تونس وادارة الأزمات: زمنُ المعلومة السريعة والفعل البطيء..
منذ أسابيع والفضاء العام يختنق كراهية وعنفا وأخبارا سريعة عن الموت. مزاج عام سوداويّ يخيم على البلد الذي يبدو –من الخارج- يوتوبيا مشتهاة لدول الجوار التي تعيش معارك عشناها سابقا بتعامل حذر : أزمات، كالتعامل مع الاضرابات والاحتجاجات (لبنان، العراق، الجزائر) والتعامل مع الخطر الارهابي(مصر، سوريا، ليبيا..).
مسائل كهذه، كانت خُبزنا اليومي منذ 9 سنوات التمسنا فيها طريقنا لاستراتجية وطنية في ادارة الأزمة، دون أن نستخلص قواعدا واضحة تقينا شرّ الفاجعة القادمة. وبينما نجحت تونس في ادارة الأزمات الأمنية بفضل مؤسستي الأمن والجيش الرائدتين، فان الأزمات ذات الطابع الاجتماعي/الاقتصادي تبقى رهينة "تكليف لجنة"، "فتح تحقيق"، "تكوين فريق مختص" وغيرها من العبارات الجاهزة على ألسنة الوُزراء والجهات الرسمية.
من فاجعة الرضع في مارس المنقضي، الى فاجعة وفاة عاملات فلاحيات بعد انقلاب شاحنة كانت تقلهن في شهر أفريل الى اخر حادثة مأساوية أودت بحياة 27 شابا وشابة بعد انقلاب حافلة في منطقة عمدون، تشترك هذه الحوادث في انتقال سريع للخبر عبر الميديا الجديد/وسائل التواصل الاجتماعي التي تستبل الاعلام التقليدي الذي انتبه لهذه الأخبار فور رواجها على الانترنت. في هذه الأحداث المؤسفة تظهر "صحافة المواطنة" التي يتحول فيها المواطن العادي الى ناقل للخبر كونه الأقرب اليه، ويصبح ما ينشره من صور ومقاطع فيديو مادة اعلامية تحدث ردة الفعل الاعلامية الاحترافية. اشتركت هذه الحوادث كذلك في ثلاث مراحل تلتها : حالة ذهول/حزن لدى المواطنين العاديين، حالة تخبط وغياب لأي فعل اتصالي لدى المسؤولين/الجهات الرسمية، ثم "اصدار بيان" من وزراة الاشراف للترحم على الضحايا والاعلان عن فتح تحقيق. بين هذه المراحل، توجد مدة زمنية تتراوح بين ساعتين وثلاث ساعات (بين أول خبر عن الفاجعة وأول تفاعل رسمي). في هذا الوقت، تصبح منصات التواصل الاجتماعي مساحات خصبة للاشاعات والأخبار الزائفة والاستناجات البدائية التي تبعث مزيدا من الذعر وتوتّـر الوضع العام، مقابل غياب توضيحات رسمية حتى بمجرد النفي أو التاكيد. الأزمة هي حالة شك دائم، ولمواجهتها يجب تركيز حلول دائمة. قد تكون الأزمة في حيزها الزمني مؤقتة ووجيزة، لكن طابعها الفُجئي هو ما يقتضي أن تكون الدولة مستعدة في أي وقت، مُستبقة ويقضة، وأن تهيئ قبل كل شيء الأرضية اللازمة لعدم حدوث أزمة- على مستوى البنية التحتية والتجهيزات والمستشفيات والجاهزية الأمنية. لذلك هو مسار متكامل لمحاولة استباق الكارثة، قد لا يكون دائما ناجحا في التنبؤ بها لكن عليه –ضرورة- أن ينجح في احتوائها. التعامل مع الأزمة كقاعدة وليس كاستثناء ووضع استراتجية طويلة النفس، من مهام الوزارات المتدخلة بدرجة أولى والتي تمتلك لجانا لمجابهة "الكوارث" لكنها لا تفعل الا بعد حضور "الكارثة" مثل لجان وزارة الفلاحة ووزارة النقل التي لا نشهد انعاقدها الا بعد حصول الأزمة مثل ما حصل بعد تهاطل كميات هامة من الامطار في أكتوبر المنقضي. أزمة، ذهبت ضحيتها التلميذة مها القضقاضي.
