تونسيون أولا، ثم يهود.. تونسيون أولا، ثم مسلمون
ما الفرقُ بين الـكيباه* والعمامة؟ فكِلاهُـما يُعتمر فوق الرؤوس، وكلاهما أبيضْ، وكلاهُما طائفي. الفرقُ، أنّ حتى التقدمي فينا يتبنّى معايير مزدوجة. ارتباطُ الصورة النمطيّة عن الإسلام بالدمويّة والرجعية، جعلنا نتبنى منظومة هجوم ضدّ كل مايتأتى من العمائمِ، توقيّا وخشية، حتى كدنا ننسى أن المشكلة ليست الديّن، بل تمظهرات الدين، والذين نصبوا أنفسهم ناطقين رسميين بإسم الدين، ومشروعه المجتمعيّ الذي قد يهدد مدنية الدولة. الحذرُ كان مُبَررا في مرات كثيرة، لأن جغرافية البلد وتاريخه يقتضيان أن يكون الخطر قادما من التطرف الإسلاميّ، اذ أنه الأكثر حضورا. لكننا لم نتعلم أن الحذر، يجبُ أن يكون من التطرف الديني- أيا كان الدين.
التعاطف المطلق مع الأقليات، مهّد الطريق نحو التسامح/الرأفة مع أيّ خطأ لمجرد أن مرتكبه ينتمي لأقلية دينية أو عرقية ما. لأنه تعاطف مصطنع لايقوم على إيمان حقيقي بالتسامح والعيش المشترك، اللذان يقتضيان قبل كلّ شيء الايمان بالمواطنة والمساواة.
تزامنا مع نهاية موسم حج الغريبة، تم الاعلان عن افتتاح مدرسة يهودية للبنات في جزيرة جربة، بمساحة 1300 مترا مربع وطاقة استيعاب قدرها 120 فتاة من عمر العشرة الى السادسة عشر، من معتنِقات الديانة اليهودية في تونس. خبر بسيط في ظاهره، يحيلنا الى سماحة التعايش السلمي المشتهى، لكنه في باطنه يخفي معايير مزدوجة تسمح- تحتفي بوجود مدرسة تقوم على الأساس الديني وتكرس الفصل بين الجنسين ولا تعترف بالنظام التربوي المدني التونسي، وتعتبر أن مدرسة الرقاب محتشد ديني يهدد الدولة في ذات الوقت وحسب ذات المنطق.
والواقع أن كلاهما محتشد أصولي، قائم على المعتقد، الأول مخصص للبنات حصرا والثاني للأولاد حصرا وكل منهما بدعم من جمعيات دينية. هل تعاطفنا مع اخواننا اليهود يعطيهم حق أن يخيروا تعليما دينيا لأبنائهم، بينما القانون ينص أن التعليم الوطني في مدارس وطنية اجباري منذ سن السادسة. بعد بحث صغير، علمت بيزنس نيوز أن هذه المرسة ليست الأولى من نوعها. في أحد أزقة "الحارة الكبرى" بجزيرة جربة التونسية نجد مدرسة "رِبي شلوم حداد" أو "بيت الصلاة" كما يسميها اليهود ، التي تأسست قبل مئات السنين لتدريس أطفال اليهود تعاليم الديانة ومناهج الحياة. تضم تونس 6 مدارس شبيهة بمدرسة "ربي شلوم حداد"، منها 3 في جزيرة جربة. مبنى المدرسة يتوسط حي "الحارة الكبرى"، ويضم أقساما ومبيتا للفتيان فقط. ودعونا نذكر، أن المدرسة القرانية بالرقاب كذلك تضمنت مبيتا وهو من أكثر النقاط الجدلية التي جعلت المدرسة محل تحقيق.
المواقف الرسمية من الدولة، نفت أي مسؤولية لها في الحادثة، حيث نفى مُنجي نصر، المندوب الجهوي للتربية في ولاية مدنين أية علاقة للمدرسة اليهودية بوزارة التربية، مشيراً إلى أن هذه المدرسة هي أشبه بـكتاتيب درج يهود جربة على إرسال أولادهم إليها من أجل تلقين ثقافتهم لأبنائهم بالموازاة مع تعليمهم العادي أما وزير السياحة، روني الطرابلسي، فقد نفى كذلك مشاركته في تدشين المدرسة ، مشيراً إلى أن تشييدها هو "وصية لإمرأة يهودية" بسبب عادات تمنع الفتاة اليهودية من الاختلاط. كما أشار إلى أن المدرسة تقدم دروساً في مختلف العلوم وليست مختصة بالتعليم الديني، على حد قوله.
وبما أن المدرسة تدعو للفصل بين التلاميذ على اساس الجنس، جاءت أصوات النسويات رافضة حيث دعت الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، السلطات إلى تحمل مسؤولياتها واتخاذ الإجراءات اللازمة للدفاع والمحافظة على المدرسة العمومية والجمهورية والمختلطة وأضافت الجمعية في بلاغ لها إنها تلقت خبر افتتاح المدرسة المذكورة بمنتهى الصدمة، داعية كافة القوى الحية إلى التصدي للممارسات الانفصالية والتمييزية، مذكرة بأن اختلاط المدارس والفضاء العمومي ككل يمثل مكسبا جوهريا للتربية على قيم العيش المشترك واحترام الاختلاف والتسامح في كنف المساواة. كما اعتبرت أن المدرسة العمومية والجمهورية والمختلطة، تمثل وحدها حصن الأمان ضد كافة نزعات التشدّد والأصولية الدينية التي تنادي إليها أطراف مختلفة .
واعتبر نشطاء على مواقع التواصل أن وجود هذا النوع من المدارس ذات الطابع الديني يهدد مدنية الدولة، حيث دوّن الباحث يوسف الشاذلي معلقا "مدرسة الجمهورية التونسيّة يجب أن تكون مدرسة مدنيّة لكافة المواطنات والمواطنين تُؤسّس للديمقراطية والفكر النيّر، ولا يجب أن تُميّز بين المواطنين على أساس الدين أو الجنس. النظام التعليمي في تونس يجب أن يكون مُوحّداً على هذه الأسس الجامعة ولا يجب أن يكون هناك أي استثناء لا يهودي ولا مسلم ولا مسيحي ولا ملحد ولا غيره".
التعليم التونسي قام منذ تأسيس الدولة الوطنية على الاختلاط من أجل تربية الناشئة على المساواة والعيش المشترك والاحترام، وتعد تونس أول دول المنطقة في اقرار تعليم مدني حر من القيود الأصولية وفي جعل الأقسام ساحة مصغرة عن مجتمع الغد الذي لم يرد له محمود المسعدي أن يكون يوتوبيا دينية تقسم التونسيين على أساس العقيدة وتغرقهم في الطائفية المقيتة.
افتتاح المدرسة اليهودية للبنات التي لاقت اعجاب التقدميين من دعاة التسامح، تزامن مع دعوة رضوان مصمودي رئيس مركز الدراسات عن الإسلام والديمقراطية -القريب من حركة النهضة الإسلامية الى الفصل بين الجنسين في المدارس اذ صرح لإذاعة “كلمة" التونسية أن المدارس غير المختلطة هي “الأنجع من حيث النظام التربوي بحسب دراسة". دراسة .. دراسة ما، ذكرنا قول المصمودي بمنطق بعض الصفحات على الفايسبوك التي تتدعي أحيانا أن قراءة الجرائد تؤدي للوفاة المبكرة أو أن الزواج بثانية يطيل العمر.. حسب دراسة ما ..
ادعى مصمودي دون دليل، أن التلاميذ في المدارس غير المختلطة “أكثر تركيزاً لأنهم لا يولون اهتماماً بالجنس الآخر". استعمل المصمودي هذه الحجة دفاعا عن المدرسة القرانية بالرقاب ثم أسقطها على مدرسة الفتيات بجربة، حتى يبين أن كلاهما مسموح- ان كانت الدولة تسمح بمدرسة جربة فلم لا تسمح بالمدراس القرانية.
حجة المصمودي ورغم سفسطته المعهودة- ولدى الاسلاميين دون الحصر، الا أنها أيضا تضع الدولة في مأزق ازدواجية المعايير، فهل سيكون تعاملها مع مدرسة اليهود بجربة كمحتشد الرقاب، هل نرى لجنة تحقيق- دون نتائج، وهل تتدخل هيئة مكافحة الاتجار بالبشر، وهل نرى حكما قضائيا ثم هل يعتبر كل هذا تمييزا ضد اليهود أم تطبيقا للقانون؟
أحيانا، في دول أخرى، كونك أقليّة يمنحك بطاقة خضراء- مهما كان صنيعك لأنه يمكنه بسهولة استعمال حجة العنصرية ضدك وسيتعاطف معك الجميع. المساندة اللامشروطة للأقليات جعلت البعض عاطفيين الى درجة تنزيه الاقليات عن الخطأ. التسامح يستوجب أن تعترف أن الاخر المختلف عنك هو تونسي قبل أن يكون يهوديا، تونسي قبل أن يكون مسلما، تونسي قبل أن يكون ملحدا. يتمتع بمواطنته كاملة، والتي تقتضي وجوبا حقوقا، وحريات.. والأهم، احترام علوية الدولة والقانون. لو قلت أنّ صديقي الأسمر سرق. فهل تسمعُها، صديقي سرق وتطالب بتطبيق القانون، أم تتوقف عند "أسمر" وتتهمني بالعُنصريّة؟
(الكيباه* قبعة صغيرة يلبسها اليهود)
عبير قاسمي
تعليقك
Commentaires