بالمائة في الإعتداء على الطفولة والأسرة، و29 بالمائة في جرائم المُخدّرات، وأوضح أنّ ظاهرة انتشار الجريمة شهدت تطوّرا كبيرا بين سنة 2017 و2018 ومن المحتمل أن تبلغ عدد القضايا نهاية سنة 2018، 200 ألف قضيّة، وصرّح أنّ ظاهرة الجريمة متفشّية في صفوف الشباب حيث أنّ 73 بالمائة من الأشخاص المُتهمين في مختلف القضايا هم دون سنّ 18 سنة، وأنّ مليون شاب تونسي هم خارج كافة المنظومات التعليمية والتكوينية.
فعلا إلى أين نحن ذاهبون؟ هذه تونس بعد ثورة الربيع العربي، تونس 2019، هذا هو الشباب الواعي والمثقّف والناجح، نعم هذه نتيجة السياسات والحكومات المتعثّرة والفاشلة التي أودت ببلادنا إلى الهاوية في مختلف المجالات، عن أيّ أمن نتحدّث والتونسي أصبح مهدّد في كلّ مكان وزمان بالإعتداء عليه لفظيا وماديا وجنسيا وجسديا وقتله والمرور بسلام، والكلّ يعلم اليوم أنّ التونسي أصبح أيضا يخاف التدخّل لإنقاذ أحدهم من براكاج خوفا على حرمته الجسديّة، وهذا من حقّه، لقد تفاقمت السرقة والبراكاجات والعنف في الشارع التونسي وفي كلّ مكان، وأصبحت تونس تعيش حالة من الإستنفار على كلّ المستويات، تسعة سنوات لم تكفي السياسيين والبرلمانيين في تنظيم هذه الرقعة الجغرافيّة المنكوبة، تسعة سنوات لم يتمكّنوا هؤلاء من إرساء منظومة أمن وأمان واستقرار ترتقي بالبلاد وتحمي التونسيين، وتجدهم اليوم في السباق للمناصب يتسارعون ويتخاصمون على كرسي ملك الغابة.
جريمة قتل الشاب قيس الصفراوي ليست الجريمة الأولى التي هزّت الرّأي العام في تونس، فالجريمة بعد الثورة أصبحت متفشيّة في المجتمع التونسي بكثرة، وهي دليل على فشل السياسات المتتالية، فهل يمكن للفائزين في إنتخابات 2019، أن يكونوا قادرين على إنقاذ تونس في السنوات القادمة.
يسرى رياحي
تعليقك
Commentaires