في حالة التقلبات الجوية التي بدأت منذ مساء 27 اكتوبر وتواصلت لليلة كاملة أصدر خلالها معهد الرصد الجزي نشرات تحذيرية متواصلة، ثم تواصل الوضع الجوي المتردي لكامل صبيحة وظهر يوم 28 اكتوبر.. في الأثناء انعقد لجنة مجابهة الكوارث على الساعة الخامسة مساء وأصدرت وزارة التربية بيانا بانقطاع الدروس.. بعد انطلاق الدروس بأربع ساعات، حوالي الساعة منتصف النهار بعد عودة التلاميذ من الحصة الصباحية ليجدوا طرقات مغلقة ووضع جوي خطير. في حادثة اشاعة وفاة الباجي قائد السبسي التي تزامنت مع ضربات ارهابية متفرقة، تفاعل وزارة الداخلية والمكلفين بالاعلام كان في مستوى الانتظارات اذ لم يتطلب الاعلان والتوضيح سوى دقائق ، في المقابل تطلب الأمر 4 ساعات لاصدار بيان رسمي من مؤسسة الرئاسة لنفي اشاعة وفاة قائد السبسي. في فاجعة وفاة الرضع، كان أول رد فعل من الجهات الرسمية بيانا من وزارة الصحة تعلن فيه عن فتح تحقيق، حوالي الساعة 14 يوم 9 مارس، بينما حدثت الوفايات بين ليلتي 7 و8 مارس. الأمر سيان في حادثة انقلاب حافلة عمدون، اذ تأخر التفاعل الرسمي لساعات، ولم يتم اصدار قائمة رسمية للوفايات الا بعد تسلم الاهالي جثامين ابنائهم بعد اكثر من 20 ساعة، في الاثناء كان اهالي واصدقاء من كانوا ضمن الرحلة يبحثون عن اي تأكيد او نفي لوفاة أو نجاة على الفايسبوك عبر نشر صور معارفهم والاتصال بالمستشفيات الجهوية والذهاب للبحث على عين المكان، لم يتم اصدار قائمة باسماء الناجين او المتوفين او المستشفيات التي وجهوا اليها، لساعات غاب أي فعل اتصالي للجهات الرسمية المتدخلة كوزارة الصحة والتجهيز ومراكز التبرع بالدم.
أمام ضرورة ملحة لبعث وتفعيل استراتجية وطنية واضحة وطويلة المدى لادراة واستيعاب الأزمات، من المشروع عن نتساءل، أين يتموقع معهد الدراسات الاستراتجية في الصورة ؟ من مهام هذه المؤسسة الواقعة تحت تصرف رئاسة الجمهورية، أن تقوم بدراسات استراتجية حول الأسئلة الملحة في المشهدية الاجتماعية والاقتصادية والديبلوماسية التونسية لكنه لم يساهم منذ انشائه في 1993 في وضع استراتجية فعلية لادارة الأزمة وبقي هذا المجال حكرا على وزارات الاختصاص التي تتوفر على لجان مختصة في مجابهة الكوارث وخبراء في هذا المجال. قرر المعهد مؤخرا، تنظيم ندوة وطنية حول "إدارة الأزمات و إدارة الطوارئ " للخروج بمدونة اجراءات عصرية لاعتمادها في مجابهة الكوارث و الأزمات. بادرة طيبة لولا أنها جاءت متأخرة بـ 27 سنة. في هذا السياق وأمام موجة استياء، عين اليوم سامي بن جنات مديرا عاما جديدا للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية خلفا لناجي جلول. خلف هذا القرار تساؤلا عاما، حول علاقة الرجل بمجال الدراسات الاستراتجية، وهو مجال اكاديمي علمي، فيما ذهب البعض الى القول بأن ادراة الأزمات.. تبدأ بتعيين الرجل المناسب، في المكان المناسب !
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires