سيناريوهات الإنسحاب: منجي الرحوي، عبيد البريكي، حمة الهمامي- لمن الأولويـّـة ؟
14 جانفي كانت لحظةً يسارية/حداثية في تمظهراتها: المطالب، القيادات، الراديكالية. يومها خرجت المظاهرات من المقرات النقابية ومن الجامعات وهتفتْ بلُغة اليسار ولسانه ومطلبيته الإجتماعية والسياسية. ورغم ذلك، سقط اليسار من الحسابات الإنتخابية!
16نوفمبر 2014 كانَ من أيّـام الوِحدة التاريخية القليلة، في عُمر اليسار التونسي المُتعثّر. احتوتْ قبّة المنزه -التي لُوّثت منذ 2011 بالأغاني الجهادية ووعيظٍ عن ختانِ الصبايا وحُكمِ البناطيل الشرعي- آلافـًا من اليساريين ومِن مناصري إئتلاف الجبهةِ الشعبية، برمزية تشبهُ 14 جانفي كان الإجتماع الشعبي الأكبر لحمة الهمّامي، يومَ هتف اليسارُ "حمّة رئيس" ، بعضهم عن طواعية، وبعضهم مُكره على الدعمِ من منطلق التضامن الرفاقي، لكن مايتفق عليه الجميع أنّ لحظةً مفصلية كتلك، بأغنياتِ السجون والفلاحين والأممية، أعطت اليسار شُحنة أمل (ولو كان واهمًا) في الوصولِ الى السلطة، لتكون النتيجة 7 فاصل 8 بالمائة لحمّة ويمر للدور الثاني الباجي قائد السبسي ومنصف المرزوقي.
"حمّة، ولد الشعب" لم تكن مجرد حملةٍ في الزمن السائل، تموت بإنتهاء سببها؛ كانت تعبيرة جماعية عن الرغبة في بديلٍ عن ثنائية اليمينين، الديني والدستوري. في تمثلاتِ اليساريين كانت تلك الحملةُ دعما لا مشروطًا لفكرة، لا لمرشح، لحُلم، لا لإسم. ومنها، من فلتةِ الوحدة النادرة التي أذابت الإختلافات "الرّوسية" التي أُسقطت في السياق التونسي، عاد الأملُ في بعث حزب اليسار الكبير الذي سيجمع أطياف اليسار من قومييّهِ إلى ماركسيّيه، مرورا باليسار الإجتماعي الوسطي والأحزاب الصديقة، كالجمهوري مثلا. أغلبُ الظنّ، أن 16 نوفمبر 2014 لنْ يتكرر، وحماسُ/هبّة اليسار في تلك الفترة لشعار "حمّة رئيس" لن يتكرر. أغلب الظن، أن تبقى لحظةُ الوحدة نقيّـة في المخيال الجماعي حتى تستحيل لاحقًا رواياتٍ أو وثائقيا طويلاً، فيسارُ 2019 نزع عنـهُ وجه البديل الثوري، وقال كلمتهُ؛ "تخلصنا" من عقدة الأخ الأكبر (جورج أورويل- 1984).
في 2019 لكلّ 16 نوفمبر الخاصّ به، كـلٌّ يخطط لنسخِ ولصق اللحظة التاريخية ذاتها، وجــرّها الى واقع اليوم. اليوم انقسم "أولادُ الشعب'' الى 3 مترشحين : منجي الرحوي، عن الوطد، عبيد البريكي عن تونس إلى الأمام، و حمة الهمامي عن حزب العمال. (مفاجأة). بـقراءة عامة، النتيجة ستكون تشتت الأصوات (القليلة بطبعها)، وخسارة أخرى، حتى على مستوى الأطر التي يتحرك فيها اليسار.
"الأخْ" عبيد البريكي، اليسار الإجتماعي
في المشهديّـة العامة تموقع البريكي بدرجة أولى هو اليسار النقابي، الى حين إنضمامه الى الإتحاد الديمقراطي الإجتماعي الأقرب في مُجمل مكوناته إلى اليسار الإجتماعي الوسطي، الهادئْ. البريكي هو ممثّل الشريحة الأكبر من القيادات اليسارية. لِـم؟ لأن التركيبة للحزب اليساري تقول أن القيادات هم من الطبقة الوسطى، عادة من المثقفين، الكتاب، أساتذة تعليم ثانوي، موظفون بالقطاع العام.. أي الجيل الذي خلقته وراهنت عليه دولة الاستقلال. هذه الطبقة تأمل أن يحقق لها اليسار مطلبين : الإستقرار الإقتصادي كون الطبقة الوسطى تتآكل، والحريّـات المدنية. عبيد البريكي يراهن عبر ترشحه على رصيده في النضال الإجتماعي الذي اكتسبه في إتحاد الشغل، وعلى أصدقائه الجدد من حزبي المسار والجمهوري، وإئتلاف قادرون والديمقراطيين الإجتماعيين الذين يمثلون الوسط التقدمي الحداثي.
منجي الرحوي، الشاب اليساري الطموح ( 55سنة)
أصغرهم سنّا، أعلاهم صوتًا، أكثرهم رفضا. الرحوي هو مرشح اليسار الذي استغل المصعد الإجتماعي (الدراسة والعمل) للوصول إلى السلطة. هو ممثل اليسار المتعلّـم الذي أوصلته الجامعة العمومية إلى توصيف "النُخبة". منجي الرحوي هو التعبيرة النادرة عن اليساري الذي لا يريد أن يُسقط النظام.. بل يريد أن يشارك فيه، لا يلعن -من الربوة- الرأسمالية الجديدة، بل يحاول تقريب/دمج المقاربات الإقتصادية اليسارية في الواقع بنزعة إصلاحية. من جهة أخرى، الرحوي كونه من حزب الشهيد شكري بالعيد فهو تعبيرة أيضًا عن اليساريين (والمواطنين عموما) الذي تهمهم قضية إغتيال شكري. للرحوي دعامتان؛ الأولى كونـه بعيد عن راديكالية وزعامتية حمة الهمامي/ و" الثائر" عليه وهو ما قد يكسبه أصوات الشباب الذي عاش تجارب حزبية يسارية وسرعان ماغادرها بسبب غياب الديمقراطية على مستوى الهياكل وهيمنة إسم واحد. والدعامة الإنتخابية الثانية هي الفنانون والحقوقيون من اليسار المدني (جمعيات/منظمات).
حمة رئيس 2014 .. حمة رئيس 2019 .. حمة رئيس 2024
30 سنة أمينًا عاما لحزب العمال، حمة الهمامي هو الإسم النمطي الذي يقفز لأذهان البسطاء حين يسمعون كلمة "يسار". تموقع الهمامي في الصورة هو اليسار المُنتمي إلى سردية الإحتجاج الدائم. اليسار العمالي، الذي لا ينتمي للنقابيين من المنظمة الشغيلة بقدر ماينتمي لنفسه، اليسار الوفيّ للبيان الشيوعي لماركس وانجلز. هو مرشّح "الجبهة الشعبية" ظاهرا لكنه في الواقع مرشح ماتبقى منها من حلفاء. لم يتمكن الهمامي من القطع مع صورة الزعيم المُنفرة بل أكدها بترشحه مرة ثانية. حمـة إذن هو مرشح اليسار الغاضب والرافض، المُعارض دومًا، الراديكالي في برنامجه. ناخبو الهمامي المحتملون هم المحتجون مثله، الذين يرون فيه تعبيرةً عن الوفاء للمبادئ. حزب العمال ممثل في العديد من النقابات بدرجة أولى، الطلابية، الفلاحين، المحامون، الصحفييون، وخصوصا العاطلون عن العمل. دعامة الهمامي هو رصيده النضالي منذ زمن السريّـة، ورمزيته كمؤسس حزب العمال.
سيناريوهات الإنسحاب
خلال حصّة ساكن قرطاج التي تشارك فيها بيزنس نيوز أكد عبيد البريكي أن ترشحه للرئاسة ليس حتميّـا وأن فرضية الإنسحاب واردة لكنها مرتبطة بشرط: أن يتفق الهمامي والرحوي على مرشح واحد وينسحب أحدهما. وحتّى لا نسقط في "رُومانسية" الإقتراح علينا أولا تنزيله في سياقه. تصريح البريكي قد يكون تـحدّ للهمامي والرحوي وهو يعلم أنهما لن يتراجعا، وبالتالي يُحسب له أنه أبدى نية التوحيد دون أن يضطر للتنازل. وبالتالي لمع صورته وأبدى حسن نيّـتهِ وخدم صورته الانتخابية عبر اقتراح يعلم جيدا أنه لنْ يُقبل. وفي قراءة ثانية، قد يكون فعـلا ينوي الإنسحاب، في دعوة لتجميع الجهود بدل تشتيتها، مضيفـا دعم الإتحاد الديمقراطي الاجتماعي الى الطاولة. في حال انسحاب البريكي، يبقى السؤال هو من سينسحب لصالح من؟ منجي الرحوي، نائب الشعب منذ 2011 الذي يواصل عبر ترشحه استغلال المصعد الإجتماعي (موظف، نائب، رئيس) أم حمة الهمامي، الزعيم التاريخي لليسار الذي يريد خاتمة لمسيرته تليق بـها. إن انسحب الرحوي فسيكون حمة لمرة ثانية مرشح اليسار للرئاسية وسيضم خزان المرشحين الاثنين، لكن سنّـه، وعدم درايته بتسيير الدولة، هما النقطتان السلبيتان. إن انسحب الهمامي لصالح الرحوي (أمر مستبعد)، سيكون له رصيد محترم من الناخبين الذين جددوا ثقتهم فيه لدورتين نيابيتين، إضافة الى دعم اليسار العمالي واليسار الإجتماعي. لكن النقطة السلبية، هو أنه وجه جديد (نسبيا) على الجمهور الأوسع. نعود للتذكير بآلية اقترحتها بيزنس نيوز منذ مارس الفارط؛ مناظرة يتم فيها اختيار مرشح واحد عبر التصويت وتشريك القواعد. أمر بعيد المنالِ، لكنّـه ممكن التنفيذ! فقط لو يتخلّى البعضُ عن نرجسيّة السياسي وعناده، ويرى أبعد من تسجيل موقف في أفق ضيق، يرى إحتمال توحيد صفوف اليسـار في 16 نوفمبر حقيقيّ.. آخر.
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires